قضايا وآراء

الديمقراطية عملية نمو وليست بناء

mohamad rashedفي البدء لا بد لنا أن نتفق على أن الديمقراطية هي عملية نمو وليست عملية بناء، يتحفنا الفيلسوف الصيني لين يوتانج بمقولته " لا ريب في أن كل ما ينمو يكون أكثر جمالا في العين من الذي يبنى" لذا من الطبيعي أن تكون الوردة أو الشجرة أو النخلة أجمل بكثير من البناية، أذن من السهولة أن تجهز الحديد والاسمنت والطابوق و ماهي إلا أيام حتى تجد كبرى البنايات جاهزة، لكن النخلة تحتاج إلى سقف زمني طويل وظروف مناسبة لكي تتحول من نواة إلى فسيلة ومن ثم إلى نخلة تحمل اعذاقها رطبا شهيا . هكذا إذن هي الديمقراطية شانها شان النخلة تحتاج إلى عملية حرث وغرس وسقي وشمس ونمو وسهر وحماية وصبر يمتد إلى سنين طوال لكي تطل علينا بشكلها الشامخ المثمر .

كثير من اللذين راهنوا على الديمقراطية قالوا إنها ستنتقل بين ليلة وضحاها ولكنهم اصطدموا بعقبات كبيرة وكثيرة لان الديمقراطية هي سلوك أنساني متحضر رفيع المستوى يتم انتقالها بدءا من الفرد مرورا بالمجتمع وانتهاء بالسلطة وذلك عبر بوابات ونوافذ كثيرة منها(الحرية الفردية / نبذ العنف / احترام الرأي الأخر /المحبة / التسامح / احترام القانون / الانتقال السلمي للسلطة/ احترام الأديان / عدم الخلط بين الخاص والعام في العلاقات العامة) وغيرها وهنا لابد من فرض (سلطة القانون) وبث (الوعي الديمقراطي) لأنهما الحاضنة الحقيقية لانتقالها بشكل صحيح وإلا تصبح عملية الانتقال الديمقراطي (فوضى) لان هنالك جهل كبير بمبادئ الديمقراطية عند البعض . لاحظنا بعد أحداث عام 2003 ظواهر عديدة منها ( البناء في الأماكن العامة/ عدم الالتزام بقواعد المرور/ حمل الأسلحة دون رخصة/ رمي النفايات أينما كان /إطلاق العيارات النارية) بحجة الحرية . كما أن (مليون) شخص في وزارتي الداخلية والدفاع كلهم مسلحون إضافة إلى ذلك العصابات المنظمة وانتشار الأسلحة مثل(الكلاشنكوف) و(القنابل اليدوية) وغيرها في البيوت لكي يحموا أنفسهم من المداهمات والسرقة والاختطاف، هذه الظاهرة أدت إلى عسكرة المجتمع وأصبحت مطبا كبيرا في طريق الحلول السلمية للنزاعات والانتقال الديمقراطي، كما أن الكثير ممن تذوقوا حلاوة السلطة وتمتعوا بامتيازاتها سواء كانت المرتبات الفلكية الذي يتقاضوها كل شهر والجوازات الدبلوماسية و...و.. جعل البعض منهم يتمسك بها دون الإيمان بمبدأ (التداول السلمي للسلطة) خصوصا أن البعض منهم كان متهما بقضايا فساد مالي و إداري أو انه مطلوب بقضايا إرهاب لذا تراه يقاتل ويبذل الغالي والنفيس من اجل أن يحصل على الحصانة النيابية ويبعد نفسه عن قبضة العدالة لأربع سنوات أخر ودليلي على ذلك بعد انتهاء مدة مجلس النواب ورفع الحصانة عنهم بشكل رسمي غادر الكثير من النواب إلى خارج العراق لكي يبتعدوا عن قبضة العدالة ولو لفترة وراحوا يصرحون من خلال الفضائيات التي تطل علينا من لندن والأردن والقاهرة والسويد ودمشق وسيعود منهم فقط من أعيد انتخابه أما الذي لم يحصل على مقعد في البرلمان القادم مؤكدا انه لم يجازف بحريته ويدخل العراق إطلاقا . ومن الظواهر التي تأسست على خطأ هي (بعض منظمات مجتمع المدني) التي هي في الأساس (حزبية) تابعة لشخصيات سياسية ومنها (دينية) تديرها شخصيات (متطرفة) وان اللافت للانتباه أن تلك المنظمات خصصت لها إيفادات وأموالا طائلة بسبب نفوذ رؤسائها لتنفيذ أهدافا بعيدة كل البعد عن (سلوك المجتمع المدني) أعني بناء نفسية الإنسان العراقي وما خلفته له الحروب والحصار والإرهاب من ويلات وآثار نفسية قاهرة .أما المنظمات التي تعمل وفق (مبادئ حقوق الإنسان) و(نشر الوعي) و(ثقافة السلام) و(مبدأ الحوار) همشت بقصدية من الحكومات والمنظمات المانحة ومنها (برلمان الطفل العراقي الذي لم يحصل منذ تأسيسه عام 2004 والى الآن سوى على ما يعادل(800)دولار فقط ثمانمائة فقط من وزارة العمل على شكل دفعتين إيجار مقره المتواضع لمدة (4) أشهر) ويبدو هنالك أشياء متفق عليها تحاك في الظلام من اجل القضاء على المنظمات الحقيقية الفاعلة وان الغريب في الأمر أن كبريات المنظمات المانحة التي جاءت إلى العراق دعمت الحكومات والوزارات التي بحوزتها (ميزانيات انفجارية) و(منظمات حزبية ودينية متطرفة) بسخاء تاركة المنظمات الحقيقية بلا أي شيء يذكر حتى أن بعض المنظمات المهمة مازالت تدفع إيجار مقراتها ونشاطاتها من حساب بعض أعضائها بشكل شخصي وظلت تحفر في الصخر من اجل أن تعلوا مبادئ حقوق الإنسان . هنا لابد لنا أن نتوقف عند محطات مضيئة وظواهر ايجابية مشرقة بعد أحداث 2003 هي التداول السلمي الذي شاهدناه من قبل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ولعدة دورات وكنا نتمنى أن تشمل السلطة القضائية بذلك ولا ندري كيف إذ بقيت السلطة القضائية على حالها دون تغيير منذ ذلك العام، كذلك الشيء المفرح الذي لمسناه عند شريحة الأطفال فهم يبدو الأكثر استجابة من الكبار للحلول السلمية والانتقال الديمقراطي وهذا ما لاحظناه في تجارب عديدة أهمها كانت تجربة برلمان الطفل العراقي احد تشكيلات (الشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان والتنمية) التي أسهمت بشكل فاعل في بث ثقافة حقوق الإنسان ونشر ثقافة التسامح والعمل على الحلول السلمية والعمل بشكل جدي من اجل تدريس ثقافة حقوق الإنسان في الكليات والمعاهد والمدارس من خلال نشاطاتها التي توزعت في الشمال والوسط والفرات الأوسط والجنوب من العراق .هذا البرلمان اعني برلمان الطفل العراقي الذي تأسس عام 2004 وضع (اتفاقية حقوق الطفل الدولية) التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها المرقم (44/25) في 20 نوفمبر 1989 هدفا له لتطبيقها وعمل كثيرا بشكل ميداني على (المادة 16) من الاتفاقية التي (تنبذ العنف) واللجوء إلى الحلول السلمية للنزاعات في داخل الأسرة والمدارس وحقق كثيرا من الندوات حول (الحوار الثقافي)وعمل بمبدأ (المساواة بين الرجل والمرأة )من خلال اعتماد قانونه الداخلي مبدأ الكوتا للمرأة بنسبة 50% الذي جاءت في الفقرة (2) من المادة (6) إيمانا منه بان المرأة نصف المجتمع وحقق ورش عمل ثقافية كثيرة من اجل (ان يعرف الطفل واجباته وحقوقه) وحقق حملات عديدة بعنوان (اقرأ) حتى يكون الإنسان واعيا يسهم في العملية الديمقراطية علما أن الكبار للأسف الشديد اغلبهم ظل يدافع عن أفكاره القديمة حتى وان كانت تقوده إلى أنفاق مظلمة وان تغير فيكون التغيير طفيفا خارجيا وليس من الصميم .ختاما لا يخفى على الكثير أن الأغلبية من مناطق العراق يتعاملون وفق المبدأ العشائري وهذا طبعا فيه الكثير من الظلم والتعسف إذ أن الحلول السلمية عندهم تكاد تكون غائبة وفق منطق الضغط على الزناد لأبسط المشاكل ولدينا الكثير من الشواهد على ذلك حيث قتل الكثير من الأبرياء لأسباب بسيطة جدا يمكن لو كان البعض من القائمين عليهم يتمتع بوعي ثقافي لما تبقى لمشاكلهم اثر .أن المشكلة الأكبر التي أعاقت الانتقال الديمقراطي في العراق بشكل صحيح تتلخص بان كل الحكومات التي تعاقبت اعتمدت بشكل أساسي على (رؤساء العشائر) و(الصحوات) وصرفت الكثير من الأموال الخيالية لتسليحهم من اجل استتباب الأمن وكان من الأجدر أن تذهب تلك الأموال إلى جهات ثقافية تهتم ببناء الإنسان من اجل تنمية عقول البشر من خلال محاضرات هدفها (التنمية البشرية)، هنالك حكمة مفادها{ أن الذين يعلنون الحروب يكونون أما نصف مجانين أو مغرقين في الجدية إذ أنهم يكونون على ثقة من أنهم على حق ....وان الله يقف إلى جانبهم}.

 

في المثقف اليوم