قضايا وآراء

ما بين الثقافة والاعلام

الثقافة  التي نعني هنا، هي اثنتان: ثقافتنا الذاتية المتوارثة والتي يجب ان ترافقنا حياتياً، بمعنى ان تظل قائمة لانها الاصل، وان تظل مفيدة نافعة متجددة، لاننا نعيش عصرا غير الماضي، والثقافة الواردة علينا عبر الكتب والمجلات، وعبر الرحلات وعبر تداخل الاعمال التجارية، وعبر اجهزة الاتصال او وسائل الاعلام.. عبر هذا كله وغيره من وسائل الاتصال التي اصبحت ميسرة، فاصبحت ترى وتسمع وتشارك فيما لم يكن يخطر لك على بال، وفيما لم تكن تعرف عنه شيئاً...

اما ثقافتنا الذاتية، فقد قصرنا فيها حين غيبنا التربية عن ساحات المدارس. ففقدنا الاتصال بالأصل، واضعنا سبل التوجه نحو المستقبل. وبذا تركناها عارية الصدر والظهر امام سهام ترشقها من كل جانب، منا نحن ومن الذين يعادوننا التاريخ كله. وكان علينا ان نختار بين ان نبقى مع انفسنا فنهاجر للمستقبل مزودين بخير التاريخ او ننسلخ منه ونختار سبيلاً جديداً بعضه يقود الى بعض، بحيث نصبح خلال مساره غيرها!! فتهنا وما زلنا، وحتى لا نظل كذلك، علينا ان نحدد اسس ثقافتنا ـــــــ وما نظنها مختلفاً عليهاــــــــ وسبلها، وذلك هو الاهم، بحيث تكون المعالم واضحة منسجمة لا يلغي بعضها بعضاً او يتناقش معها، في سياق الاستراتيجية الاساسية للدولة.

واما الثقافة الواردة، فليس لها ان تخيفنا، اذا جهزنا انفسنا لاستقبالها وحددنا هدفنا وعرفنا سبيلنا، فحينذاك نفتح لها الابواب والعقول لنعرف ايها اجدى وابقى: ما لدينا ام ما يعرض علينا.

مصادر الثقافة الوافدة متعددة، واخطرها ما يرد عبر الفضائيات. لانه يفاجئنا مقتحماً... وقد تكون وسط عائلتك حين تبث قناة فضائية فكراً او سلوكاً يتناقض مع ما تتبعه امامهم، فكيف ستتصرف؟

وبالمناسبة، فان تجاهل امر ما لا ينفي وجوده ولا يلغي وقوعه او يمنع استمراره، ولا يؤدي الى ذلك الا التحصين بفكر مستنير، فليس هناك مجتمع يتطلع لأن يعيش مقتدراً قوياً، ولكن هذه القدرة والقوة لا تتم بالاحلام بل بالعمل. والمجتمع- أي مجتمع- الذي يعتز بثقافته، فعليه ان يبني مستقبله، ويقوم حاضره، ويجدد ماضيه..

وبرأيي، انه ما دامت الثقافة تنتقل عبر وسائل الاعلام، فلماذا لا نعيد العلاقة بينهما، بحيث تكون الثقافة والاعلام كلاً واحداً يتحركان بتعليمات عقل واحد؟!

والاعلام ذاته، تغيرت رسالته وتطورت، فلم تعد مجرد النقل او الابلاغ بحدوث أمر تجاوزت ذلك كثيراً، فصارت الرسالة عدت رسائل يفترض انها تعتمد الثقافة العامة للمجتمع، تنبع منها وتصب في قنواتها وتتجدد في تفاعلاتها الاجتماعية، فتؤثر فيها، وتتأثر بها، فمحصلة ذلك يجب ان تكون ما حددته الاستراتيجية السياسية، ومن هنا، فان الذين فرحوا وهللوا بالغاء وزارة الاعلام، اعتماداً على ان الديمقراطية تفتح المنافذ كلها ولا تحتاج لمن يقول لك ماذا تريد او كيف تريد، استعجلوا عن غباء وتشفي، فلا الديمقراطية عندنا متجذرة، ولا اصبحت بعد سلوكاً اجتماعياً بل انها حتى تكون كذلك، ستظل تحتاج الى من يقول لك، ماذا تريد وكيف تريد، حتى يستقر الامر كله، وساعتها يكون الاختيار.

ولا اظن الديمقراطية تلغي نظيرة القيادة، بل هي تحافظ عليها، وان كان من الممكن ان تغير في شكلها او نوعها، او انها تلغي المرجعية التي يجب ان تقوم، سواء كانت ملموسة او محسوسة، منظورة او غير منظورة. ومع ما سبق الاشارة اليه من اختراق اجهزة الاتصال وما تحمله من ثقافات وافدة لساحاتنا، فان مواجهتها لا تكون الا بمثلها ومن خلال الاستراتيجية الاساسية، فيتحول الفرد الى عضو في المجموعة يؤدي دوره فيها بما عقله من دوره في الحياة، ومن رسالة مجتمعه... وهذا لا يكون الا اذا تمت تهيئة الارضية الثقافية والفكرية التي ستكون النبراس والهادي. وهذا لايأتي عبثاً بل هو نتاج النظام التربوي والتعليمي والثقافي. ومن نافلة القول التذكير بدور وسائل الاتصال والاعلام الفاعل، حيث ان الاعلام في تلك الحصيلة هو عنصر، ومحرك معاً.

اما الاعلام، كمهنة، فهو يعاني لدينا من نواقص ليست مقصورة عليه وحده بل تشاركه فيها العناصر المكونة لوجدان الانسان العراقي، واهم تلك النواقص او الاختلالات، تقع في ثلاث او اربع مجالات، وهي المهنية والابداعية وهما ساحتان مرتبطتان لا يمكن ان تنجح واحدة منهما دون الاقتران بالثانية، والمقصود بالهيمنة معرفة اصول تلك المهنة العلمية ووسائلها التقنية والاستفادة منها في الحد الاقصى، والابداعية هي المقدرة على صياغة البرامج وتقديمها بالشكل المجدي، ومتابعة كل جديد. ومجال آخر، هي من الاهمية بمكان. الا وهي المعلوماتية، وعلى حد علمي فاننا في الحد الادنى منها لا بل العدم، فليست لدينا المعلومات الكافية عن كثير من القضايا الاساسية التي نتناولها سواء في احاديثنا او في وسائلنا الاعلامية، وعلاقتنا مع المراجع وبنوك المعلومات محدودة جداً، وبسبب ذلك يظل تناول مؤسساتنا الاعلامية ووسائلها.. لكثير من الموضوعات قاصراً، مما يجعله احياناً مجرد لغو... وما دام هذا حالنا في المعلوماتية فان المستقبلية، وهي علم استشراف المستقبل، لن تكون افضل حالاً، بل انها مجال لم ندخله حتى الآن!!

ومجال آخر تراجعنا فيه كثيراً، وهو الزمالة المهنية وحلت محلها الفردية. فالعمل الاعلامي عمل جماعي، وان كان يبرز افراداً مرموقين، حيث ان الابداعية فردية اما الانجاز فهو حصيلة عمل جماعي، وهذه الفردية اصبحت سلوكاً عاماً استشرى وسيطر على التفكير العراقي فافرز العديد من الاشكاليات... وصار عائقاً امام العمل الجماعي الذي هو في الاصل والمال ضمير المتكلم ومستقبلهم.

ونتيجة لما سبق.. فان اعلامنا باشكاله المختلفة ما زال يفتقر الى المبادرة او المبادأة، ولذا فهو منفعل اولاً، والمنفعل يكون ضعيف الاقناع، وهو تبريري لانه يتعامل مع الحدث في اعقاب حدوثه، لانه غير قادر على التوقع وخائف من النتائج، يحاول احياناً ان يخفي الحدث ظاناً ان ما لا تعرفه هو بحكم الذي لم يحدث، وهذه مغالطة خطيرة تفقد الثقة به وتدعو المواطن للتفتيش عن الحقيقة اينما كانت، وحتى الذين يحاولون الخروج على هذه القاعدة يتجهون الى الطرف الاقصى فيقعون في اخطار هي انعكاس للاخطاء الاولى.

هذه العيوب والنواقص ليس صعباً التغلب عليها والبرء منها، ولكنه يحتاج الى الدخول في جدلية التعليم والثقافة والاعلام وتداخلها العضوي، بعضها في بعض، وضرورة انسجامها فيؤدي بعضها الى بعض دون تعارض او تضارب بين مخرجات كل منها بل تكون كلاً واحداً، فتحافظ على وحدة الوجدان وسلامة التفكير والتوجه، ومن ثم كان اختيار احد العاملين فيها والاهتمام المتواصل بتدريبهم وتزويدهم بالمعلومات ورصد الامكانات المالية للمشروع الحيوي، وهو صياغة وجدان وفكر المواطن، وامور يجب ان تلقى الاهمية.

ومرة اخرى، لماذا لا نعيد العلاقة الحميمة بين الاعلام والثقافة ونجمعها في جهاز واحد تكون مهمته التعاون والتنسيق مع اجهزة التربية والتعليم لصياغة ذلك المشروع الحيوي؟!

وحينما نتحدث عن الثقافة والاعلام فلا نعني ثقافة او اعلام حكومة ما، بل ثقافة واعلام الاستراتيجية الوطنية، تقوم اجهزة على مسانتدتها لا توجيهها، فوجهتها اصلا الوطن وبناؤها الانتماء له والايمان بقضاياه، ولذا فان الاختلاف في الاجتهاد ممكن بل وحتوم احياناً لكن المرجعية يجب ان تظل قائمة بما حصلت عليه من اجماع ادى الى اقرارها ضمن الاستراتيجية.

اما الشكل فلا ارغب في اقتحامه، فليس مهماً الجهة التي تتبعها مؤسسة او هيئة الاذاعة والتلفزيون مثلاً سواء كانت مجلس ادارة او وزارة بل المهم ان تكون اذاعة الوطن بكليته وتلفزيون الدولة بمجملها، وهي في كل الاحوال ستتبع جهة ما ولذا فان المهم هو ما تقدمه ومدى ارتباطه بحقوق الفرد في المعرفة وباداء الواجب نحو الوطن...

 

في المثقف اليوم