قضايا وآراء

موناليزا العراق

zouher sahebتعد الإبداعات الفنية التشكيلية على أرض الرافدين، مصدر إثارة دائمة للأجيال المعاصرة. ومَردّ ذلك يكمن فيما يراه الفكر المعاصر فيها، من بنيات شكلية، تتفق مع العديد من النزعات الفنية السائدة في عالم اليوم، وميول الذائقة المعاصرة بشكل عام.

وموناليزا العراق الخالدة، رائعة من روائع المتحف العراقي، تعود إلى عصر قبل الكتابة في تاريخها (5300) قبل الميلاد، وتتمثل بجسم من الفخار، على شكل جرة كروية الشكل ذات رقبة طويلة، تتميز بحس شاعري في انتظام شكلها، وخبرة مستندة إلى تراكم معرفي كبير في إخراج مظهرها الجمالي. وقد وظّف الفنان فضاء الرقبة الخارجي، كسطح تصويري لتمثيل (وجه) امرأة، وقد زاوج في بنائهِ بين النحت والرسم، في حين أستثمر بدن الجرة المنتفخ في تكوين جسد المرأة الولود.

وعلى الرغم من فقدان (الرائعة الفنية) لقسم كبير من تكوينها، فإنها تبدو أشد حياة من جسم المتأمل ذاتهِ، وذلك قد يؤدي بهِ إلى الخجل من خمولهِ، مع إحساس بالفخر بما حققته الروح الإنسانية على أرض الرافدين من إبداعات. كتلك (الرؤية) التي تميز تماثيل (مايكل أنجلو) المكتملة بسب عدم إنهائها، حين يجلي (الغبار) عن أشكال كائنة في كتل الرخام، كان يراها هو وحده.

ويكشف النسيج الفكري الكامن في بنية المشهد، عن تشخيصهِ كرمز فاعل في حركة الفكر الاجتماعي. ويمتد إلى مدلولات فكرية تنشد الخصب والتكاثر والتجدد والنماء في كل مظاهر الطبيعة. ذلك أن جسد (الأم الولود) كان يملئ بالسوائل في احتفالات الربيع، لتتخصّب (مغناطيسياً) بقوة التأنيث السرمدية، ومن ثم ترتشف بشكل جرعات من قبل النسوة، كعلاج سايكولوجي لمن لم يحققن (الحمل) والولادات الناجحة، فكان هذا (الأثر) الخالد، هو التصوير والشيء المصور في آن واحد، وهو الرغبة وتحققها في الوقت نفسهِ.

فقد أستطاع (الإنسان) على أرض الرافدين، أن يُحِلَّ طبيعتهِ الإنسانية محل طبيعتهِ الطبيعية. وفي (أنسنة) طبيعتهِ لم يواجه الوجود فرداً، بل واجهه جماعة، ولم يعي (ذاتهِ) إلا عن طريق وعيه بعلاقاتهِ الجمعية. فقد كان لهذا المنجز الإبداعي بنية أسطورية، ولم يكن لهذا (المنطق) الأسطوري أن يتحول إلى (فن) لو لم يكن مرتبطاً بحياة الجماعة وبنائها الاجتماعي. وهذه (الخصيصة) في الفنون الإبداعية الرافدينية، لم تجعلها مفارقة لعالمها الواقعي، بل جعلتها بمثابة (ارتقاء) من رؤية المألوف، إلى معنى من معاني (الرُؤيا).

ارتدت (عروس) العراق حجاباً للرأس، وثوباً فلاحياً زُين بمفردة تجريدية رمزية، لها قيمة فكرية مهمة في الفكر الحضاري الرافديني. فشكل المثلث الذي نظم بأنساق تزينيه للزي، يرتبط في مدلوله بفكرة تفعيّل تناسل الجنس البشري. وتظهر حيوية الصورة الذهنية الإبداعية للفنان، في تأشير علامات الوشم على الخدين، كمظهر جمالي ومعتقد اجتماعي لنيل حُسن الطالع بكل تفاصيلهِ. وقد أفرز نظام الحجاب خصلاً من الشعر أطّرت جانبي الوجه، وبدت بشكل نسق من الخطوط العمودية المتموجة وتمظهرت بحلية للأنف تعرف (بالخزّامة)، ومازالت مستخدمة في العراق حتى الآن.

قاد الفعل المُبدع لفنان أرض الرافدين، إلى تمثيل الأشكال كما ينبغي أن تكون عليه، واضعاً بذلك تجربتهِ الحسية تحت سيطرة ومراقبة عقله، ومن هنا كان التوجه في نظام الصورة، نحو المظاهر التجريدية، القائمة على التنظيم البنائي المتناغم في العلاقات الهندسية. فهو لم يرَ بعينيهِ ما في الطبيعة بل بفكره، ولم ينسخ الشكل كما هو في الواقع، بل أوّله نحو الجوهر. ومن هنا كان التحول في سمات الشكل من خصائصهِ الجزئية إلى بنيتهِ الكلية، ومن الفردية إلى الأعمام المطلق.

وهي آفاق تبدأ بتأكيد الوجود الإنساني، بواسطة الإنسان نفسه، وبتأكيد حقه في أيجاد حقيقة أخرى، خارج حدود الطبيعة، بل وتجاوزها اعتماداً على قوانين خلق أخرى، ومقاييس جمالية جديدة.

وإذا كانت موناليزا العراق، تدلل بنسيجها الفكري وسماتها الفنية على أصالة حضارة وادي الرافدين، بدلالة تواصلها في خصوصية الفكر العراقي حتى هذه اللحظة، بفعل وظيفتها الاجتماعية والأفكار المرتبطة بها، ونظم الأزياء وحلي الزينة التي تميز نظامها الشكلي. فإن مكانتها في الفكر الإنساني، تتمثل في كونها بمثابة لحن خالد ودعوة إلى التجدد والبقاء، بوصفها قيمة فكرية رمزية ترتبط بالفكر الاجتماعي الحضاري العالمي في جميع إرهاصاتهِ وإشكالاتهِ.

ولعل ذلك ما جعلها تعمل بفاعلية خارج أطرها التاريخية، محتفظة بمكانة أسمى من مكانة موناليزا (دافنشي)، التي لم يكن لها من وجود، سوى كونها حالة فردية في التشخيص والتعّيين، وإسقاطات سايكولوجية (دافنشية) في فلسفتها الكامنة خلف شفافية الشكل المرئي.

 

في المثقف اليوم