قضايا وآراء

كيف نستعين بما بعد الحداثة لنفهم الحداثة

وربما كان ذلك الذي توصّلنا إليه قد جاء بفضل ظهور السوبرحداثة بحدودها الهلامية، التي جعلتنا نعود إلى مفاهيم سابقة لنفسّرها من جديد.

 

ويقول المرحوم العالم الأمريكي "فلسطيني الولادة" الدكتور. إدوارد سعيد مُعرّفاً المُثقّف ودوره الاجتماعي في وقتنا الراهن:

 

"إن الدور الاجتماعي للمُثقّف يكمن في أن يكون لا منتمياً إلى جماعة، هاوياً لا يُتقن العلم كحرفة، ومُعكّراً للوضع الراهن. فالمُثقّف هو الشخص الذي من غير الممكن التنبؤ بتصرفاته لأنه لا يرضخ لسلطة عقيدة ما أو حزبٍ ما"

 

ولا أُريد هنا أن أُسجّل تأييدي إلى كل ما ذهب إليه أدوارد وهو يدعو بضراوة: أن لا للأيدولوجيا ولا للأحزاب، وهذا ما لم يتحقق في أي مجتمعٍ بشري لحد الآن.

 

وعندما تدرس "السوبرحداثة" الممكنات عموماً ولا تتصدى لدراسة الحقائق الواقعية التي تتضمنها، فهي التي بدأت تُنسّق وتُفسّر الصلة والقفزة المفصلية التي حدثت بين الحداثة وما بعد الحداثة.

 

إذ تدرس الحداثة العالم الواقعي وتعتبره قائماً بذاته مستقلاً عن العقل وموضوعياً، بينما تُعتبر ما بعد الحداثة إن العالم غير مستقل عن العقل وغير موضوعي، بل هو نتيجة بناءات عقلية.

 

واليوم توصّلنا إلى أن الممكنات قائمة بذاتها، مُستقلة عن العقل، ومعتمدة عليه، فالممكن هو موضوعي أيضاً في العالم الواقعي.

 

وقد اعترفت الحداثة بنظام فكري واحد، بينما اتجهت ما بعد الحداثة نحو التعددية ودافعت عن البراغماتية في المجتمع.. ولكنّ السوبر حداثة نبّهتنا اليوم إلى وجود التعددية في الفرد ذاته ورفعت شعار "المطلق هو مجموع النسبيات".

 

وهنا لابد من الإشارة بأن لعلم الأفكار قدرة تفسيرية ناجحة لبعض الظواهر ويُشكّل نظرية أو مذهباً قائماً بذاته لديه القدرة على تفسير لماذا نشأت بعض الأفكار والمذاهب في الماضي، ولديه القدرة على التنبؤ بالأفكار والمذاهب التي تنشأ في المستقبل.. وهكذا يُمكننا اليوم أن نختار اللامحدد كميدان عمل حيث كان "كانط" قد طبّقها على العقل والإدراك، بينما هيغل طبّقها على الوجود، وقد تشخّصت الفكرة في ميكانيكا الكم التي تقول أنه من غير المحدد سرعة الجسم ومكانه، وتنبأت بأن فكرة اللامحدد سوف تُطبّق في علم الاقتصاد، وطُبّقت بالفعل، وكذلك تم تطبيقها في ميدان تحليل مفهوم المعنى وفي ميدان البيولوجيا، فأصبح يُشكّل نظرية علمية وليس فقط نظرية فلسفية، من هنا نستطيع أن نُقدّم الدليل على صدق علم الأفكار وقدرته التفسيرية الرأسمالية اللااحتكارية. حيث ينتصر النظام بسرقة صفات عدوه مثلما حدث ويحدث في اشتراكية الصين.. الرأسمالية اللااحتكارية هي التي تضمن عدم تكدّس المال في رؤوس بعض الأفراد أو الشركات. كل ذلك جعلنا نتقبّل ونتيقّن من أن مفاهيماً جديدةً حلّت، ولابد من التفاعل معها.

 

التعددية والقومية: تُشكّل التعددية جزءاً أساسياً من الليبرالية، حيث يحتضن المجتمع جماعاته الأثنية المختلفة، ويحترم عاداتهم وحريتهم في التصرّف على ضوء معتقداتهم.

 

الزمكان: كمكوّن من أشياء وأحداث وهي بناءات لغوية متلازمة، حتى لا نُطلق عليها "العدم" أو ما يُسمّى بالثقوب السوداء.. حيث يعتبر الممكنات بناءات لغوية مثلها مثل الاحتمالات رغم أن الاحتمال صفة من صفات النظريات والفرضيات وهو مسألة درجات.

 

إعادة توزيع الثروة: هو توزيعها بشكلٍ متساوٍ على الأفراد كافة أو بشكلٍ متقارب من مفهوم التساوي.. إعادة توزيع الثروة له مُعارضون، كما له مؤيدون "مُدافعون"، المؤيد لا يرى حق الأغنياء فيما يملكون، ولو تمّ الامتلاك عن طريق آليات تاريخية عن طريق الإرث عن الأجداد، ويرى ضرورة سحب هذه الممتلكات والأموال، وإن كان يتعارض هذا الإجراء مع مبدأ الليبرالية، وهذا ما قاله الرافضون.

 

وجاء حلٌ عن طريق رولز Rawls بإنشاء مؤسسات تقف إلى جانب الفقراء وتُساعدهم ليقتربوا من الأغنياء.. يوجد دليل برغماتي يُبرهن على أن إعادة توزيع الثروة حقٌ لا ريب فيه في عصرٍ آتٍ أو مُتخيّل يُدعى عصر الحداثة.

 

اليقين واللايقين: نجد أن الحداثة تسعى إلى اليقين ودراسته وما بعد الحداثة تدرس اللايقين، وتدعى أنه صفة ملازمة لها، نجد بالمثل أن السوبر حداثة تدرس اللامستويات على أنها معقوليات وتدرس اللايقين على أن يقين.

 

المُمكن والعقلاني: تتميز الحداثة بقبول وجود أسس وماهيات، وما بعد الحداثة ترفض وجودها، لكنّ "السوبرحداثة" لا تُعنى بوجود الأسس والماهيات أو عدم وجودها، بل تُعنى بدراستها كممكنات.

 

وفي مُجمل الحديث تقول السوبرحداثة بأنّ كل شيءٍ جائز، وهذا يختلف عن محددات وصرامة الحداثة وما بعدها.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1239 الجمعة 27/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم