قضايا وآراء

ومن شر البلية ما أضحك ! (3)

hamid taoulostكعادتي، أبدأ طقوسي الصباحية المعتادة، ومنذ الساعات الأولى من النهار،  بتصفح الإيمايلات التي تكون قد وردت على بريدي الإليكتروني أثناء ساعات الليل، ومتابعة أخبار الأحداث الجهوية والوطنية والدولية، من خلال المواقع الالكترونية الإخبارية جادة،  وبعد الإفطار ثم انتقل إلى وضع  تصميما لما سأكتب خلال اليوم، اخرج حوالي السادسة صباحا للتمشي -صحبة كلبتي "أيدي" التي غادرتنا قبل شهور- والبحث عن افكار جديدة لكتاباتي، من خلال حوارات وقع خطواتي على طرقات دروب وشوارع المدينة الشبه فارغة  في تلك الفترة من النهار، وعبر المصادفات واللقاءات الصباحية الاستثنائية مع الأشخاص والأحداث، والتي تتحول ذكراها الرقيقة والناعمة إلى أفكار أؤثث بها تدويناتي ومقالاتي ..

ومن بين الرسائل التي وصلتني على بريدي الإلكتروني من الكثير من الأصدقاء والقراء الذين يتابعون ما أكتب، ويتواصلون دوماً معي بالنقد، تأييداً أو اعتراضاً، ممن أعرف حرصهم علي، وحبهم لي، وتأييدهم لكتاباتي، وتوقهم الشديد لأن تساهم مقالاتي في رفعة الأمة، وتحصين مواقفها، والنهوض بها، وتمكينها من مواجهة أعدائها، بتسليط الضوء عليهم، وكشف حقيقتهم، وفضح سياستهم، وبيان عيوبهم ومخازيهم، ذلك التعليق المميز الذي بعثت، الآنسة Ranya  من فاس،  تدعوني من خلاله  , إلى ترك الكتابة عن كل ما له علاقة بالدين وغيبياته، وتنصحني بالابتعاد عن الخوض في نقد حتى الخطير من بلاويه المثيرة للأسى والسخرية من عالمنا العربي والإسلامية، بدعوى أنني أُفرطُ في التشاؤم، وأفسح المجال لقلمي ليعبر عن يأس، وأكتب بسلبية تزيد الأوضاع جرعة القنوط . والحقيقة أنني على العكس مما تعتقد، فأنا مفرطٌ في التفاؤل والأمل، ومبالغٌ الحماسة والاستبشار، وأنا أطلق العنان دوماً لقلمي، يخط سيولاً من البشائر، ويرسم ألواناً من النصر ..

وليست هذه هي المرة الولى التي تتبرم فيه الآنسة Ranyaمن بعض كتاباتي، فقد فعلت نفس الشيء في تدخل سابق لها، جاء على شكل مقالة متكاملة، حذرتني من خلالها من مغبة الخوض في غياهب السياسة ومصائبها، وطالبتني بالاقلاع عن الكتابة فيها وعنها، لأن شأنها صعب ونثن، وله أناسه المتخصصون، وكتابه المراوغون، الذين يحسنون النفاق، ولسح الاحذية، ولعق تراب الأسياد، للوصول للمآرب الانتهازية.  وقد نشرت تعليقها ذاك في مقالة عنونتها بـ" رد جديد" إشراكا للقارء الكريم، وتعميما للفائدة، خاصة وأن الموضوع يتعلق بالسياسة التي تحولت إلى مس شيطاني سكن عقول واهتمامات وتطلعات الكثير من النخب الذين احترفوا السياسة في كل شبر من الأرض، وجعلوا منها وسيلة للاغتناء اللامشروع، ونشر ثقافة الفساد بين الأجهزة والمؤسسات والأنظمة.

ورغم شدة انتقاد الآنسة Ranya في تعليقها هذا، وقسوة اتهاماتها، سامحها الله، فإنها – والحق يقال – كانت أكثر لطفا ولباقة وتأدبا من غيرها من المعلقين المتطرفين، الذين تهافتوا على انتقادي عبر بريدي الالكتروني وغيره من وسائل الاتصال، حاملين كل أنواع الاسلحة الهجومية، من سباب وشتائم واستخفاف وتشويه ومغالطات، وغيرها من الأمور البذيئة التي لا تخطر على بال إنسان سوي وعاقل، مبررين هجومهم علي أني علماني ولا صلة لي بالدين ولا توجد خانة للإيمان في دماغي، وكون جل مقالاتي ضد الإسلام والمسلمين، وبمعنى أصح ضد الإخوان المسلمين، وأن كل موضوع من مواضيعي يحمل اهانة للمقدسات،  وجرحا للكرامة ..

مع أنهم لو تمحصوا قليلا فيما قرؤوه من كتاباتي، وحاولوا فهم مضامين موضوعاتها، واستيعاب محتوياتها، لوجدوا أن توجهاتها ليست إلا صورة حية ومحايدة ومجردة للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الراهنة للبلاد، وأنها ليست سوى نقل أمين ومنطقي وعقلاني لبعض التوترات التي يشهدها المغرب ومحيطه المغاربي والعربي والعالمي، وأنها غير موجهة ضد أي أحد أو جماعة أو طائفة او توجه أو مذهب أودين ..

ولتبين لهم أنه ليس بيني وبين جماعة الاخوان وكافة المسلمين وكافة الجماعات الإسلامية، أي ثأر شخصي، أو كراهية خاصة . لا أقلل أبداً في قدراتهم في الدعوة، ولا أستخف بعطاءاتهم في العمال الخيرية، ولا أبخس من همم رجالاتهم الصالحين، وحماس شبابهم المتنورين، ولا أتجاهل الصحوة الإسلامية، والهبة الدينية، والعودة اللافتة للأمة إلى دينها العظيم .

ويشهد الله أنه مجرد اختلاف فى الايدلوجيات، وبسبب تصرفات جماعة الإخوان –الدين كنت من بين الذين عقدوا عليهم امل إنقاذ الأمة العربية والإسلامية من ذلها - والذين لم يأت احد بما فعلوه خلال مدة حكمهم القصيرة جدا، من استغلالهم لاسم الله الاعظم والمتاجرة بدينه الحنيف، واستحلالهم الكذب والخداع، وقول الشيء وعكسه فى آن واحد واستخدامهم المساجد فى الدعوة للجهاد ضد افراد الشعب المصرى، حتى انطبق عليهم قوله تعالى "كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)" صدق الله العظيم .

ولعرفوا أنني أؤمن ايماما قاطعا بالشعار : "إذا لم أستطع قول الحق ، فإني لا أصفق للأكاذيب والأباطيل الموقدة لنيران الفتن " ؛ ولظهر لهم كذلك، وبكل جلاء، أن ديدني، أن لا أقول إلا الصق أو أصمت , ولا أكتب إلا ما أظن فيه الخير والإصلاح , وأمتنع عن  نشر ما قد يتسبب في الشرور والآثام ويلحق الاضرار بالعباد والمجتمعات والأوطان، ولعرفوا أنني لا ألجأ للكلمة المكتوبة، لأملأ بها صفحات المواقع الإلكترونية، على أساس أنها مجرد حروف متشابكة  ومجرد خطوط حبر لتسويد بياض الأوراق، بل إني أتعامل مع الكلمة على أنها معانٍِ ورسائل، تحتويها القلوب، وتستوعبها العقول، وتترجمها الأنامل، وتتغلغل داخل نفوس المتلقين، فتترك اثرا كبيرا بداخلها، فترفع الكاتب الصادق المحايد إلى فوق، أو تهوى بمن يكتب لنصرة الظلم والظالمين إلى الحضيض ..

ورغم ما أبداه المعلقون ضدي من غضب شامل، وجنون كامل وهيجان جامح، يستحقون عليه أن يجابهوا بقولة الشاعر :  الا لا يجهل احد علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا.

فإني لم انزعج منهم قط، والتمست لهم العذر، على اعتبار أن تصرفهم ذلك، ليس إلا نوعاً من التنفيس الانفعالي الناتج من الإحساس بالعجز والانزعاج، وان سلوكهم ذاك، ليس إلا اسلوب تعامل اجتماعي متخلف، وتفكير بدائي من العصر الحجري، تغلغل في عقليتهم، كما تغلغل في العقلية العربية جمعاء بحبكة قدسية دينية مرتبة ومنظمة بذكاء خبيث وتسلط اجرامي متأصل، فجمد قدرات الدماغ العربي على التمدد والتوسع والتطور والنمو والتغير، وأدى الى تحجره وتراجعه الى اقل مستوى من الوعي المنطقي والإدراك الظرفي في تفاعله الوجودي مع الحياة والإنسان، حتى صعب ازالته والتخلص منه عبر تاريخه، الذي تميز بمعاداة كل المصلحين والعباقرة والمجددين من الشعراء والكتاب والفلاسفة، وكل من تجرأ على كسير "التابوهات" في أمة ساخرة من فجائعها، وجرب التمرد على السائد والمعتاد في كل المجالات الفكرية المجردة المنطقية والعقلانية العلمية منها والاجتماعية والأدبية والأخلاقية والسلوكية، التي أدخلت ذلك الدماغ العربي إلى منطقة الحظر العقلي أو المنطقة الرمادية، التي يتحاشها الجميع خشية عواقبها الوخيمة ..

وأختم ردي هذا، بتساؤل موضوعي وبسيط: هل هناك من شك في انطباق مقولة "شر البلية ما يُضحِك" على مثل هذا النوع من النقد الهجومي الجاهلي، المنبثق عن نمذجة عدائية عمياء، وآراء مسبقة، بعيد كل البعد عن النقد الحقيقي المسؤول الذي نصغي اليه ونستفيد منه .. واني لا انتظر اجابة على تساؤلي الأحمق، لأني متيقن أنها ستكون، ومن دون شك، تحصيل حاصل .

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم