تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

الشعر والحرية في الفكر العربي الحديث (2-2)

 في أول تحسس "لمصيرها التاريخي" في آخر مرحلة الانحطاط التام للعثمانية (التركية) وبداية عنفوان وهيمنة الكولونيالية (الأوربية).

وقد أثارت هذه الحالة مسألة ماهية الشعر، التي لم تكن آنذاك سوى المسألة المترتبة على تعمق الشعور الذاتي العربي في مواجهة "مصيره التاريخي" الجديد. فقد كانت هذه الماهية بالنسبة لسيرة الشاعر تقوم في "ماهية الشاعر"؟ وبالنسبة لسيرة الشعر في "ماهية الشعر"؟ وهو الأمر الذي يفسر سبب اهتمام الفكر العربي الأدبي والنقدي والتاريخي بالشاعر وليس بالشعر. بينما ستنقلب المعادلة لاحقا من خلال الاهتمام بالشعر وليس بالشاعر. وفيما بعد بوحدتهما، التي استلزمها بالضرورة ارتقاء المشاعر إلى شعر ومنه إلى فكرة.

فالاهتمام بالشاعر هو اهتمام بالشعراء، أي بالتنوع. أما الاهتمام بالشعر فهو اهتمام بالوحدة الملموسة، باعتبارها مقدمة الفكرة المجردة. لهذا أصبح تحديد ماهية الشاعر ومن هو الشاعر وجهين لحقيقة واحدة هي الشعور الصادق والإخلاص فيه. فنرى احمد شوقي يحتج على حصر منزلة الشعر بالمدح، واعتبرها "تجزئة يجلّ عنها ويتبرأ الشعراء منها". ومن هذه المقدمة استمد تحديده للشاعر باعتباره "من وقف بين الثريا والثرى يقلبّ إحدى عينه في الذرّ ويجيل أخرى في الذرى. يأسر الطير ويطلقه ويكلم الجماد وينطقه"1 . فهو العيون التي تنظر في السماوات والأرض، والكيان القادر على جذب الكائنات الحية وتحريرها واستنطاق الجماد. وليست هذه الصيغة الشاعرية سوى التعبير الأول عن إدراك قيمة الشاعر في تحسسه للمادي والمعنوي وقدرته على سبر أغوارها والنفاذ من خلالها إلى الثرى والثريا. إذ أن وجوده فيهما هو توليف وحلقة ربط للمختلفات. وهي فكرة تلمسها عبد الرحمن شكري عندما حصر وظيفة الشاعر في "الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره". بحيث ارجع الشعر إلى ما اسماه بطبيعة "التأليف بين الحقائق". ومن ثم فان الشاعر الحقيقي هو ذاك الذي يولف هذه الحقائق في "قصيدة أبدية". لان الشاعر هو من يميز "معاني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد". إذ كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله. والشاعر ابلغ قصائده. وليس المقصود بان الشاعر ابلغ قصائد الوجود سوى كونه الصوت المعّبر عن خلجات أعماقها السحيقة، أو ما اسماه عبد الرحمن شكري بنفوس الأمة الكبيرة. فإذا كان الشعر هو مرآة حياة الأمة، فان عظمة الشعر على قدر عظمة نفوسها. فكلما كانت نفوس أفرادها صغيرة كان شعرها ألفاظ مرصوفة ميتة2.  وهو استنتاج يعكس في الواقع إدراك ماهية الشاعر الواجبة، بوصفه تمثيلا وممثلا للمشاعر في شعر ينطق عن أعماق الحياة وصخبها وفورانها باسم القيم المتسامية و"الأبدية". لهذا اعتبر بأنه لا ينبغي للشاعر أن يكتب للعامة ولا لقرية ولا لأمة، وإنما يكتب للعقل البشري ونفس الإنسان أينما كان. يكتب لا ليومه بل لكل يوم وكل دهر. وهذا ليس معناه انه لا يكتب أولا لامته المتأثر بحالتها المتهيئ ببيئتها.

أننا نتلمس في هذه الآراء عن الشاعر ارتقاء الشعور إلى شعر ومنه إلى فكرة. فالشاعر الحقيقي هو الذي يتحرر من قيود الزمان والمكان مع البقاء فيها، بوصفه "قصيدة" الزمن الدائم والتراث القومي. إذ ليست الأبدية في الواقع سوى توليف حقائق الزمن الدائم وتراث الأسلاف في تأمل "معاني الحياة التي يوحي بها الأبد" للشاعر. وهي أفكار سبق وان بلورها المازني بهيئة موقف نقدي أدبي متجانس عندما اعتبر الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها. إذ ليست مزية الشاعر أن يقول لنا ماذا يشبه هذا الشيء، بل أن يقول لنا "ما هو هذا الشيء" ويكشف عن "لبابه وصلة الحياة به".  ذلك يعني أن ماهية الشاعر تتطابق مع الشعور بجوهر الأشياء وماهياتها المرتبطة بالحياة. ووضع هذه الفكرة العميقة فيما اسماه بمحك الشعر الذي لا يخطئ في نقده للشعر إلا وهو إرجاعه إلى مصدره. فان كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذاك شعر الشعور، وان استطعنا أن نلمح وراء الحواس شعورا فيه وجدانا تعود إليه المحسوسات فذاك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية.

وتعمقت فكرة تطابق ماهية الشاعر الحقيقي مع ماهية "الحقيقة الخالدة"، وان الشاعر يعّبر عن تجليها المتنوع وصلتها بالحياة، في الوعي الشعري العربي الحديث من خلال تحويل الشاعر نفسه إلى كيان يحتوي في ذاته على تجليات متنوعة لإدراك ماهية الأشياء وصلتها بالحياة من خلال صوته. وهي فكرة نعثر عليها عند ميخائيل نعيمة، الذي اعتبر الشاعر نبيا وفيلسوفا ومصورا وموسيقيا وكاهنا. فهو نبي، لأنه يرى بعينه الروحية ما لا يراه البشر العاديين، وانه مصور، لأنه يقدر على سكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام. وانه موسيقي، لأنه يسمع أصوات متوازية حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة. وانه كاهن، لأنه يخدم إلها هو الحقيقة والجمال.

أدى تعمق الشعور الذاتي العربي في موقفه من الشاعر إلى تعمق الشعور الذاتي في موقفه من الشعر. ومن الممكن القول، بان مسالة ماهية الشاعر هي نفسها مسالة ماهية الشعر. إلا أن هذا التطابق بينهما هو الصيغة الظاهرية لالتقاء مسيرة الشعراء والشعر العربي الحديث، وفي باطنها هي المعضلة التي كانت تثير الإشكالية الأعقد بالنسبة لوجدان الوعي الذاتي العربي القومي والثقافي. فالوجد من الفقد كما تقول المتصوفة. ووجدان الشعر كان يفترض في البداية فقدان الشعراء لسيرتهم الذاتية والاندماج بالتيار الأوسع لوعي الذات الثقافي آنذاك بوصفه بحثا عن الحرية. وظهر ذلك للمرة الأولى في إثارة قضايا ماهية الشعر وغايته وحقيقته والخيال فيه، مسالة الشكل والمضمون، والتجديد والتقليد. وبلغ ذروته في قضية تحرير الشعر من القافية و"الشعر الحر".

فقد وجد الشعراء في هذه القضايا مفقودهم، الذي شحذ وجدانهم الفكري والعقائدي. فعندما يبلغ الشعر ذروته وتتنافس مدارسه ونماذجه الكبرى، فان موضوعات الماهية والأسلوب والشكل والمضمون والحرية تصبح قضايا منحلّة في الذوق الجمالي. وتفقد بالتالي مبرر وجودها كمعضلات قائمة بحد ذاتها.

فمن الناحية التاريخية كان ظهور تلك القضايا جزءا من البحث عن الحرية وجزءا من صيرورتها الوجدانية في الوعي العربي الحديث. من هنا تضارب الآراء عن ماهية الشعر وغايته وعلاقته بالحقيقة والخيال، واشتراكهم في نفس الوقت في وضع أسس الحرية باعتبارها الهمّ الدفين لمساعي العقل والوجدان بالنسبة لتعميق الشعور العربي الذاتي. فنرى الشدياق يحدد ماهية الشعر بكونه "ملكة يقتدر بها الإنسان على تصوير معان في ألفاظ مناسبة"،. وهي ملكة تجعل من الشعر "يشبه الجمال في كونه لا يحّد ولا يعّرف ولا يكيّف ولا يوصف". لقد جعل الشدياق من ماهية الشعر سرا، لا يعني هنا سوى الكيان المحرر من القيود. فعدم تحديده وتقييده وتكييفه وتعريفه هو حريته التامة بوصفه ملكة، أي قوة قادرة على الإبداع الحر.

وقد انتهى القرن التاسع عشر بصيغة واضحة المعالم عن ماهية الشعر، باعتباره الملكة القادرة على إبداع الخيال وتوليف اللفظ والمعنى، وفيما بينهما وجدت الرؤية الشعرية العربية طرفي المعادلة الصعبة للحرية والإبداع. وهي معادلة عمّقت الشعور الذاتي العربي صوب الماضي والمستقبل، وتجاه النفس والآخرين، والتاريخ والفكرة. ولم تعد ماهية الشعر "عبارة عن …"، بل تعبيرا عن سريان له عقده وتعقيداته. فنرى شكيب ارسلان يكتب في مقال عن (حقيقة الشعر) قائلا، بان الشعر قول ثقيل وبحث عقلي باهظ، و"انه مظهر المرء في أسمى خواطر فكره وأقصى عواطف لبه وابعد مرامي إدراكه"، و"انه رؤية الإنسان الطبيعية بمرآة طبعه. فهو شعور عام وحسّ متفرق يأخذ المرء بكليته"، وهو "ملك الكلام يتصرف كيفما يشاء فيه تجسيم المجرد وتجريد المجسم، وتشيئة المجردات وتلطيف المحسوسات"، وإذا كان "أبقى آثار الآدميين هو المقال، فان أبقى أصناف القول هو الشعر. لان النثر يتناثر تناثر الشرر، والنظم يرسخ رسوخ النقش في الحجر. بل قد تمحى النقوش من صفحات الحجر ولا تمحى من رؤوس البشر"5.  ذلك يعني انه أعطى لماهية الشعر أبعادا تامة في تمثل الشعور والإحساس. ومن ثم لا يعني اخذ المرء بكليته سوى قدرته على زج الشعور والإحساس الفردي والاجتماعي في إنتاج البقاء الدائم للعقل والوجدان، الذي وجد انعكاسه في إعادة ترسيخ الفكرة، التي سبق وان أبدعتها الرؤية الشعرية العربية القائلة، بان الشعر هو ديوان العرب. وأصبحت هذه الفكرة الآن هي "الشعر ديوان الأمة ومعرض آدابها ومرآة بواطنها ونموذج أخلاقها وعاداتها" كما يقول جرجي زيدان في مقالة عن (الشعر العصري)6.  كما جرى استعادة حقيقة الفكرة العربية القديمة عن أن الشعر هو "الكلام المقفّى الموزون"، أي ذاك الذي تتناسق فيه الموسيقى والمعنى. لهذا نرى الإجماع المتراكم على فكرة أن الشعر هو ليس مجرد الكلام المنظوم. وان ما كل موزون شعرا. بل الشعر كما يقول المنفلوطي "أمر وراء الأنغام والأوزان، وانه لا يذهب بحسنه وروائه انه منظوم ولا موزون"7.  واعتبر الكاتب الخيالي شاعرا بلا قافية ولا بحر. وشدد ميخائيل نعيمة على أن "الوزن ضروري. أما القافية فليس من ضرورات الشعر"8.  وعّبر معروف الرصافي عن نفس الاتجاه عندما كتب في مقال له يقول، بان الشعر لا يختص بالمنظوم، وانه قد يكون منثورا. والعرب قالت في القران انه شعر، مع انهم يرونه غير موزون ولا مقفى. وعلى هذه المقدمة بني استنتاجه القائل، بان "المنظوم سمي شعرا لا لكونه ذا وزن وقافية، بل لكونه في الغالب يتضمن المعاني الشعرية"9.  وليست هذه "المعاني الشعرية" في الواقع سوى الحصيلة المجردة لترسيخ الشعور الذاتي في الوعي النقدي الأدبي العربي عن جوهرية الحرية. وذلك لان تحرير الشعر من القافية، وأحيانا من الوزن (بأبحره التقليدية) هو محاولة جعل الشعور الصادق شعرا، والشعر شعورا صادقا. وهي الدورة التي تجسدها الحياة كما هي في كل شيء.

شكلت الحياة والحرية وجهان لحقيقة واحدة هي ضرورة التعبير الصادق عن المشاعر. فمن هذا الصدق تنعكس ملامح الحرية وغايتها، كما تعبر في نفس الوقت عن الحياة في حقائقها الكبرى ومظاهرها المتنوعة. فنرى عبد الرحمن شكري يتوصل إلى فكرة أن "الشعر ليس كذبا، بل منظار الحقائق ومفسر لها". و"ليست حلاوة الشعر في قلب الحقائق، بل في إقامة الحقائق المقلوبة". و"لئن كان بعض الشعر نزهة، فان بعض النزهة فرض. ولئن كان بعض الشعر رحلة، فهي رحلة إلى عالم أجمل وأكمل واصدق من هذا العالم"10.  كما وجد حافظ إبراهيم في الشعر "ظرف الحكمة ومسرح الخيال ومعنى الفصاحة ووعاء الحكمة". وارجع مصطفى الرافعي ماهية الشعر إلى "طبع صقلته الحكمة، وفكر جلا صفحته البيان".

ولم يعد سمو الشعر، بوصفه تعبيرا عن حقائق الحياة الكبرى ووضعها في مكانها المناسب والارتقاء بها إلى عالم الجمال والكمال التام حكرا للحكمة والبيان، بل ولمظاهر الحياة المتنوعة. حيث تتحول الحياة وما فيها إلى شعر، فنرى ميخائيل نعيمة يقول، بان "الشعر هو الحياة باكية وضاحكة، ناطقة وصامتة، مولولة ومهللة، شاكية ومسبّحة، مقبلة ومدبرة".  في حين كتب مصطفى الرافعي يقول، بان "الشعر موجود في كل نفس كل إنسان. أننا نسمعه عند الفتاة في خدرها، والمرة في كسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوانه في أقاصيصهم وأحلامهم"12.  وقد دفع ذلك المنفلوطي للقول، بأنه "لا مؤثر في نفس الإنسان غير الشعر"، الذي نعثر عليه في "هدير الأمواج وظلام الليل وحفيف أوراق الشجر وبكاء الحمائم". بل انه وجد في "النغمات التي نسمعها من فم الإنسان مرة ومن فم الطبيعة مرة أخرى هي التي زخرفت لنا هذه الحياة".  في حين قدّم الزهاوي صورة صادقة عن الحياة في شعره وعن شعره في تمثل الحياة13. وكتب بهذا الصدد يقول، بان هناك في بغداد على ضفة دجلة سماء صافية زرقاء تلمع في ليلها النجوم فرادى وأزواجا وأشتاتا وركاما، وارض خضراء أديمها هي منبت جسده وعقله، وأصحاب يوالون وأعداء يناوئون، وجهاد مستمر وآمال بيض ويأس اسود، وفساد في النظام، وعادات سيئة تضر بالمجتمع، ونفس له حرة لا تقيم على الضيم … كل ذلك قد انطقه شعرا هو شعور كان يمشي في نفسه قبل أن ينطق هو به. 14

وبهذا الاتجاه سارت آراء المازني عندما شدد على أن الشعر هو الحياة. وكتب بهذا الصدد قائلا، بان الحب والبغض، والخوف والرجاء، والاحتقار والغيرة، والندم والإعجاب والرحمة. كل ذلك مادة الحياة. ثم أن الشعر ينقذ خواطر الإلهام من الفناء والعدم انه يحولها إلى مادة ملتهبة للعقل والضمير ويجبرهما على العمل حسب منطق ما سيدعوه احمد زكي لاحقا "بالاندماج في الأبدية". ولكنها أبدية ملموسة لها حدودها ومنطقها التاريخي فيما دعته المتصوفة بالجلال والجمال، أي في العلم والخيال والعلم والعمل. ووضع المازني هذه الفكرة في عبارة تقول، بان الشعر يحلل بالمرء قوة الحياة ويرغمه أن يحس ما يرى وان يرى ما يحس، وان يتخيل ما يعلم وان يعلم ما يتخيل. إذ الشعر أساسه صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي، كما يقول المازني. لهذا كان على يقين، من استحالة وجود شعر إلا وفي مطاويه مبدأ أخلاقي أدبي صحيح. لهذا نراه يتوصل إلى حكمه القائل، بان أبو نؤاس اصح مبادئ وأنقى ضميرا من البحتري، وامرؤ القيس افطن إلى معاني الفضيلة وأعظم رجولة من أبي تمام.

كان تحول الحياة إلى مصدر الشعر والبحث في تجلياتها عن شعر يعكس الاقتراب المتبادل بين سيرة الشعر وسيرة الشعراء. وبهذا الاتجاه أيضا سار الإدراك النقدي والأدبي عن ماهية الشعر والشاعر. فسواء جرى وضع ذلك بعبارات وجدانية أم منطقية مثل السر والجمال والبيان والعقل والحكمة في الشعر، فان الحصيلة كانت تصب في استظهار هذه الأحكام من خلال إرجاع حقيقة الشعر والشاعر إلى الحياة، ومنها إلى الحياة الفردية ومعاناتها، ومنها إلى الحياة العامة وإشكالاتها، ومنها إلى حقائق الحياة الأبدية. ولا يعني هذا الاتجاه في الواقع سوى تمثل الحركة الذاتية عن تطابق شكل الإبداع ومضمونه التاريخي. وفي ميدان الشعر كان يعني تطابق الشعور الذاتي للشعر والشعراء في الموقف من الحياة وحقائقها الكبرى، باعتباره أصلا جوهريا يحدد غاية الشعر ووظيفته.

إن بلوغ  الوعي النقدي الأدبي في الشعر إدراك قيمته الجوهرية بالنسبة للروح الاجتماعي والقومي، يعتبر أولا وقبل كل شيء تمثله وجدان الحقيقة التي بلورها تطور وعي الذات العربي بشكل عام والشعري بشكل خاص. فقد كان المسار العام لهذا الوعي يتجه صوب تثبيت فكرة الحرية عقلا ووجدانا وحدسا، بحيث جعل من هذا الثالوث معيار الحقيقة في الشعر ومحكها في نفس الوقت. وهي نتيجة جعلت البعض يرى مهمة الشعر الكبرى في قدرته على التأثير، أي جعله مرادفا لنبض الحياة نفسها. لكننا نعرف انه ليس كل مثير حقيقة، بينما كل حقيقة مثير. وهي المعضلة التي وقف أمامها الوعي النقدي الشعري العربي عبر محاولته الإجابة على الإشكالية القيميية والمعرفية لهذه القضية. وهي إشكالية تجمعت في مجرى القرن التاسع عشر وتراكمت عقدها العديدة في قضايا الإحساس واللغة، الشعر والحقيقة، الشعر والخيال، الشعر والرمز، الشعر والوزن (الموسيقى) وغيرها.

وهي عقد تراكمت في صيرورة ما أسميته بترسيخ وتعميق الشعور الذاتي العربي، والتي حصلت على أجابتها النظرية الرفيعة في مدرسة الديوان وابولو. حيث توصل الوعي الشعري العربي فيها إلى مطابقة الخيال مع الحقيقية وجعلها مرجعية ضرورية في الإبداع انتفاضا وجدانيا على فقدان الحرية، ونتيجة لانحلال العلاقة الجوهرية بالتقاليد العربية – الإسلامية لإبداع الخيال والخيال المبدع. 16

فقد كان البحث عن الحرية يرسي أسس الحرية نفسها. لأن البحث عنها هو إبداع. وعظمته على قدر تأسيسه لها في العلم والعمل، أي في النظرية الشعرية والشعر نفسه. من هنا بروز مسالة "الأصالة الشعرية"، التي لم تكن بدورها سوى الصيغة الظاهرية لحرية الإبداع ونزوعه المغامر في البحث عن رؤية تعبّر في ميدان الشعر عما حصل في تقاليد الإسلام على تسمية "أنا الحق". وذلك لان حرية الإبداع أصالة. وشأن كل أصالة تفترض فردية فردانية هي نتاج معاناة واعية للإشكاليات الجوهرية الكبرى لتاريخ الأمة وارتباط صميمي بالمرجعيات الثقافية الخاصة، وحدس مخلص بالآفاق المرئية والمجهولة. بهذا المعنى كانت آراء المويحلي دقيقة للغاية عندما أكد في مجرى انتقاده شعر احمد شوقي، من أن الشعر هو ألفاظ ومعاني. وبالتالي فان الرجوع إلى العربية والأخذ عن أصلها واجب من جهة الألفاظ. أما من جهة المعاني فان اطلاعه الكبير على شعر الغربيين أوصله إلى أن باعهم فيه ليس أطول من باع الشرقيين، بل أن الشعر الغربي لحد الآن في المعاني عيال على اليونانيين والفرس والعرب.  بينما شدد احمد زكي على أن الشاعر هو رسول قومه. وبهذه الصفة يجب أن يكون بيانه من بيانهم. وبالتالي فخليق به أن يكون أول ناقد لنفسه وان يزن بنفسه حسناته وعيوبه.

وتراكمت في المرحلة الممتدة بين المويلحي ومدرسة وابولو حصيلة الإبداع العربي في بحثه عن الحرية. فقد استعاد احمد زكي في الواقع مضمون الفكرة القرآنية عن أن الله يرسل لكل قوم نبيا بلسانهم. ولكنه طوعها شعريا. وهو تطويع سليم، لان الفكرة القرآنية ذاتها تحتوي في رمزيتها على قدر هائل من الاستعداد للتأويل بسبب تمثلها للمطلق في الموقف مما أسميته بالفردية الفردانية في الإبداع الأصيل، بوصفها معاناة واعية للإشكاليات الجوهرية (الواقعية) للأمة وارتباط صميمي بمرجعياتها وحدس لآفاقها. إلا أن هذه الثالوث الذي يمكن أن تبنى عليه أيضا فلسفة الأصالة الشعرية، تراكم بصورة جزئية في مجرى المواجهات الأولية للإبداع الحر مع واقع الشعر وحالته المعنوية.

فقد أثارت حالة الانحطاط شعور النفور عند اغلب الأدباء والشعراء العرب منذ بدء عصر النهضة الأدبية المعاصرة. ولم يخلو أي أديب عربي كبير من إشارة أو لمحة أو موقف أو تقييم أو حكم عميق تجاهها. فنرى المويلحي في معرض حديثه عن ديوان احمد شوقي، يشير إلى أن ضعف الانتقاد أو شبه غيابه التام والاهتمام بالمدح هو سبب التقليد وانحطاط الشعر والحالة الشعرية العربية. في حين شدد الزهاوي على ضرورة تجاوز النقد مهمة "تفريغ الأحقاد" وتوجيهه صوب الكشف عن عدم تطابق الشعر مع الواقع أو قلة روعته. بينما وضع المازني مهمة الناقد في أن يرسم صورة صادقة للكاتب ويقدم وزنا عادلا لآثار قلمه ومظاهر نفسه18.

فالنقد الأدبي حسب رؤية المازني، ينبغي أن يستند إلى ما في الأدب نفسه والى قواعد خاصة في تقييمه سلبا وإيجابا. أي انه لا قيمة ولا وزن لشهرة الشاعر بحد ذاتها. لان قيمة الأدب والشعر في قيمته الفنية والجمالية (المعنوية). فقد كان الهمّ العميق وراء المواقف والآراء النقدية للأدب والشعر عنده يقوم في محاولته هدم "الأصنام الجديدة". ووضعت في محاولتها "برنامج" عملي يستند "على تفصيل المبادئ الحديثة" و"استردافها بنماذج للأدب الراجح من كل لغة" و"صياغة قواعد كالميزان لأقدارها". إلا أنها لم تجسد سوى جزء من "تحطيم الأصنام الباقية". أي أن ما قدمته ونفذته هو السير في اتجاه تعميق وترسيخ ضرورة الشعور الذاتي العربي تجاه ذاته وموروثه عبر بناء الصيغة الأولية للرؤية النقدية اللاذعة تجاهه. وأبقت مشروع "النماذج الأدبية الراجحة" من مختلف اللغات و"ميزانها" في وزن الإبداع الأدبي والشعري في طي البدائل المقترحة والمرغوب بها. وفي هذا النقص تكمن قيمتها التاريخية بالنسبة للغة الشعور الذاتي العربي المعاصر بوصفها لغة الحرية و"الشعر الحر. فقد كتب المازني في (الشعر وغاياته) عن أن "الشعر يلذ قارئه إذا كان للمعاني التي يثيرها في ذهن القارئ في كل ساعة تجديد وفي كل لحظة توليد".  وان "قيمة الشعر ليست فيما حوت أبياته واشتملت عليه شطراته فقط، ولكن قيمته أيضا بما يختلج في نفسك ويقوم في ذهنك عند قراءته. فان الشعر الجيد كالبحر لا يقف عنده الفكر جامدا، وهو كشعاع النور يضئ لك ما في نفسك ويجلو عليك ما في ذهنك".  أي أن الشعر الكبير هو الذي يشرك القارئ في معاناته بطريقة تجعله شريكا في الحس والرؤية والفعل، ويدفعه إلى تأمل العالم ونفسه ويضئ في أعماقه نور العقل والوجدان بقدر واحد. فالشعر الحقيقي هو موسيقى الشعور المخلص للحرية.

لقد تمخضت معاناة الرؤية الأدبية بشكل عام والشعرية بشكل خاص منذ بدايات النصف الثاني للقرن التاسع عشر عن ترسيخ وتعميق الشعور الذاتي وتحويله إلى لغة الشعر المتحرر من قيود الماضي وتقليديته الخانقة. وتوصل إلى أن حقيقة الشعر هي الحرية، التي صنعت في وقت لاحق عبارة "الشعر الحر". مع أن حقيقة الشعر هي الحرية. و"تحرير" الشعر من القافية لم يكن ضمانة حريته كما أن تحرر الشعر من قيود الماضي لا يعني انه أصبح "شعرا حرا".

لقد أوصل البحث عن الحرية الرؤية النقدية العربية إلى مفارقة "الشعر الحر" وجعله نموذجا وأسلوبا للإبداع الشعري. "فالشعر الحر" ليس معضلة الشعر بحد ذاته، بل معضلة الخلل العميق في مشاعر الأمة وجمود روحها الثقافي. وبالتالي ليس "الشعر الحر" سوى مفارقة لها معناها التاريخي والثقافي فقط. أما جوهرها الفني والجمالي، بوصفه تعبيرا عن الشعور الذاتي للأمة، فانه كان وسيبقى القضية الأكثر تعقيدا بالنسبة لتقاليد المنسوخ والممسوخ في الوعي الذاتي العربي وآفاق رؤيته وتحقيقه للحرية الفردية والاجتماعية والقومية.

 

...............

الهوامش

1- احمد شوقي: مقدمة الشوقيات، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الثاني)، ص490 .

 2- عبد الرحمن شكري: في الشعر، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الثاني)، ص629.

3-  عبد القادر المازني: الشعر وغاياته، ص 157-158.

 4-  المصدر السابق، ص158.

 5- شكيب ارسلان: حقيقة الشعر، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الأول)، ص273.

6- جرجي زيدان: الشعر العصري، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الأول)، ص227.

7- مصطفى لطفي المنفلوطي: (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الأول)، ص283.

8- ميخائيل نعيمة: الشعر والشعراء،(نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الأول)، ص305.

9 - معروف الرصافي: الشعر، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الأول)، ص330.

10 - عبد الرحمن شكري: في الشعر ومذاهبه، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الثاني)، ص640.

11- ميخائيل نعيمة: الشعر والشعراء، ص301.

12- مصطفى الرافعي: الشعر، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الثاني)، ص530.

13- مصطفى لطفي المنفلوطي: الشعر، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الأول)، ص282

14- جميل صدقي الزهاوي: نزعتي في الشعر، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الثاني)،  ص558-559.

15- المازني: مقدمة، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الثاني)، ص671.

16- بإسهاب يمكن الرجوع إلى هذه القضية في كتابي (حكمة الروح الصوفي)، الفصل الثاني والثالث من الباب الخامس، ص219-303.

17 - المويلحي: نقد الشوقيات، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(مرحلة الإحياء والديوان – القسم الثاني)، ص515.

18- المازني، العقاد: ترجمة المنفلوطي، (نظرية الشعر)، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات عصر النهضة)، وزارة الثقافة، دمشق، 1996 ،(كتب مدرسة الديوان)، ج2، ص230.

19 - المازني: الشعر: غاياته ووسائطه، ص29-30.

20 - المصدر السابق، ص31.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1065  الاثنين 01/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم