قضايا وآراء

الرسالة الخامسة: انتفاض الطبقات المحرومة على القيادات الفاسدة عبر التاريخ

abduljabar alobaydiفي كل المجتمعات القديمة والحديثة تنظر القيادات الفاسدة الى مواطنيها نظرة دونية لتجعلها في ادنى مراتب المجتمع ماديا ومعنويا ولا تعير لحياتها من اهتماماتها في الحقوق والاحترام لكي تبقى هي السائدة. مرَ هذا في عصر الدولة المصرية القديمة، ولم تتبدل الحالة الا بثورة عارمة قلعت جذورها وحررت نفسها من قيادات الفساد والافساد كما حصل في عهد الفرعون راع المصري القديم .

ونتيجة لهذا التوجه القاسي أنحط مقام تلك الطبقات وضاعت حقوقهم، هنا بدأ الشعور الشعبي يتزايد بالسخط والخلاص وقد كان هذا تعليلا للثورة الشعبية التي نادى بها أخناتون، وطالب بالثورة على الطبقة الحاكمة المستغلة لحقوق الشعب، فبدأ الأتجاه الى تجريد الطبقة الحاكمة المستبدة من قدسيتها المتمثلة بمرجعيات الدين، حين دعت الى فصل الدين عن الدولة، وحين تحقق أزيلت الطبقة القائدة الفاسدة من حكم المصريين.

وتشابه الموقف في العهد الاشوري حين تعاظمت سلطة رجال الدين وعسكرة العسكريين وتعاظم عبئوهاعلى الطبقات العاملة فجاءت الفرصة للجماعات الموسوية (أتباع النبي موسى) لكي تتزعم الطبقات المظلومة في ارض الشام لتخليص الناس من ظلم الطبقات الفاسدة في حكمهم بعد ان خلصت المصريين من ظلم الفراعنة المتجبرين.

ورغم القساوة الاشورية لكن النار بقيت تحت الرماد في دولة آشور حتى اسقطتها بعد حين مما اتاح لها فرصة الازدهار في الحقوق بفضل اصرارها على تطبيق القوانين ولو بعد حين.

وفي العهد الاغريقي كان هناك مستضعفون كثيرون يخدمون القيادة الفاسدة، مما حدى بتنظيمات الزراع والصناع من مقاومتهم حتى اسقاطهم ونزع السلطة منهم.وحين انتقلت السلطة للرومانيين تكررت الحالة على ايدي القادة الفاسدين اللا هين بالمال والسلطة والجنس فقامت سلطتهم على نهب اموال الناس واستعبادهم .

واذا قرأت من يمتدح حضارتهم فهم أولئك الذين لم يبتلوا بأستعبادهم، أما اهل البحر الابيض المتوسط جميعا فلم يروا من الرومان الا القرف والبلاء. ومهما حاولت شعوب الامبرطورية الرومانية من رفض لسياستها لكنها خابت ولاقت الخسران لعدم اهتمام الاباطرة بالناس رغم وجود القانون الذي كان يخدم الامبراطور ولا يخدم عامة الناس.

لكن الخلاص كان لا يتم الا بقلب نظام الحكم كله اما على ايدي عدو اوخصم قوي او عن طريق حركة دينية تنبه الناس الى مساوىء نظام الحكم، فتجتذب قلوب الجماهير وتغزو نفوس الحاكمين.وهكذا حدث بمجيء مسيحية المسيحيين.وعلى يدها تمكنت الطبقات المسحوقة الداخلية من ازالة الدولة الرومانية عام 476 للميلاد لتدخل مصرفي عصر جديد.

وقد انهدم العصر الجاهلي العربي بدعوة الاسلام يؤيدها المستضعفون في الأرض، اما بقية تاريخ دول المسلمين فقلما تفطن الحاكم الى سوء ادارته وما كان يعانيه هذا القطاع من الناس من سوء المعاملة والفرقة بينهم باسم الدين والشرعية المخترعة منهم، فاخضعتهم لزمن طويل.هنا كان الدين الذي جاء رحمة للعالمين قد تحول في العصرين الاموي والعباسي الى نقمة على المعتنقين، كما يتحول اليوم على العراقيين حين حولهم الى التخلف والبلادة خلافا للناس الاخرين.

وحين شعرت الجماعات الحاكمة بانفصالها عن الطبقة المحكومة، اقامت الاسوار العالية حول مدنها الخاصة بها وقد كانت تلك الاسوار ولا زالت دليلا على ضعف الدولة وشعور الحاكمين –المنطقة الخضراء اليوم عند العراقيين - بأنهم لم يعودوا قادرين على مجابهة الواقع المر الذي بات مفروضا عليها، فلجأت الى القوة والسلاح بعد ان تخلت عن الشرعية ومتطلبات الدين.

من هذا المنطلق تتغير الحكومات الواحدة تلو الاخرى كل يدعي الشرعية والاصلاح مكتوبا على الورق دون تطبيق، ومحاولة ايحاء الناس ان وراؤهم فكرا جديدا، لدرجة ان بعض المؤرخين صنفوا الحالة تحت عنوان (تجارب الأمم) كما عند المؤرخ ابن مسكوية، فاذا قرأته حفزتك الرغبة الى معرفة كل جديد.

من هنا كان التراجع الحضاري وفقدان الدولة لمقومات النهوض، فالدولة لا تسقط بمرحلة الاعمار كما يقول ابن خلدون في نظرية المراحل الأربعة، لكن السقوط يأتي من عجز الحاكم على الايفاء بشرعية الحكم في التطبيق فتتحلل الدولة من الداخل. والقرآن يؤيد هذا التوجه بسقوط عاد وثمود عندما اخلت بشروط الحكم بين الحاكم والمحكوم وانتقلت الدولة الى مرحلة الفساد والافساد دون مقدرة الحاكم من التصدي لها حتى لو فرض القانون.

وفي بعض الاحيان تتحول الخلافات والصراعات الداخلية الى حروب وصراعات مستمرة بين الكيانات الشخصية والمذهبية، كما حصل في بغداد بين الحنابلة والشيعة على عهد العثمانيين، والذي خرب معظم احياء البلد، ولولا تدارك العقول الناضجة من امثال الوالي مدحت باشا لذهب البلد في المكر الكبير.

واليوم تتكرر الحالة في العراق بعد التغييرفي 2003، لفقدان التغيير معايير القوانين التي تحقق العدالة الاجتماعية بين الناس، وفقدان قدرة الحاكم على التنظيم .وتوجهها نحو خلق الكيانات المتباعدة لتحقيق مصالح ضيقة، مما يضطر الطبقة الحاكمة او الاقلية القائدة، الى قبول التعايش مع أعدائها القدامى لمجرد استمرارها في السلطة، وبذلك تتنازل عن ثوابتها الوطنية وتهبط على مستوى من كانت تعتبرهم لصوصا وخونة اوطان كما هو اليوم مع البعثيين، ويكون هذا الانحدارخطوة حاسمة نحو الانحلال النهائي لحضارة دولتهم – رغم قصر عمرها - فيهبط مستواها وتختلط فيها الالفاظ والعبارات التبريرية فيصبح خطابها مكررا انشائيا لا جدوى فيه ولا اصلاح كما في الكلمات الاسبوعية للسيد رئيس وزراء العراقيين.

ويعلل المفكر الفيلسوف آرنولد توينبي هذا التصرف الى الضعف السياسي والفكري عند من تصدروا لقيادة الدولة.ومعنى ذلك عندما يدخل الانحلا ل سلوك الجماعة الحاكمة، يتناول ذلك الانحلال تراثها وحضارتها، اي ان الانحلال يصبح سياسيا واخلاقيا في نفس الوقت.فتتحجر نفوسهم، وتموت ضمائرهم، ويقل احساسهم بالوطن والشرف والقيم واللامبالاة من كل عيب ونقص، وبذلك تنتهي تماما معنوية الحاكم وتتلاشى قوة الدولة عند المواطنين.

ان الذي دفعني الى كتابة هذه الرسالة هو ما قرأته في مقالة الاخ الدكتور سيار الجميل التي اعتبرها البعض جديدة وجيدة في معالجته لواقع الحال العراقي المتردي اليوم.

لقد علق عليها احد الاساتذة الاكاديميين النابهين من هولندا حين قال :كيف تصفونها بالجيدة؟ ففيها توصيف اصبح معروفا بكل تفاصيله، وخاض فيه من يعرف في السياسة ومن لا يعرف، لكن يبقى السؤال المهم: كيف سيأتي التغيير؟

من هم رجاله الجدد؟ وما آليات عملهم؟ وماهي مشاريعهم؟ في ظل هذا الصراع الفئوي الكتلوي المصلحي الرهيب، والكاتب من المعنيين به ايضا، فهو لا يريد تقديم النصيحة او الحل، وهو هروب مسبق من مسئولية الوطن، فالامر لا يحتاج الى النصيحة، بل التضحية والعمل؟

نعم سيحاسبنا التاريخ غدا جميعا من اشترك ومن لا يشترك، ففي أيام المحن لا وقوف على التل من كل المواطنين الا الجبناء الخائفين، كيف تسكت ضمائرالاحرار في ظل هذا الخراب الفضيع، وهذه الحالة التي ما مرت وتمر على العراقيين لا في السابق ولا في اللاحق، وتستمرأ من الجميع دون ردود فعلٍ واضحة من الجميع .ألهذه الدرجة اصبح المال والسلطة بديلا عن المبادىء والقيم، أنها ليست أخلاق العراقيين الذين ضحوا بارواحهم عام 48 دفاعا عن الفلسطينيين؟ أذن اين الوطنية التي لها في تاريخنا تاريخ ؟، واين الاسلام الذي به نتفاخر؟ واين مرجعيات الدين التي عليها نعتمد؟ وأين وكلائهم المخولين ...؟

المرجعيات الكبرى صاحبة المواقف الوطنية في التحرير؟ ألم تكن هي من أجج معركة الرارنجية وفرضت أستقلال العراق عام 1921؟ ، فلماذا تسكت اليوم، وفي السكوت رضى على الباطلين. وأين مناهجنا الدراسية التي علمتنا الوطنية والدين، هل كانت كلها فاسدة بقصد مبين ؟ .

ونقولها للتاريخ حينما احتل صدام الكويت عام 90 - وكنا نحن هناك – لم نرَ كويتيا واحدا تعاون مع المحتلين، فهذه هي صفات الرجولة والوطنيين ؟ فالوطن أغلى من المال والروح وكل مقتنيات السنين.

كانت هناك ازمات في عراق العراقيين، كأزمة احتلال المغول لبغدادعام 656 للهجرة، لكنها سرعان ما أنتهت وعادت بغداد الى حالتها الطبيعية بعد ان أدرك المغول ان بغداد وشعبها ليس خوزستان، فدخل بعض المغول الاسلام وانسجموا مع واقع الحال الجديد أملا في البناء والغفران.اما ان تستمر الحالة عشر سنوات في العراق الجديد اليوم من التباعد والقتول والنهب والسلب، وتجذير الطائفية، والفرقة والتهجير الأثني، وفقدان الامن والاطمئنان والكفاية والعدل وفقدان الحقوق، واقتسام القيادات لموارد الدولة دون القوانين . أهذا الذي كنا من اجله نريد ...؟

هذا الذي ما كنا نتوقعه ابدا ممن كانوا يدعون الاخلاص والوطنية، ويرجون الله لليوم الموعود، والذين ركعوا على الاعتاب لنقدمهم في ندوة كمحررين، فكيف أنقلبوا بين ليلة وضحاها الى سلطويين لا يعرفون الشعب ولا سلطة القانون، فهل يمكن ان يكون مثل هؤلاء من المحررين؟ للوطنية صفات وللتحرير صفات، لم نراها تتوفر في كل المدعوين، اذن، لا يمكن ان تقبل منهم الأعذارمهما كان التبرير.

ان الذين يصرون على البقاء في حكم الدولة بلا منهج ولا رقيب تحرسهم وعاظ السلاطين، عليهم ان يدركوا ان الحالة العراقية الراهنة - حالة رهيبة- تحتاج الى كتاب اصلاح قائم بذاته، يعالج هذا الحدث الجلل الذي وقع في وطن العراقيين، رغم ان حضارتهم بنظري لا تزول لعمق أصالتها في التاريخ، وانما هي اليوم تتحلل، كما تتحلل اوراق الشجر وقت الخريف وتهضمها الارض لكي تبني بها نباتا من جديد لوطن عراقي جديد.

فهل دورة الحياة ستعود لعراق العراقيين بعد هذه المحنة، كفانا مؤتمرات المسئولين وايفادات الوزراء والمستشارين وأحياء الذكريات في سفارات ابن بطوطة للأخرين، وكفانا نسمي بغداد مقرا لمؤتمرات القمة الكاذبة، وعاصمة للثقافة العربية وننهب منها الملايين، وهي مدينة مهجورة تعبث فيها زمر القتلة والمخربين، ونقيم الندوات التي تلهينا عن آهات المظلومين من الأرامل وأيتام المقتولين، وكفاية ان نسميهم شهداء لنلهي بهم شعور المكلومين،، او لنُقيم كتابا او شاعرا او مسابقة اوندوة لمسئولين، لا...؟ ليس هذا تاريخ العراقيين، نحن بحاجة الى مواقف وطنية قوية من حاكم او مواطن دون تفريق...؟

فلننتظر...؟

الى الرسالة السادسة....؟

 

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم