قضايا وآراء

الحرب مقابل الثروات .. محفزات صياغة مبادئ التدخل القسري الامريكي

قبل ان تعبر اهتمامات امريكا المحيطين باتجاه العالم القديم مع بداية القرن العشرين، كانت قد خاضت على مدار قرن ونصف القرن 1775- 1914 منذ نشأتها الاولى خمس حروب اهلية واقليمية في عالمها الجديد.

ومنذ بدء القرن العشرين وحتى عدوانها على العراق 2003، خاضت اكثر من عشر حروب وتدخلات عسكرية مباشرة كلفتها اكثر من (734) الف قتيل، واكثر من (800) بليون دولار. هذا فضلا عن تدخلها ودورها غير المباشر في حروب العالم الثالث وصراعاته بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قتل (22) مليونا في حوالي (127) حرباً.

ان امريكا منذ ظهورها في عام 1776م انتهجت سياسات توسعية، وليس هذا بالامر المثير للدهشة على الاطلاق، فالثورة الامريكية اندلعت متزامنة مع حقبة من التاريخ الاوربي نشأ فيها نظام اقتصادي لاحق على تفسخ الاقطاعية من اجل تعزيز ثروة الدولة عن طريق التنظيم الحكومي الصارم لكامل الاقتصاد الوطني، وانتهاج سياسات تهدف الى تطوير الزراعة والصناعة وانشاء الاحتكارات التجارية الخارجية. بينما جرى تفسير هذه الثورة على انها انتفاضة ضد تطبيق سياسات الاستعمار البريطاني في المستعمرات الامريكية الشمالية. ومن بين هذه السياسات، محاولات البريطانيين تخصيص مناطق الحدود الغربية لتجارة الفراء، ولكن هذه المحاولات اصطدمت مع رغبة المستوطنين والمستغلين في المضاربات التجارية في اخضاع هذه المناطق لسيطرتهم ولذلك، كان من الطبيعي ان تدخل الدولة الامريكية الجديدة بعد رحيل البريطانيين في منافسة الاوربيين في سياساتهم التوسعية.

ويمكن التأكد من الطبيعة العدوانية للامريكان من خلال التوسع الاقليمي السريع نسبياً، ففي عام 1783 وهو العام الذي وقعت فيه بريطانيا معاهدة سلام مع امريكا، كانت مساحة الاراضي الخاضعة للدولة الجديدة في حدود (500,000) ميل مربع. وفي عام 1853 أي بعد 70 عاماً، اصبحت مساحة اراضي هذه الدولة تزيد عن ثلاثة ملايين ميل مربع. ولم يتوقف الامر عند هذا الحد فقط وانما تعداه الى ما هو ابعد منه بكثير. فبعد الاستيلاء على المناطق الوسطى في امريكا الشمالية، اتجه الامريكيون بعيونهم التوسعية نحو العالم الخارجي.

فبعد انتهاء الحرب الاهلية في عام 1865 بدأت تفكر بصورة جادة في التوسع الى مناطق خارجة عن نطاق وسط القارة. ففي عام 1867 استولت على جزر ميداوي في المحيط الهادي، واشترت الاسكا من السوفيات، ثم نشبت الحرب الاسبانية- الامريكية عام 1898، وبنتيجتها استولت امريكا على المناطق التالية: بورتوريكو والفلبين وغوام وهاوي والسامواه. وفي الاعوام التالية سيطرت على منطقة قناة بنما من خلال معاهدة مفروضة على بنما، كما اشترت جزر فيرجن من خلال الدنمارك في عام 1917، وأستأجرت جزر كورن من نيكارغوا لمدة 99 عاماً في عام 1914.

وبهذا التوسع الاقليمي اصبحت امريكا دولة كبرى في فترة زمنية قياسية. ولكن هذه الدولة لم تشأ ممارسة الهيمنة المباشرة في مناطق غرب الامريكيتين، كما فعلت الدول الامبريالية السابقة عليها. فهي لجأت الى تطبيق سياسة الهيمنة دون الرغبة في ضم المناطق الجديدة الى الدولة الاتحادية نفسها. وهذه السياسة يمكن التأكد منها من خلال كيفية معاملة امريكا للدولة الكوبية المجاورة. فبدلاً من ضم كوبا، منحت امريكا ذلك البلد استقلالاً رسمياً، ولكن مع الاحتفاظ بحق التدخل للمحافظة على الاستقلال الكوبي والابقاء على حكومة قادرة على حماية الارواح والممتلكات والحريات العامة والفردية. وفي عام 1903 استخدمت امريكا نفوذها في احتلال قاعدة بحرية كوبية في غوانتانامو، وما زالت تحتلها لحد الان.

هذه السياسة القائمة على استخدام القوة العسكرية الامريكية ليست نابعة من فراغ، فهي تستهدف فتح اسواق جديدة والحصول على مكاسب تجارية. ولكن بدلا من بناء –امبراطورية امبريالية- بمعناها التقليدي المتعارف عليه، لجأت الى تبني سياسة – الباب المفتوح- وبعد ذلك رأت التحول عن هذه السياسة الى سياسة دبلوماسية الدولارات، وهذه الاخيرة تستند الى مبدأ احلال الدولارات محل القوة المسلحة/ التدخل العسكري، التي بدأت باستخدامها بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة بعد ان رأت ان دبلوماسية الدولار عادت لا تجدي نفعا امام ارادة الشعوب المناهضة لسياساتها، ولا سيما بعد اكتشاف النفط.

على اثر ذلك، اصبح مبدأ التدخل العسكري الخارجي لامريكا جزء من استراتيجيتها الشاملة، حيث لعب دورا رئيسيا في الحروب والصراعات الدولية، ومع تفردها بالسيادة الدولية تزداد اهمية هذا المبدأ/ السلوك وضرورة وعي اطراف الصراعات المختلفة لابعاده ومحدداته.

وباستقراء تاريخ الحروب خلال القرن العشرين والدور الامريكي فيها عبر مكونات القوة الامريكية، نستطيع ان نحدد اهم سمات ومحددات مبدأ/ سلوك التدخل العسكري الخارجي لامريكا المتمثلة في:

1-      خدمة المصالح الامريكية وحمايتها: تبنى السياسة الخارجية لدول العالم حالياً على المصالح فقط. فالنزعة المصلحية هي التي تسّير العلاقات الدولية. وبالنسبة لامريكا، فان مصالحها تقسم الى ثلاث اقسام رئيسية هي: مصالح حيوية، مصالح حرجة، مصالح نائية.

فامريكا، مستعدة للدفاع عن مصالحها الحيوية بقوتها العسكرية المباشرة، الامر الذي يدخل من يحاول مقاومة الادارة الامريكية داخل هذا المجال في مواجهة عسكرية مباشرة مع اقوى قوة في العالم. وقد وضعت وزارة الدفاع الامريكية بعد حرب فيتنام خمسة شروط يجب توفرها قبل ان تتدخل عسكريا في أي صراع، وهذه الشروط، هي:

-        ينبغي ان يكون الصراع حيويا لمصالحها القومية او لحلفائها.

-        يجب الا تلجأ الى القوة الا كخيار أخير.

-        عندما تستخدم قواتها، فانه يجب ان تستخدمها بهدف واحد، وهو ان تكسب.

-        يجب ان تتدخل في صراعات تكون قادرة على كسبها.

-        ان يكون لديها تأكيد مسبق بتأييد الكونغرس ضماناً للنواحي القانونية الداخلية.

وفي المصالح التي لا تستدعي تدخلاً عسكرياً مباشراً – وهي المصالح الحرجة والنائية والمصالح الحيوية المستقرة- فيقتصر التدخل الامريكي على تقديم المساعدات العسكرية للاطراف المدافعة عن تلك المصالح اضافة الى عسكرة المساعدات الاقتصادية وتوجيهها بما يخدم المصالح الامريكية.

ان الاصطدام مع مصالح امريكا يعني المواجهة مع سلوكها العسكري الخارجي او مبدأ تدخلها، الذي يحكي هذه المصالح، وادراك تلك المصالح وديناميكيتها- أي قابليتها للتغيير- تعطي فرصة للابتعاد عن المواجهة او تأجيلها على الاقل، فضلا عن القدرة على التعامل مع هذه المصالح بل تغيرها كذلك لتحقيق اكبر قدر من المصالح/ المنافع.

2-      المجهود الحربي الضخم: افنى الامريكيون في كل حروبهم اكثر من مليون قتيل، وعلى الرغم من خسائرهم البشرية الكبيرة في حروبهم السابقة، فقد ضحوا بعدها بحوالي 605499 قتيلا ثم 68 الف قتيل في فيتنام، ورصدوا 50 الف قتيل لحربهم العدوانية ضد العراق في 1991، واكثر منه في عدوانهم الاخير عام 2003.

فمقولة ان الرأي العام الامريكي لا يتحمل الخسائر البشرية مقولة غير ابدية لسبب بسيط هو ان الرأي العام نفسه ظاهرة متغيرة الاتجاه، ويمكن التحكم في وجهتها من خلال ما يسمى بصناعة الراي العام. فضلا عن ان الرغبة في السيادة الدولية والانتصار بأي ثمن من الصفات الاساسية للشخصية القومية الامريكية.

فامريكا تنفق حوالي 30% من اجمالي انتاجها القومي على الدفاع، كما تقدم 15% منه كمساعدات عسكرية. فحساب المجهود الحربي الامريكي المتوقع في أي صراع حالي او مستقبلي، ينبغي ان يقوم على حسابات موضوعية لاجمالي القوة الامريكية بعناصرها المختلفة- الاقتصادية والجغرافية والصناعية والعسكرية والبشرية المتقدمة الهائلة – وحتى لا تؤدي هذه الحسابات الموضوعية الى اليأس والاستسلام للهيمنة الامريكية فلا بد من دراسة واعية للتجارب البشرية التي استطاعت مقاومة هذه القوة العظمى.

3-      الدمار الكثيف لقدرات الخصم: وهذا يشمل كافة القدرات – عسكرية، مدنية، اقتصادية، بشرية- باستخدام كافة الوسائل المحرمة دولياً – نووية، كيماوية، بيولوجية، تقليدية وغير تقليدية – ومن امثلة ذلك الدمار الكثيف: استخدام الاسلحة الذرية ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية، والقتل المباشر لحوالي 9 ملايين نسمة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى عدوان 2003 على العراق، وذلك في اكثر من عشر حروب وتدخلات عسكرية مباشرة قامت بها امريكا خارج حدودها. وتتضاعف ضحايا التدخل العسكري الامريكي الخارجي اذا ما اضفنا اليه ضحايا الدمار الامريكي عبر الوكلاء.

ان المبدأ الامريكي الخاص بالدمار والانتقام الكثيف في الوقت والزمان وبالوسائل التي تحددها امريكا، قد طبق منذ الحرب العالمية الثانية وحتى عدواناتها على العراق في 1991و 2003. وسيزداد العمل بهذا المبدأ في المستقبل اذا ما انفردت بالسيادة الدولية بالكامل.

4-      الارتباط التصاعدي مع درجة السيادة الدولية: ويعني به العلاقة الطردية بين استخدام امريكا لمجموع قوتها الذاتية كأداة سياسية قسرية لفرض ارادتها على الآخرين وبين حجم قوتها المؤثرة في الساحة الدولية.

ففي ظل الهيمنة المتفردة لامريكا وفي ظل اصرارها على تزعم ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ستكون امريكا القوة التنفيذية الاولى لهذا النظام الجديد، ما يعني تصاعد استخدامها لسلوكيات عسكرية لتحقيق هذا النظام، وسيكون الميدان الرئيسي لهذا القسر- القهر الاجباري- الخليج العربي حيث توجد معظم الثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط التي تمثل قمة مصالح الدول الرأسمالية الصناعية بقيادة امريكا.

5-      التحكم في النشاط الاقتصادي للمنافسين وتنشيط دورة الاقتصاد الامريكي: يمثل الاقتصاد مكوناً اساسياً داخل منظومة القوة الوطنية لاية دولة، وقد تضاعفت اهمية هذا المكون ودوره بعد العدوان على العراق عام 2003، لاسباب عديدة، اهمها: ان امن امريكا يعتمد على اقتصاد قوي، وهذا يعني ضمن ما يعنيه توجيه السلوك العسكري الامريكي الخارجي الى خدمة الاقتصاد الامريكي وتنشيط دورته عبر التجارة الخارجية والى التحكم في النشاط الاقتصادي للمنافسين.

وعلى هذا الاساس، اتبعت امريكا سياسة – الحرب مقابل الثروات- وعدم التورط في صراعات تستهلك الثروات. فعلى سبيل المثال لا الحصر- العدوانات الامريكية على العراق تعتبر نموذجا تطبيقيا للسلوك العسكري الامريكي الهادف الى تحقيق التحكم في النشاط الاقتصادي للمنافسين، وتنشيط عجلة الثروة للنظام الاقتصادي الامريكي، وهذا راجع للاهمية الاقتصادية للعراق و للخليج الى اختزانه حوالي 78% من الاحتياطي العالمي للنفط. فاذا كانت الحضارة الحديثة وصراعاتها تعتمد على الطاقة، فأن العراق و الخليج هو الكنز العالمي الاول لهذه الطاقة، ولذا فقد تحركت العسكرية الامريكية صوبه لتحقيق هدفين رئيسيين هما:

- التحكم في النشاط الاقتصادي للمنافسين.

- تنشيط عجلة الثروة الامريكية.

ان حضارة اليوم، هي حضارة نفطية في معظمها، فأن من يسيطر على النفط يسود هذه الحضارة، وهو ما يهم امريكا التي تسعى الى احادية السيادة الدولية، وهي تدرك اهمية السيطرة على الخليج النفطي نظراً لاعتمادها هي ومنافسيها اقتصاديا على الخليج. ولهذا وجهت امريكا سلوكها العسكري للتحكم في اقتصاد منافسيها عبر نوع من السيطرة على نفط الخليج وثرواته.

وعلى اساس ما تقدم... جاء استبدادها الدولي او ما يعرف في القاموس السياسي بـ(دكتاتورية الامم)، بمعنى فرض دولة ما او تحالف دولي معين ارادتها او ارادته على وحدات دولية اخرى بكافة الوسائل المتاحة بما يحقق اهداف ومصالح الطرف الاول بغض النظر عن مصالح الطرف الثاني والمباديء والقوانين الدولية السائدة.

والاستبداد الدولي تدور آلياته داخل دائرة العلاقات الدولية، وقد تنتج عن جملة محددات تتحكم الآن في العلاقات الدولية والبناء السياسي الدولي. فعلى صعيد السياسة الخارجية الامريكية، فانه على الرغم من ان امريكا تزعم انها راعية الديمقراطية في العالم وحامية حقوق الانسان والامن والسلام في العالم، فقد تميز سلوكها الخارجي كدولة تجاه بقية وحدات العالم بالاستبداد وسيطرة دكتاتوريتها المصلحية او النفعية.

فعلى المستوى الدولي وخلال احداث 1990- 1991 و 2003، انحصرت السلطة الدولية في يد امريكا في اتخاذ قرار الحرب او السلم وفي تشريع القرارات الدولية وفي توزيع الحصص المالية على ممولي الحرب وفي التحكم باقتصاديات الشعب العراقي بل وفي اطعامه وتجويعه بل وفي التوجهات الداخلية لحكومات الخليج وفي غيرها من الشؤون...

ويبدو الاستبداد الامريكي في عدواناته على العراق 1990- 1991 و 2003، واضحا على ثلاث مستويات هي:

1- استبدادية الاهداف: فقد اعلن بوش بعد بدء العدوان بساعتين، ان من اهداف العدوان سحق امكانات العراق في صنع اسلحة التدمير الشامل، وتدمير الجزء الاكبر من قوته العسكرية، حماية لأمن اسرائيل بتعديل ميزان القوة لصالحها وباقامة نظام امني ضمن محيطها الاقليمي.

2- ميكافيلية الوسائل: فقد سعت امريكا الى تحقيق اهدافها بكافة الوسائل، سواء كانت اخلاقية، او غير اخلاقية، مشروعة او غير مشروعة طبقا لمبدأ –لا اخلاق ولا استرحام في السياسة الدولية...

3- الاستبداد، الاستقرار، مستقبلاً: وذلك على الاقل بخصوص المستقبل القريب باعتبار ان امريكا المنتصر الوحيد في هذا الصراع الدولي نتيجة للفراغ الدولي الذي خلفه انزواء القوى الكبرى الاخرى.

ان العدوان- أي عدوان- هو اشد الجرائم قسوة التي ترتكبها الانسانية ضد نفسها. وقد اكد لنا التاريخ ذلك. كما ان أي مسلك آخر يقدم عليه الانسان لا يساوي الرعب الناتج عن الحروب. واذا اراد المجتمع منع الحروب العدوانية والسيطرة على مسببيها ومعالجة تبعاتها وتجنب عواقبها، فعليه ان يتخذ اجراءاته لتنفيذ القوانين المصممة لمثل هذه الاهداف، والى ان يصبح بالامكان اعتبار الاقوياء على قدم المساواة مع الضعفاء عندما يتعلق الامر بجرائم الحرب العدوانية، فان حكم القوة ستكون له اليد العليا، وسيبقى العالم كما قال الاثينيون "مكاناً يفعل فيه الاقوياء ما يريدون ويعاني فيه الضعفاء كما تجب عليهم المعاناة".

 

 

في المثقف اليوم