قضايا وآراء

رواية "المشرط" لكمال الرياحي

نهاية التسعينات من القرن الماضي، فخط كمال الرياحي خط منحن به ترسبات الشذوذ، و العفن الاجتماعي،  وانفصام العلاقات، والتركيز على  شخصية شاذة تتقاطع مع  تصرفات من حولها، حيث يحاول الكاتب بعث الشذوذ في تصرفات الإنسان الحديث الذي يستبطن طاقات هائلة من العنف  .

 

 ورواية "المشرط" بدورها تشي بحالة شاذة حقيقية ظهرت في المجتمع، وهي إعمال أحد الشواذ مشرطه في مؤخرات النساء ليلا، ثم سرعان ما يفر على دراجته النارية، ويستحيل إلى شبح،  فيستحيل اللحاق به . هذه الحالة الشاذة التي عرفها المجتمع التونسي منذ سنوات وتداولها الخبر الصحفي بكثافة، اختفى صاحبها دون التمكن من العثور عليه، سعى الكاتب إلى تحويلها إلى القشرة الخارجية للحدث، من خلال تفكيكها في أكثر من شخصية وأكثر من مكان، فإذا بالشخصيات والأمكنة لا تجمل القبح بقدر ما تكشف عن رواسبه المتعفنة في مستنقع ذاكرة نخرتها ديدان الشذوذ .

 

وكتابة كمال الرياحي يمكن أن تصنف ضمن الكتابة الخارجة عن الواقعية المطمئنة التي تفضي فيها الضرورة إلى حتمية معينة، هي كتابة لا تخضع إلى منطق التسلسل بل تقوم على التفكيك وعلى الفراغات، على إثارة المهمل، المتعفن الذي بإمكانه أن يتحول إلى مصدر الاهتمام الأول وهو يتجسد كحالة  من الحالات التي تباغت الإنسان، ثم سرعان ما تختفي وتخلف وراءها أسئلة لا تقل أهمية عن الأسباب التي قذفت بها  من فوهة المجهول إلى فوهة عسر الإجابة . ولئن أجابت الروايات الوجودية الكبيرة على أسئلة الأفعال الشاذة سواء كان ذلك في رواية "الغريب" لألبار كامي أو "طقوس في الظلام" لكولن ولسن أو "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ انطلاقا من شخصية عبثية، أو انطلاقا من شخصيات مازوشية أو سادية، فإن هذه الرواية الحديثة لم تبرر الظاهرة بظروف تاريخية نفسية اجتماعية بقدر ما تبالغ في بعث حركة توليدية لأحداث الرواية وهي تنفتح على أبواب مجهولة تفضي إلى أمكنة خفية، منزوية هي ملاذ للهرب، تستدرج المجهول، وتفضح الشعور بالشك حين تفقد كل الرموز قدسيتها .

 

وقد قام كمال الرياحي بفتح آفاق التخييل في الرواية : " كان ابن خلدون  الحزين قد ترك كتابه وانشغل بفلي القمل الذي هجم على لحيته منذ أن أغلق الشارع وهجره المصورون والسياح . ترك مكانه مرات أثناء شهور الترميم . نزل مرة إلى محطة برشلونة، أراد أن يركب القطار  ويرحل، لكنهم أعادوه إلى مكانه مكبلا في الأصفاد . كان يحلم بالسفر بعيدا عن ذلك القرف الذي نصبوه شاهدا عليه " ص 110 .  ابن خلدون بتمثاله الشامخ في الشارع الرئيسي للعاصمة التونسية هو نواة التخييل في هذه الرواية لا يعد مرجعا للشخصية المنكتبة، بقدر ما يتمثل كشخصية مستقلة عن الواقع وعن التمثال الجامد الذي  لم يعد يحيل على الحلم، بل يحيل على المسخ، ليتحول إلى اناء للكشف عن أغوار النفس المكبلة، وصار صورة للواقع المتخيل وقد شحنه الكاتب بصور المشردين والمنحلين والمومسات، دن أن يخلق من عوالم هؤلاء أحلاما تنعتق عن الواقع المدنس ..

 

كمال الرياحي الباحث في المدونة الروائية، غالبا ما تضعك إحدى شخصياته في مقارنة مع شخصية روائية لأثر معروف، يعيد نحتها وصهرها في عالمه الكتابي دن أن تفقد حميميتها مع ذاكرتنا التي حولتها إلى شخصية قريبة منها، لا يمكننا أن نتوه عن ملامحها وتفاصيلها، كشخصية "النيقرو" في "المشرط " لا تكاد تختلف عن شخصية "كروكس" الأسود في رواية " فئران ورجال " لجون شتاين باك، حيث وصف بأنه " رجل فقد وجهه، فقد الرغبة في الحياة، فسقط أسير الكتب " ص99 . ولئن كان "كروكس" يحمل إشارة العبودية بلونه الأسود في ظل مجتمع كان يتسم بالميز العنصري، فإن "النيقرو" وقع تشويه وجهه بشفرة، لتعكس الندبة البادية للعيان غياب الشعور بالكرامة الإنسانية والانحطاط إلى عالم ما دون الحيوان .  لا يجد "النيقرو" الخلاص منه إلا بقراءة الكتاب الذي يجعل الإنسان إنسانا من خلال فكره فحسب، أما الواقع فهو الجانب المعطل / المشروخ الذي كرس البلادة العقلية في التعاطي مع الإنسان  لا كقيمة، بل كصورة ممسوخة، نرى في ندبتها فجيعة العصر .. فالقراءة، فالكتابة المرتبطة بالتخييل، لا تعكس سوى ذلك التعاطي مع الواقع من خلال تشكله إبداعيا، بل يعكس ما تمثله عن الواقع، وبذلك يحرك تماثيل الواقع بالطريقة التي تكشف عن عجائبية الكتابة ...... ورغم اعتماد الكاتب على أمكنة واقعية في العاصمة وضواحيها، و شخصيات الواقعية  الواردة في الرواية مثل النيقرو وبولحية وهندة نجد الشخصيات التاريخية الأسطورية التي يستلهمها الكاتب ليعيد تشكيلها داخل النص الروائي، وهو ينتقي الشخصيات التاريخية الأسطورية التي يستقدمها النص ليقيم أفقا لنص مكون من شذرات لشخصيات واقعية متشظية فقدت نقاط ارتكازها وتركت للأسطورة هامشا للتخييل ...

 

.........................

المشرط، رواية لكمال الرياحي، صادرة عن دار الجنوب - تونس 2007

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1245 الخميس 03/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم