قضايا وآراء

الخيبات العربية، وأسطورة وطأة التاريخ (1)

بصرولا نظربالكلام، وأماأخي الواثق: فانه استحق ما قيل فيه الخليفة المتوكل عن المؤرخ الخطيب البغدادي

مقدمة

ان الجماهيرالعربية مهما ناءت بها أحمالها وأثقالها، فلا تخذلها غريزتها في ادراك مصالحها، فهي تهرول اليها بفطرتها حينا بالثورات والانقلابات، وتثاقل دونها أحيانا في انتظارالمصلحين ورجال الساعة المنقذين، لكنها تتجه تلقاءها على الدوام قي انتظارالزعماء القدوة المخلصين

 وان هذه الجماهير العربية قد طال بها الأمد، وضاق صدرها، ولم تعد تفقه ماذا ألم بالساسة والنخب العربية المتغطرسة، فهم في وادي، والشعوب العربية في أودية أخرى، وكل في فلك يسبحون، حيث أصبحت الخيبات السياسية العربية المتتالية منذ ما يسمى ب النهضة في عداد المسلمات، ومهازل الساسة - وما يسمى بالنخب- غدت من الأمورالمعلومة بالضرورة، وسقطات هؤلاء وأولائك أضحت من مناقبهم، فلا عبرالتاريخ تعضهم، ولا ضربات القدرالموجعة توقظهم، ولا معاناة شعوبهم تحرك مشاعرهم، ولا مكامن بقايا عروبة تحفزهممهم، أوصفاء دين يزكي أدران بواطنهم، فذاكرتهم مخرومة، وضمائرهم ميتة، وعقولهم فارغة، فأما النخب المثقفة التي هي ملاذ الشعوب فهي في أبراجها العاجية متعالية ومتنرجسة، منشغلة ب التظير و التنوير و التثوير آناء الليل وأطراف النهار، وهي عن واقع الأمة جاهلة وشامتة، وأماالساسة، فهم يعيشون في ملكوتهم يضربون أخماس في أسداس يعانون من هموم توريث الأبناء و تسمين العشائر، وعند أضعف الايمان، يبحثون في الآفاق عن اكسير الشباب والخلودالأبدي، وفك لغزالحفاظ على الكرسي،

غيرأن التاريخ الذي لا يرحم، سيستمرفي اصدار أحكامه القاسية ضدهم، عبر مراياه الخفية التي يضعها في مواقع العبر، ليقوم اعوجاجاتهم، فيعلي بأقوام غيرهم الى عليين، ويهبط بآخرين الى أسفل سافلين بما كسبت أيديهم لعلهم يرجعون، مع عدم اغفال مكرالحق للذين يمكرون، أمرمقضي ولو بعد حين، ولناأسوة حسنة في تاريخ الأمة البعيد والقريب المليئة بالعثرات والهنات، لمن ألقى السمع وهو شهيد

 

ماهي الحلقة المفقودة للخيبات العربية؟

 ان التنقيب عن الحلقة المفقودة للخيبات العربية المتتالية عبرالتاريخ، وصولا الىخيانتهم للأمانة عشية سايكس- بيكو المشؤومة، ليس صعبا، ما دام التاريخ قد سجل لنا سلسلة الأحداث، المتلاحقة المتماثلة والمخزية المولدة للتناتج، الموصل الى النكبة بسبب الخيانات والأنانيات و الفهلوات المفضية الىالنكسات، والمزيد من الانحرافات المؤدية الى العجزالكلي في ايجاد أي حل عقلاني لقضايا شعوبهم وبالأخص، قضيتهم الكبرى والأولى فلسطين المغتصبة و القدس المدنسة والعراق الجريح، ... تلك الأراضي المحاصرة بين هراسات العدو، وكماشات التناحرات الداخلية المسثنبثة خارجيا، وهراسات خبث الساسة، ولؤم الأقربين، ونفاق الأبعدين، وخسة العالم، وخيانة النخبة والمثقفين، وهوماشهدته منطقة الشرق الأوسط قبل ذلك بقرون، لم يكن فيه عجبا، فما هوالا العملة المتداولة، أو اللغة الرائجة، أوالعجلة الدوارة..

 

 البانوراما التاريخية للخيبات العربية:

 كمال النهايات من حسن البدايات، وسوء الخواتم من سوء البدايات، سيد الطائفة أبوالقاسم الجنيد البغدادي

 عندما تولى العباسيون الحكم، كان مؤسسو الدولة يعرفون للفرس منذ البداية عارفتهم، بل كانوا يشيرون الى خراسان على أنها (باب الدنيا) كما ذكر المؤرخون . والجاحظ المعتزلي يقول بعد قرن من قيام دولة بني العباس: دولتهم أعجمية خراسانية، ودولة بني أمية، عربية أعرابية .

 وللتذكير، فقد كان عصر بني العباس النضيرالوجوه بخلفائه وعلمائه، وسفراء الدنيا في علوم الدين والدنيا، قد ملئوا الأنام، عندما كانت تعاليم الاسلام والعروبة، - منذ عهد بني أمية انطلاقا من دمشق-، تدرس من سمرقند شرقا، حتى اشبيلبية غربا..، وانداحت رقعة الاسلام والعروبة، في وسط الكرة الأرضية، وكأنما تمسكها من وسطها، حتى ان امبراطورالصين العظيم، كان قداستعان على أعدائه في عزمجد الامبراطورية الصينية بأبي جعفرالمنصورالعباسي ...، غيرأنه مع ذلك، كان يجن تحت ثرى هذه الدولة العربية الفتية الناهضة، بدو فنائها بما كسبت أيدي أبناء الرشيد ومجانيها..وفساقها.

 

كيف بدأت ميكروبية الادبار؟

وأما الحلقة المفقودة في أسباب ادبارهذه الدولة العربية الهاشمية، وبدايات تتابع الأحداث المشئومة وتناتجها، فقد بدت تباشيرها وأعراضها الخفية مبكرة، منذ زمن الرشيد الذي قد أعد للأمورعدتها -حسب وصية الامام الأعظم أبي حنيفة النعمان -، حين هيأ أبناءه ليقيموا الدولة العربية على دعائم الدين والعلم، فكلف الفقيه علي بن مبارك الأحمر: مؤدب ولده الأمين، بمهمة تكوين ولي العهد بقوله: كن له بحيث وضعك أميرالمؤمنين، اقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن والعبر، وبصره بموقع الكلام وبدئه. فتعلق أمل العرب بالأمين، الذي كان عربيا خالص الدماء، أمه زبيدة بنت جعفر، وأبوه الرشيد بن المهدي بن جعفر المنصور، فتولى الخلافة سنة 139 بوصية من أبيه، تجعل لأخيه المأمون ولاية عهد الأمين، فخان عهدأبيه وأمانة الأمة، فكان تقديرالسماء قدغلب تدبيرالبشر، عندما لم يحفظ الأمين شيئا من تربية أبيه ولا من وصايا معلمه، ولاتعليم فقيهه الامام مالك، الذي جالسه لفترة قصيرة بالمدينة المنورة، فقد غلب طبعه على تطبعه،

ومن سخرية القدر، أنه حين آلت الي أبناء الرشيد الخلافة، استطرد كل واحد منهم في واحدة أو أكثرمن مزايا الرشيد أوعيوبه، كل حسب طبعه وما جبل عليه، فلا علم ساعتها ينفع ولا تربية تزكي..

فأما الأمين: فقد انحازالى العرب انحيازأبيه في أخريات ايامه، غيرأنه لم يكن مثل أبيه الذي كان نسيجا وحده كما وصفه المؤرخون والمستشرقون، فساق الأمين نفسه بلهوه وطمعه وميوله الى الفسق والشذوذ، الى مصرعه ..

 

 وأما المأمون: فبسق في العلم حتى فاق الأولين والآخرين من جميع خلفاء بني أمية وبني العباس، ولكنه ألقى بنفسه في أحضان الفرس والشعوبيين بتفضيله العجم (وكانت أمه خراسانية) الذين أجاءوه الى الخلافة، على العرب الذين حاربوه مع أخيه، فاذا جند خراسان تغزوالعراق من جديد، لتحل محل الخليفة العربي الأب والأم (الرشيد وابنة عمه زبيدة) .. فأستأذب الحكام الفرس على العرب بحكم المأمون، الذي اتخذ مدينة مرو الخراسانية قاعدة له، فيعيد التاريخ هنا نفسه، فما هي الا نفثات صراع –تاريخي- دفين، كصوت الأنين القديم، يعلوويهبط، بين الفرس الذين يريدون استعادة مجدهم الغابر، والعرب الذين تأذن شمسهم بالأفول، عندما أدى المأمون ل طاهر ابن الحسين قائد جند خراسان ثمن انتصاره، مما هيأ لقيام الدولة الطاهرية (202-259) بخراسان،

 

 أما المعتصم: فقد سمق في الشجاعة وقيادة الجيوش وقوة البدن والشكيمة، لكنه أضاف الى سيطرة الفرس أخوال المأمون، التمكين للترك أخوال المعتصم، فأسقط العرب نهائيا من الديوان، وقصرالجيش على الأتراك، فسيطروا على مراكزالقوة في عهده،

 

وفي عهود هؤلاء الاخوة الثلاثة، انفض ذلك الوعاء البديع الذي كان يمسكه الرشيد بين راحتيه في يقظة وبراعة وحزم، ويصونه بتوازن حكيم –مع بعض هناته- بين أسباب العلم وأساليب القوة، وبين قوة في التدين بدون افراط، والرفاهية في غير فسق، وبين الموالي والعرب، وبين المسلمين وأهل الذمة، وكأنما جمع في يده من كل أطراف الخلاف أسبابا للاتلالف في أوسع رقعة عرفتها دولة اسلامية، قوامها الوحدة من خلال تعدد الجنسيات والمذاهب والملل والنحل، -مع عدم اغفال الاضطهاد المتصل لأهل البيت العلوي، - مع التواصل المخلص بين العناصروالأواصر (وتلك من تناقضات آل العباس، ينكلون ببني عمومتهم من آل أبي طالب، ويتسامحون مع الغرباء والشعوبيين والزنادقة)،

 

درس الخليفة المأمون

وكان الدهرللدولة العربية بالمرصاد في ادبارها، بمجرد أن قضى الرشيد نحبه، فقلب التاريخ الصفحة من النقيض الى نقيضه، فقتلت جيوش الفرس الوافدة من خراسان الخليفة الأمين ابن الرشيد..

ومن الادباران انقلب-فجأة- تسامح الخليفة العالم الفيلسوف والفقيه -المأمون- الى تعصب عنيد، بالرغم من أن التاريخ يشهد له بعلمه وفضله، وكان أكثر أبناء الرشيد محبة للعلم والفلسقة بينما كان غيره كلفا باللهو والمجون، و كان ورعا نظارا جدلا أديبا نقادا، ولم يكن في الشعروالأدب أقل نفاذا، وكان طبعه في أوائل أمره مزاجا من الحلم والغضب، وان كان الحلم فيه أغلب، وكان حريصا على حرية التفكيروحسن التعبير، لايمنعه التزام نحلة أن يكون له رأيه، يتشيع لعلي ولكنه لا يقدح في أبي بكروعمر، وما مس عظيما من السابقين بسوء، وهوصاحب المقولة المشهورة غلبة الحجة أحب الي من غلبة القوة –لأن غلبة القوة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء وقد عيب عليه أنه كان مفتونا ب النظام من شيوخ المعتزلة وشيخ الجاحظ أ واتهم انه في جداله مع المحدثين ورث عنف النظام في عنف الكلام، غيرأنه لأسباب غريبة، اختلف في تفسيرها المؤرخون والنقاد، عن أسباب افتعاله لمحنة خلق القرآن التي كانت ثالثة الأثافي على الأمة وعلى الدولة العباسية التي فصلت بينه وبين العلماء والفقهاء والمحدثين، وكانت هجوما مباشرا على أهل السنة والجماعة، فكانت الفرقة وتوالد الفرق، وفتنة الخلافات والاختلاف، ومحنة ابن حنبل والتنكيل به بأمرمن الخليفة، وظل سجينا معذبا تحت ظل ثلاثة خلفاء عباسيين، مما ورث حقدا متّأصلا ضد كل الفرق الاسلامية-استمرالى اليوم- تسنم حمل مشعله، شيخ الاسلام ووارث علم ابن حنبل ابن تيمية، كماأمست جسارة المعتصم (بطل عمورية) والتزامه بالوفاء لأخيه شراسة بلهاء وطاعة عمياء

 

نهاية حكم العرب في المشرق العربي

 وأكمل القدردورته سراعا في التعجيل بادبار العرب، بحكم ابن المعتصم الواثق (المكبكب في الخلاعة والمجون) الذي عين قائده أشناس ملكا، فسيطرالأتراك على مقاليد الحكم كلية، بينما تفرغ الخلفاء بدءا بالواثق للطرب، والتهتك، والفسوق–اذ كان ملحنا ومطربا له تلاحين معجبة—كما ذكر صاحب الأغاني، فانظر-؟فسيطرالأتراك على الخلفاء أنفسهم، وعتوا في الأرض مفسدين، واستفتح عصر السيطرة الأجنبية على مقاليد أمورالدولة العربية منذ ذاك الحين، بمقتل المتوكل (247للهجرة) الذي فاق الواثق في استهتاره وفي نقائصه، والذي تآمرعليه ابنه الملقب بالمنتصر لتفضيله أخيه غير الشقيق ابن الوصيفة قبيحة وبموت هذا الأخير عين الأتراك ابن عمه المستعين ثم خلعوه و حبسوه ومات مسجونا، ثم ولوا المهتدي بالله-وكان صالحا ورعا- فلم يعجبهم فقتلوه الى ان تنتهي مسلسلات قتل الخلفاء بالمستعصم بالله (عام 656للهجرة) الذي كان أشهربني العباس كلفا بالمجون والعبث، واكتملت الدورة الزمنية القاهرة، بقيام المماليك، الذين أشهروا علو قدرهم، وتعاليهم على العرب الذين أوهن التفريط والتفسخ قوتهم-وما يزالون-، ونكس الفجوروالتغافل أعلامهم –كما هو مشهود اليوم-، مما هيأ التربة المواتية للغزوالصليبي القاهر، فالطوفان المغولي الماحق، الذي اكتسح المشرق العربي كله الى مصر، ومن تم تتابعت السقطات والخيبات المتتاليةحتى عشية بلفور و سايكس بيكو -كما سنرى- التي استنبتت سلسلة متناتجة لخيبات مريرة أخرى بنفس تكرارالسياناريوهات الغبية الغابرة، والاستمرارفي الاستسلام والخنوع الى نفس الدورات الزمنية القدرية المقيتة بالارتتام في أحضان من هب ودب من أعداء الأمة ولو كانوامن همج رعاة بقر وصعاليك التاريخ من اليهود الصهاينة

 للبحث صلة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1239 الجمعة 27/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم