قضايا وآراء

الحركة القومية العربية في القرن العشرين

اذا كان مطلع القرن العشرين هو بداية تشكل وعينا العربي، وبعد هذا الزمن، ها هي احوالنا التي نعيشها اليوم لا تسر الا الاعداء، وما اكثرهم، وما اشد حقدهم علينا.

فيا ترى، أليس قرن من الزمان كافياً لتكون احوالنا افضل مما هي عليه اليوم، ولتزدهر الدعوة العربية وتتقدم، ونعيش في اوضاع أحسن؟ ام ان التركة الموروثة ثقيلة جداً، والسبات كان عميقاً؟ أم ان هناك قوى وعوامل حملت العداء كله لمسيرتنا النهضوية؟ أم ان اهدافنا وغايتنا هي اكبر كثيراً من قدراتنا وطاقاتنا الراهنة؟

المؤلف، هاني الهندي، وهو احد طلائع المناضلين والمفكرين العرب الذين كرسوا حياتهم، بل ووهبوها للعمل القومي العربي، يستعرض في كتابه الذي نحن بصدد مراجعته، تاريخ الحركة القومية العربية وتياراتها في اقطارنا العربية، والنهضة العربية منذ ايام محمد علي باشا في مصر الى يومنا هذا.. جمع بين دفتيه دراسة وافية وشاملة وتفصيلية لهذه الحركة، ورصد وتابع نشأتها وتطورها وحركتها ونضالها في سبيل التحرير والوحدة، وهو الذي اسهم في هذا النضال على امتداد الخمسين سنة الماضية.

رغب المؤلف قبل ان يدخل في تاريخ العمل القومي العربي ان يستعرض تجارب ثلاثة شعوب آسيوية في تحقيق تحررها من السيطرة الاجنبية، وفي اقامة دولتها القومية هي شعوب اليابان والصين والهند، لتبيان تطور الفكرة القومية وعلاقتها النوعية بحركة التحرر القومي للخلاص من المحاولات الاستعمارية التي راحت البلدان الاوروبية والولايات المتحدة تفرضها على بعض امم آسيا، وكيف نجحت هذه الامم في معركة الوحدة والحرية، وانقاذ نفسها من قوى الاستعمار المتسلط بطرق واساليب متنوعة رغم انها كانت مختلفة بل متباينة في برامج كفاحها لنيل حريتها واستقلالها القومي وتقدمها الحضاري. وهدف المؤلف من هذا الاستعراض، اتاحة المجال كي نستفيد من هذه التجارب، وهي تجارب مختلفة متباينة لكل منها خصوصيتها.

ففي اليابان، قامت الحركة القومية على اساس تحالف شعبي عريض ضم الاسرة المالكة وأكثرية النبلاء والرأسماليين والمثقفين ومختلف قطاعات الشعب، أي بتعاون حكم عقلاني نزيه شجاع مع شعب صبور متعاون وجاد. وقد توصل قادة اليابان الى سبب تخلفهم هو ضعف المهارة العلمية والفنية فاقتبسوا من الغرب ما توصل اليه من علم وتقنية، وأكدوا اهمية العمل والنجاح في الاداء والعمل كفريق. فبنت لنفسها مجتمعاً قومياً موحداً، ثم اندفعت خارج اراضيها لتسيطر على امم اخرى غيرها.

واعتمدت الصين الماركسية والكفاح المسلح المؤلف من جبهة وطنية عريضة من الفلاحين والعمال والمثقفين وقطاعات من البورجوازية الصغيرة، وخاضت حرباً اهلية طويلة لتنتزع حقها القومي في تأمين وحدتها وحريتها وبناء دولتها القومية الواحدة بقيادة الزعيم الكبير ماو تسي تونغ.

اما التجربة الهندية، فقد اختلفت عن كل من تجربة اليابان وتجربة الصين، فهذه التجربة انتهجت نهج الكفاح السلمي الطويل النفس والمقاطعة الاقتصادية بزعامة قادة مخلصون من امثال غاندي ونهرو، الذين تولوا تأسيس حزب المؤتمر الوطني الهندي الذي اقام جبهة وطنية عريضة من البورجوازية الوطنية  والنقابات العمالية والمهنيين ومجموعات واسعة من الليبراليين واليساريين، فحصلت على الحرية والاستقلال الوطني.

واذا كانت هذه الدراسة قد ابدت الاهتمام بنجاح ثلاث امم آسيوية في الانبعاث من سطوة الاستعمار وتحقيق وحدتها القومية كلياً او جزئياً الا ان التركيز الاوسع والاشمل كان منصباً على مسيرة التيار القومي في العديد من اقطار الوطن العربي الكبير وخاصة في سوريا والعراق موئل الفكرة القومية العربية ومصر.

واذا كانت بداية التحولات قد بدأت في بلاد الشام من الجانب الديني والطائفي الى المسيرة القومية في اواخر القرن التاسع عشر الا ان المسألة القومية قد تجذرت وتطورت بعد حملة التتريك التي مارسها زعماء جمعية الاتحاد والترقي المتعصبة ضد الشعوب الخاضعة للسيطرة العثمانية وخاصة ضد العرب الذين كانوا يفوقون الاتراك الحاكمين بالعدد والانتشار الجغرافي.

لكن الحقيقة تبقى ناقصة ان نحن لم نشر الى الدور الكبير الذي ادته مصر في تعريب مؤسساتها الفكرية والسياسية والاجتماعية. فقد قامت الحركات السياسية الرسمية والشعبية بتحديث اجهزة الدولة والسعي الى عصرنة المجتمع. وعليه فاذا كانت سوريا والعراق قد احتضنت الفكرة القومية، فان ارض الكنانة بدأت في حملة ناجحة وموفقة في تعريب اكثر هيئات المجتمع واعادة بناء الدولة العربية الحديثة.

يعيش سكان الوطن العربي في اكثر من عشرين دولة وكيان سياسي بين انظمة ملكية واماراتية وجمهورية، تضمهم جميعاً مؤسسة اقليمية ضعيفة الروابط والقدرات، هي جامعة الدول العربية، وبالتالي فان هناك قرابة 400 مليون نسمة يصنفون بحكم القوانين والمعاهدات والاتفاقيات المرعبة بأنهم مواطنون ينتسبون الى دولة عربية، ولكن الاهم من ذلك التصنيف القانوني هو ان معظم هؤلاء ينسبون انفسهم الى امة واحدة، ويقولون بالوجود العربي، أي ان الهوية السائدة اليوم هي الهوية العربية لسكان هذه المنطقة الواسعة الممتدة من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي، هذه الحقيقة السياسية، التصنيف او الانتساب، لم تكن موجودة او مقبولة في مطلع القرن العشرين بل لم تكن كذلك من حيث الانتشار والعمق حتى منتصف القرن المذكور، اذ لم يكن هناك قبول او اقرار بهذا الواقع.

كانت المفاهيم مختلفة حيث اتسمت الهوية بسمة الدولة الحاكمة بشكل من الاشكال، فكانت الهوية عثمانية بالنسبة الى غالبية سكان المشرق العربي او بالانتساب الى الدين بل حتى الى الطائفة ضمن الدين الواحد، وكانت كلمة العرب لا تستعمل كثيرا وغالبا ما كان المقصود بها البدو سكان البادية في بلدان المشرق العربي.

لقد احتاج الاقرار بهذه الهوية الى زمن طويل، وشهدت اجيال القرن العشرين حروباً وصراعات سياسية ومسلحة وتطورات فكرية واجتماعية واقتصادية معقدة ومتعددة، غطت غالبية اقطار الوطن لتصل الى هذا الاعتراف بالهوية العربية من خلال المواطنة في الاقطار العربية، وكان هناك تحول فرعي وكمي في تأكيد هذه الصفة او وجود الوحدة العضوية، نظرياً على الاقل للمواطنين الذين تجمعهم كيانات جامعة الدول العربية.

ان الاقرار بهذه الهوية شكل خطوة مهمة في مسيرة القومية العربية، لكن الاقرار بوجود هذه الكتلة البشرية ذات اللغة والتاريخ والثقافة والمصالح المشتركة والمصير الواحد، لم يعد كافيا خاصة في اواخر القرن العشرين وما تشهده عقوده المتأخرة من تطورات وتحولات سريعة، ذلك ان المطلوب اكثر وابعد.. بمعنى ان الظروف المستجدة دولياً وعربياً وقطرياً مع وجود الخطر الصهيوني تتطلب منا لكي نحفظ بقاءنا على الاقل ما هو اكثر كثيرا من مجرد تلاوة هذه الشهادة او الاعتراف بعروبة واحدة تجمعنا.

ان القومية- كما يفصلها المؤلف – كمفهوم سياسي او اجتماعي، قديمة قدم وجود الانسان في مجتمعات متمايزة باللغات. فالقومية وتحت اسماء مختلفة كانت تعني من قديم الزمان الشعور العام بالانتماء، أي الانا او نحن مقابل انتم او الغير الآخر.

كانت القومية من قبل شعوراً وليس وعياً. ان هذا الشعور او الاحساس وجد تعابير او مصطلحات خاصة عند ابناء الامم المختلفة. فالسلافيون يطلقون على الالمان انهم (شعب أخرس). والرومان وصفوا غيرهم بـ (البرابرة) أي الاغراب. وسبق للعرب بعد انتشار الاسلام وترسخ الحكم العربي ان وصفوا خصوم النظام السياسي العربي او بعض هؤلاء الخصوم الذين عادوا فكرة العروبة بأنهم (شعوبيون). وفي الواقع فان مرد بعض هذا التوصيف عند العديد من الاقوام يعود الى افتقاد القدرة على التحاور والتفاهم بسبب حاجز اللغة.

ان هذا الشعور الذي لم يكن دائما العنصرية او التفوق العنصري تحول مع الثورة الفرنسية الى وعي حيث نظر ابناء الامة الواحدة الى (رابطة الانتماء العام) نظرة خاصة ومتميزة.

والملاحظة اللافتة، ان الثورة الفرنسية تعايشت مع ثورتين مهمتين جداً عرفتهما القارة الاوربية، هما الثورة الديمقراطية والثورة الصناعية. ومن الواضح ان هذا الوعي القومي قد تأثر كثيراً بالعقل والتحليل العقلاني والمصالح الاقتصادية والاجتماعية الطبقية. كل هذه العوامل وغيرها تدفعنا الى ان نلحظ ان هناك فارقاً نوعياً وكمياً بين الشعور والوعي.

اذا كانت القومية الحديثة اوروبية المنشأ، اذ طغت على جوانب كثيرة من الحياة السياسية الاوروبية، حتى ان عددا من المؤرخين اطلق على القرن التاسع عشر في اوروبا خاصة بانه عصر القوميات، فان هذه الدعوة الجديدة لم تبق اسيرة القارة الاوروبية بل انتشرت مع الزمن الى القارات الاخرى، فكان ان كافح دعاة القومية وناضلوا من اجل جمع ابناء  الغالبية العظمى من جماهير الامة في دولة واحدة.

والملاحظ ان هذه الفكرة القومية تحولت الى سلاح شعبي فعلاً ضد النظام الاقطاعي وضد تدخلات رجال الدين في الشؤون السياسية، واصبحت القومية لدى العديد من القوميين، تعني التنازل عن الصالح الخاص او جزء منه في سبيل احياء الشخصية المعنوية للامة المتمثلة في الدولة ومؤسساتها الدستورية.

وكما ان الفارق نوعي بين الشعور والوعي، كذلك بين الامة والقومية، اذ ان الامة هي ذات شعور عفوي نتيجة لمقومات طبيعية، فيما القومية هي عمل ارادي واع يعرف كيف يستدل بالعقل على وجود الامة بالاضافة الى ذلك فان هناك فارقاً مهما بين الامة والدولة.

ان قوميتنا العربية، تعني اساساً التركيز على اللغة والتاريخ المشترك وليس على العنصرية والدم. وفي هذا يقول المرحوم ساطع الحصري- ان اللغة هي روح الامة وحياتها، انها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري، وهي من اهم مقوماتها ومشخصاتها. اما التاريخ فهو بمثابة شعور الامة وذاكرتها، فان كل امة من الامم انما تشعر بذاتها وتكوّن شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص- ولهذا فان قوميتنا العربية تنظر الى المستقبل وليس الى الماضي، وهي تدعو الى مجتمع المواطنة بحيث يتساوى جميع المواطنين امام القانون من دون النظر الى العرق او الدين او الطائفة او المنطقة الجغرافية. وكذلك، فان قوميتنا تدعو الى النظام الديمقراطي وتداول الحكم والسلطة، وتعمل على توفير الحريات العامة والخاصة وتدعو ايضا الى الاستقلال القومي وتأمين العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص امام الجميع.

ان القومية العربية كوعي قومي جاد، تُعبر ظاهرة جديدة في تاريخنا الحديث، وتتميز بمجموعة من العلاقات الحديثة، كالوحدة القومية العربية والديمقراطية والعلمانية والمواطنة والبناء الجديد للمجتمع العربي.

ان مفتاح الحل للمسألة القومية، هو انتشار الوعي القومي وتعمق جذوره في عقول الجماهير والمثقفين وقلوبهم، وعندها يصبح الوعي القومي له الاولوية والافضلية، وتصبح الاعمال لا الاقوال هي الاساس الفاعل في بناء دولة العرب الاتحادية. ومن هنا، فان الوعي القومي وانتشاره وترسخه هو الاصل والاساس في مشاريعنا القومية العملية.

ان الدعوة القومية واجهت منذ البداية تداخلاً بين القومية والدين بل بين العروبة والاسلام. ومن هنا علينا ان نبذل كل المساعي والجهود في جعل الاسلام صاحب النظرة الحضارية التقدمية والمدنية وليس كما يفعل البعض على جعل الاسلام صاحب النظرة المعتقدية والرجعية. وعلينا ان نحكم العقل والعقلانية في نقاشاتنا مع اصحاب النظرة المتخلفة. والمحزن ايضاً، ان دعاة القومية لم يبذلوا الجهد الكافي في توضيح ان الدين لا يتنافى ابداً مع الدعوة القومية بل ان العلمانية لا تعني محاربة الدين كما انها تشدد على ان لا يتدخل رجال الدين في الشؤون السياسية وخاصة ان العالم كله يواجه تياراً جازماً ويطالب بتوحيد الامم والدول، وان الدنيا اصبحت في هذا العصر قرية كونية. فهل يجوز لنا ان نبقى منقسمين الى دويلات واقطار صغيرة، وان نبقى بعيدين عن روح العصر وتياراته المتقدمة؟ هذا ،  وان الوحدة القومية تصبح اكثر وجوبا حين نرى ان عالم اليوم تسيطر عليه وسائل الاعلام المرئي والمقروء والمسموع، اضافة الى المصالح الاقتصادية.

لقد وقعت الحركة القومية العربية في اخطاء كثيرة بل ان بعض اقسامها تجاوز الخطأ ليصبح خطيئة وخطايا... ومن ابرز هذه الاخطاء ان الحركة القومية تعرضت لخطيئة الانحراف عن عقيدتها ومبادئها، ويستوي في هذا الانحراف احزاب ومنظمات كثيرة مثل عصبة العمل القومي وحزب البعث وحركة القوميين العرب وغيرها.

ومن اخطاء الحركة القومية العربية، انها لم تهتم بل فقدت الكثير من الاهتمام بالمعرفة، فكان ان رفعت شعارات قومية وفي مقدمتها شعار الوحدة العربية من دون ان ندرس بالتفصيل الواقع العربي ومساوئ هذا الواقع، وتجاهلت او تناست ان للوحدة اعداء حقيقيين يمثلون القوى الدولية الخارجة، وكذلك لم تهتم او تدرس حقيقة قوة المحافظين العرب واذنابهم الذين كانوا يخشون تغيير هذا الواقع. بالاضافة الى ذلك، لم تهتم الحركة القومية بعوامل اخرى كثيرة تقف دون الوحدة مثل الامية باشكالها وفقدان الوعي القومي والجهل الذي تغرق فيه الجماهير غرقاً معروفاً...

ومن اخطاء الحركة القومية، رغبة العديد من قيادييها في الوصول الى كراسي الحكم والسلطة حتى لو كان ذلك بثمن باهظ، هو ادخال الجيش الوطني والضباط في الساحة السياسية العربية وتوجيه ضربة قوية الى نمو التيار الديبمقراطي المبعد عن الدكتاتورية.

اخيراً، خلص المؤلف الى تعريف القومية العربية بانها فكرة تهدف الى تحقيق وحدة الامة العربية واقامة دولة واحدة لها في الوطن العربي الكبير، وبناء نهضة جديدة بعد قرون من الغياب شبه الكامل عن مسيرة التاريخ الانساني، فالقومية في جوهرها دعوة الى تأكيد هوية الامة وشخصيتها الخاصة المميزة امام الغير. فهي اذن فكرة، أي انها فكرة وحركة نضالية تهدف الى بناء دولة خاصة بالعرب بعد ان تتحرر الامة من الحكم الاجنبي وتوفر الحرية لابنائها، فهي حركة اعتراض ومقاومة وجمع شمل الامة وانهاضها. وعليه، فهي حركة لتقويض الاوضاع الفاسدة وازالتها من جهة واقامة نظام عربي جديد افضل من جهة ثانية. وهي حركة مستقبلية تعتمد على الجيد ةالحي والمفيد من الماضي لتوفر العدالة لها، مستخدمة من اجل ذلك اساليب العلم والعقلانية والتقدم.

هناك حاجة ملحة وضرورة ماسة جدا لاحداث تحولات اعمق واشمل في حياتنا السياسية بحيث تزداد تجمعاً وترابطاً، ونحسن اوضاعنا في اتجاه اتحادي او وحدوي، والا فان اياماً اكثر سواداً وحلكة تنتظرنا...

 

.................

الكتاب: الحركة القومية العربية في القرن العشرين، دراسة سياسية، تأليف- هاني الهندي، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2012، 576 صفحة

 

في المثقف اليوم