قضايا وآراء

المذلات العربية، وأسطورة وطأة التاريخ (2)

جملة قالها هوغو في القرن التاسع عشر، ابان أوج الحركة الرومانسية الفرنسية المهيجة للمخيال الأوروبي في كره الشرق، التي كان يمثلها شاتوبريان و ألكسندر دوما لدعم حملة نابوليون في حملته الصليبية(بدون صليب) لبيت المقدس بمباركة بابا الفاتيكان، والنخب الفرنسية زمنها حيث كان الشرق الملهم الرئيسي لهذه الحركة تدبيجا ورسما تشكيليا، منذأن تأسس أول كرسي للدراسات العربية ب الكوليج دو فرانس Collége de France

وفي القرن الواحد والعشرين، ..عادت الدراسات الشرقية العربية في الغرب واسرائيل، أقوىعدة وعتادا، وأصلب عودا، وأغزركما، وأخبث كيفا ومضمونا، وألمع بريقا شكلاوعرضا، مما كانت عليه في بداية المرحلة الكولونيالية البونابارتية، بهدف اعادة احكام تطويق الشرق من كل أركانه، وماعلى العرب اليوم الا أن يتساءلوا:

- ما ذا يقدمه خبراء الاستشراق السياسي الجدد من الأوروبيين (الذين معظمهم من الديانة اليهودية) الى مراكزالأبحاث (الجيو- ستراتيجية) الغربية والاسرائيلية؟

- ما الدورالذي يقوم به المشرفون على دراسات الاسلاميات Islamologie، من العرب والمسلمين في الغرب؟

- ما تأثيرهذه الدراسات على القرارات السياسية الغربية والاسرائيلية في الشأن العربي - الاسلامي؟ وماذا يستفيد منها العرب والمسلمون؟

 

تمهيد: هل ماتت الأمة العربية؟:

ان الخلافات في القضايا العالمية من قضايا الحضارة، هي حرب شاملة، ومن أسلحتها الوقائع العسكرية، والمواجهات الفكرية، واثارة الشكوك، والشائعات، وافساد عقائد الأمم، بالريب والأراجيف والتدليس والتشكيك والتقزيم والتحقير، وتلك الوسائل التي برع فيها الغرب الاستعماري والصهاينة، وسائل اكتشفها العقل الغربي أيضا الى جانب استغلاله للعلم وتوظيفه لتخريب الانسان وتلويث البيئة وتدمير الحضارات الانسانية، ...وتلك وسائل يعدها الغرب العقلاني من حسن الفطن، ومن نجاعة السلاح- كما يقول الفرنسيون- يقوم باصطناع هذه الوسائل الميكيافيلية الأعداء المحليون، والخارجيون، ليبلغوا في أوقات الشدة واليأس، والاحباط والقنوط، أوالافراط والتفريط، التي تمر بها الأمة ما لا تبلغه الجيوش الجرارة المظفرة...، وهذا ما شهدته الأمة العربية بالأمس، وتشهده اليوم

 

ومن هذا المنطلق:

- فلم يكن لأعداء العروبة والاسلام قبل بالقوة الحربية، أوالفكرية للعرب والمسلمين في فجرالاسلام، ولاالفتوحات العربية- الاسلامية المبكرة العمرية، التي أربكت النظريات الحربية والتاكتية والمعلوماتية المتعارف عليها آنذاك، وكان الجنود العرب المسلمون الأوائل، مجرد فتية من البدوآمنوا بدينهم، وبرسالتهم الكونية، ولايمتلكون من تقنيات عسكرية أوأسرارتاكتية، سوى رصيدهم الايماني، وحماسهم الروحي، وشجاعتهم الأسطورية، كما وصفهم الجاسوس الروماني لقيصرالروم: انهم فقط رهبان بالليل وجنود بالنهار، و ملكهم –عمر- ينام قرير العين على الرمال تحت قيظ الشمس بدون حرس، ويغط في سباته، لأنه كان يعدل بين رعيته حتى وهم نيام فوصل أولئك البدوالى حدود الصين، ونشروا حضارتهم الجديدة، ومفاهيمها الكوسمولوجية الثورية الانقلابية، في أقصرظرف زمن تاريخي قياسي لكل الحضارات السابقة، وهوأقل من عشرين عاما –ولم تخبوشعلة هذه الانقلابية الى اليوم في نظر الاستشراق السياسي الذي ما فتأ يحذرمن عودة العرب والمسلمين الى ساحاته وخلفياته الحضارية السابقة، والدعوة الى صراع الحضارات - بدل حوارها أو تقابسهاـ كأهم أطروحة ومجهود في الفكر (الجيو- سياسي) الاذي تمت صياغته بعد سياسية الاحتواء لجورج كينان عام 1947بحثا عن مخطط استراتيجي يمنح المعنى والنظام لما بعد الحرب الباردة حيث وجد الأمريكيون ضالتهم في التسعينات في كيفية مواجهة كونفوشية الصين و خضرالاسلام والتنبيه الى وضع خطط مواجهة ما بعد احتواء الصين حيث تقرر الدخول في مواجهة حقيقية ل صراع شرق/غرب وتلك كانت أهم أهداف زيارة أوباما للصين، وقراره الغبي الأخير بالاستمرار في رفع مستوى القوات العسكرية بأفغانستان، مع العمل ليل نهارعلى التخطيط لاشعال بؤرالصراعات والحروب والاقتتالات في العالم العربي والاسلامي قدرالمستطاع، وهي طرق غربية معهودة منذ القدم كلما تماست مصالحه الجشعة ومصالح الامنطثة منذ الاسكندرالأكبر، الى نابليون وصولا الى بوش وأوباما

- ومن آفات العرب المعاصرين، - أنه بالرغم من عزهم النفطي ووفرتهم المالية– فهم لم يهتموا اطلاقا بتعريب ألسنة شعوب المناطق الدائرة في فلك الاشعاع الحضاري(العربي- الاسلامي)، الممتدة من حوض سيكيانغ بالصين و جاكارطا الىباقي كل جنوب شرق آسيا، ومن نواكشوط العربية بموريطانيا، بدءا بالسنيغال ومالي وصولا الىأرباض نيجيريا والنيجير، بل تكتفي بفتح مكاتب لرابطة العالم الاسلامي للدعوة الى محاربة الطرق الصوفية التي عربت ألسنة الأفارقة و أسلمت عقائدها بالأخلاق الحميدة والسلوكيات النبيلة بفضل الطرق الشاذلية المغاربية والقادرية العراقية منذ أوائل القرن الخامس الهجري، حتى قريب الحملتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، حيث كانت عيون الامبراطوريات المغربية الكبرى منذ المبراطين والموحدين والمرينيين والسعديين على افريقيا السوداء وربطها بالشرق العربي المنهارعبر السودان، أكثرمن اهتماماها بأوربا.

- وماكان للأعداء الحضاريين للعرب والمسلمين أفكارا قادرة على مقاومة أفكارالعرب الأوائل الكونية الانقلالبية الجديدة، التي جاءت لتغييرالمفاهيم المتعارف عليها في ذلك الزمان كتصورات معرفية كونية جديدة، لو لم يحطم العرب أنفسهم بأنفسهم–وما يزالون-

- ولن تقوم للعرب قائمة من جديد ما داموا يجترون أساطيروأوهام، وتنظيرات فلسفات القاء اللوم على الآخرين سواء أكانوا صليبيين، أومغولا أ تتترا، أوامبرياليين منذ القرن الخامس الهجري الى نهاية الدولة العثمانية، وومنذ بداية ما يسمى بالنهضة العربية، حيث يتم اليوم تكرارنفس التحايلات بالدعوة الى التنادي بالتنديد والتحذيرمن الأطماع الفارسية المجوسية والرافضة وخطورة الهلال الشيعي الباطني، بل والتشكيك في ولاء الشيعة العرب في العراق ولبنان وسوريا واليمن:

- وكأن عالم التسنن السلفوي التكفيري جنة المتقين على الأرض،

- وكأن الأسرلة والصهينة والتطبيع مع الهسترات الزولوجية والايروتوتيكيات الجديدة التي تتم في الخفاء والعلن في القاهرة، وشرم الشيخ، والحمامات، ومراكش، وطنجة، وأغاديروالصويرة، عبر المهرجانت السنيمائية والثقافية والسياحية، من الأهداف السامية المطلوبة لهذه الأمة،

- وكأن الأمركة الكونية التي يتبناها العرب المعتدلون الجدد حيث تتم هذه الامركة بالاغواء والاغراء، أو بالابادة بالدبابات وقصف الطائرات والنابالم في كل مهبات الرياح الاربعة، ليست بزحف وبائي محقق وتدميرماحق للحضارات والثقافات البشرية،

- وكأن عودة تركيا السنية بطرقها الصوفية الحية المختلفة، في مواكبتها لدعم مقاومة المشروع الغربي في المنطقة ومساندتها لايران وسوريا وحزب الله والمقومات الفلسطينية، من الأخطار المهددة للهويات الفولكورية البخورية لشيوخ البترول وفراعنة المنطقة وعلمائها وفقهائها، وتهديدا لأصوليات اللوبيات( الأمازيغية- اليهودية الجديدة) بالمغرب العربي

 

ماذا كسب الغرب بتفكك العرب؟:

يمكن ايجاز الرد على هذا السؤال باختصارشديد كما يلي:

أولا: لولم تكن اسلاميات المعتزلة أوالفكر(الشيع- معتزلي)، ثم لاحقا نظريات الغزالي، وابن رشد، وابن سيناء، والتوحيدي، وابن تيمة، وابن القيم، في الالهيات، التي نقلت وترجمت الى اللاتينية، عبر قساوسة ورهبان عرب من مسيحيي بلاد الشام في مجالات الدراسات الثيولوجية الكنسية، لما استمرت المسيحية نفسهامدة أطول، عندما اسفادت الكنيسة مبكرا من أساليب علم الكلام وعلوم المناظرات والجدل لعلماء المسلمين الأوائل،

ثانيا:لولم تكن حواشي وتفسيرات وتعليقات العرب والمسلمين للتراث الاغريقي، لما فهم الغرب المعاصر فكره الاغريقي ولا ماضيه التليد، حيث ظل لقرون يخلط ما بين أفلاطون وأفلوطين، عندما كانت الترجمة على أشدها في اسبانيا، حيث أنشئت مدارس بتمامها في الأديرة وخارجها، لترجمة كتب جامعات قرطبة، وطليطلة، وغرناطة، واشبيلية، وكان النقل والترجمة أغزر كما، وأطول مدة في الفردوس المفقود، حيث لم يجل العرب عن اسبانيا الا في عام 1610، وبقيت كتبهم وترجماتهم متداولة بين أيدي الأوربيين، وهكذا نقلت جامعات فرنسا وانجلترا، وايطاليا واسبانيا، علوم العرب وعلوم اليونان التي ترجمها العرب بدقة وأمانة ومنهجية علمية، وبدون تحريف - لا كما فعل الغرب لا حقا، لما قام به من تحريف وتزويروتفريغ كل المحتويات الروحية للعلوم العربية بعد نقلها(من كيمياء وفلك ورياضيات وطب وزراعة وعلوم الموسيقى(عندما حولوا لوغاريتميات الخوارزمي كتفسير روحي للكون الماكروكوزم أو الجرم الأكبر لفهم الميكروكوزم أو الجرم الأصغر أي الانسان، الى مجرد تقنيات ميكانيكية حسابية فارغة، بل ونسبوا معظمها الي نصابين وأفاقين من عندهم، ) وهوما يتم حاليا في فلسطين المحتلة أمام أنظارالغرب، والمنظمات العربية الثقافية والتربوية مثل أليكسو وألسيسكو العربيتين، وأمام عجزما يسمي بمركز الدراسات الفلسطينية الذي لا يزال أسير مناهج ديناصورات الستالينية الحمراء وتنظيرات السورياليات الأدونيسية التي لاتنظر الى تراثها الاعبر مكبرات الشكيات الديكارتية و الفولتيرية اللتين لم يعد لهما أي ذكر في الغرب من لشبونة الى سيدني، الافي أذهان هؤلاء النرجيسيين الغافلين، حيث يشاركون المحتل الصهيوني الغاصب- عمدا أوجهلا- في تثبيت دعائم حداتثة آل صهيون التفوقية للكيان الصهيوني الخبير في مجالات قرصنة وتزويرالتراث الفلسطيني(معمارا ولباسا وحضارة وعادات معيشية، عاشها ومارسها وتمثلها وتواترثها الفلسطينيون أبا عن جد عبر آلاف السنين، على امتداد الهلال الخصيب، وما بين الدلتيين(من الفرات الى النيل) - كما يجري حاليا بالقدس الشريف-

 

كيف تحلل العرب والمسلمون كقوة ضاربة؟:

واستطرادا لما سبق في الجزءالأول من هذا المبحث أضيف - نزولا عند طلب بعد القراء في التفصيل في ذكرالأسباب المباشرة في تفكك القوة العربية الضاربة منذ زمن الرشيد فأقول:

لقد دب الوهن في منطقة الشرق الأوسط، منذ أن بدأ العرب يتناحرون فيما بينهم، وقتل خلفائهم(الفتنة الكبرى)، وذبح أبناءبنت نبيهم، (مأساة كربلاء)، وأقاموا دولا وأسقطوا أخرى (من الدولة الأموية الى المماليك)، وسملوا عيون خلفاء (كما حدث للقاهر، والمتقي والمستكفي)، وأرسلوا بعضهم يتوسلون في الطرقات (كما حدث للراضي بن المقتدر) الىأن جلل الظلام بغداد مدينة السلام، بعد أن لم يبق للخلفاء العرب غيرالاسم من سنة 334 الى 656للهجرة، يوم دمر هولاكو مدينة السلام، بخيانة الوزير ابن العقلمي (وما أكثرأبناء العلقمي في فلسطين والمنطقة) فدخلها وقتل الخليفة المستعصم وقتل الوزيرالخائن، وتنتهي بذلك أعظم دولة عرفتها القرون الوسطى، حيث يقول المؤوخ ابن الطلطقي (فانظر، منذ عهد المتوكل الى عهد المقتفي، ما جرى على واحد واحد من الخلفاء من القتل والخلع والنهب بسبب تغير جنده ورعيته، .فهاذا سمل، وذلك قتل والآخر عزل)، ..

ومع ذلك لم تجرؤ قط بيزنطة القوية العدوالوحيد آنذاك، استغلال الخلافات الداخلية في خلق تهديد حقيقي للوجود العربي- الاسلامي...، ولكن الغزو الصليبي والطوفان المغولي كانا تهديدا فعليا للوجود لهذا الوجود، وكان تهديدا يحمل خطر الابادة الجسمانية الجماعية للعرب والمسلمين في عقر دارهم، فكان رد الفعل الطبيعي، هو ظهورالعسكريين المحترفين، وبقهرهم للصليبيين والتتار، حين انتقلت اليهم السلطة بحكم اتفاقية غيرحرة، أو ثمرة تعاقد أوعقد، انما هي اتفاقية طبيعية يمليها حب البقاء، وهي اتفاقية شرسة بشعة، نستطيع أن نقول فيهامانشاء، ولكنها كانت أساس العلاقة بين العرب الواهنين والعسكريين من العجم الحديثي العهد بالاسلام، مند قطز الى الغوري مع تلك الأعراق الغيرالعربية التي لم تتشرب تعاليم الاسلام الحقة، فمال ميزان العدالة الى حيث اللاعودة الى يومنا هذا، ... فتتابعت الدويلات الجديدة القائمة على كره العنصرالعربي ( الذي وهنت أواصره بسبب تناسل أمراء بني العباس، وتكاثر ذريتهم من العجميات- من تتقاسم دولة الخلافة الكبرى من الاغالبة (190- 333) بافريقيا الشمالية ('بتونس) الى الدولة السامانية في عهد المستعين (248) الى الدولة الصفرية بسجستان في عهد المعتز (252) الى الطولونية (245- 292) والاخشيدية بمصر (317- 342) الى الدولة الحمدانية (رغم انها عربية قحة) بالشام (317- 394) الى الدولة البويهية 323- 423) وغيرها ..

 

وقد تعدى هذا الفساد الى العلماء والفقهاء والنخب أنفسهم، فأحسن فيهم الوصف، الصوفي الكبير، والكيماوي المعروف ذي النون المصري (المتوفى عام 245للهجرة) حيث وصفهم قائلا: كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا لها، واليوم يزداد بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها، وكان الرجل ينفق ماله على علمه، واليوم يكسب الرجل بعلمه مالا وفيرا، وكان يرى على صاحب العلم زيادة في باطنه وظاهره، واليوم يرى على كثير من أهل العلم فساد الباطن والظاهر كلمة قالها ذي النون في أواسط القرن الثاني الهجري حين نبه الخواص(وهو الاصطلاح السائد في كلام العرب قديما لما يطلق عليه اليوم بالنخبة) فقال: اذا كانت توبة العوام عن الذنوب فان توبة الخواص هي عن الغفلة، وما أرى علاماءنا ونخبنا اليوم الا ويزداون غفلة وانحرافا

 

وكان الفقهاء أنفسهم مختلفين فيما بين أنفسهم، ثم فيما بينهم وبين رجال الحديث، وكان هؤلاء جميعا في جانب، وفي جوانب أخرى أرباب الملل والنحل والمذاهب، مع انحياز الكتاب والشعراء والخلفاء والوزراء الى هؤلاء أو أولائك، مع تبدل الأهواء الدنوية وتبادل التهم، والميل الى حيثما مالت رياح السلطة والمال والقوة والجبروت، مما جعل رجلا مؤرخا مثل المقدسي - وكان –حنفيا- يخرج عن النزاهة العلمية واصفا معارضي الحنفية قائلا .. فلما رأيت بغداد من فقهاء أبي حنيفة، الا رأيت أربعة:الرياسة مع لباقة فيها(يقصد القاضي أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة ) والحفظ والخشية والورع، .. وفي أصحاب مالك أربعا: النقل والبلادة والديانة والسنة، وفي أصحاب الشافعي: النظروالشغب والمروءة والحمق، وفي أصحاب داوود (امام أهل الظاهر): الكبر والحدة والكلام واليسار، وفي أصحاب المعتزلة:اللطافة والدراية والفسق والسخرية، وفي الشيعة: البغضة والفتنة واليسار والصيت

وهكذا صارت بغداد بعد الانحطاط العباسي (أكبرعاصمة كوسموبوليتية عرفها التاريخ حتى العصورالوسطى) كصندوق الدنيا الذي يحتوي العجائب والغرائب، مما يعجب ولا يعجب، بعد أن نشرت جناحيها على امبراطورية خرافية الاتساع، تنبض بعجائب خلقها منذ نشأتها الى زمن المعتصم..

 

وفي ظلال التسامح العباسي المفرط، انتشرالاستهتاروالمجانة والاستخفاف، فغدا الماجنون يتزندقون خلاعة، أويتعاجمون ظرافة، ورفرفت أجنحة الخمروالغناء، والعجم والتعاجم، والزندقة والتزندق، على مجتمع فيه من أشتات من العرب والفرس والترك والسودان والكرد والسريان والهنود، ومن السمر والبيض والسود، ومن المسلمين والنصاري والمجوس

 

وبعد أن كانت الوحدة العربية الاسلامية مطلوبة لذاتها من خلال التعدد في الأقاليم، والانسجام الذي كان مأمولا من خلال التنوع في الأجناس الذين كانوا شعوبا وقبائل ليتعارفوا –حسب النص القرآني- بالالتقاء على مزايا العقيدة الواحدة، وسجايا الاسلام التي بفضلها اتسعت الرقعة العربية، ..اذا بقصور خلفاء بني العباس منذ الرشيد، صارت نفسها مباءة للانفصام والانقسام، وتعدد الحكام وتنوع المشارب والأهواء وتكاثر الخلافات:ففي عهد الرشيد: حكم البرامكة، وفي عهد الأمين: حكم المجون والتفسخ، وفي عهد المأمون: تنقل الأمرالى الفرس، ثم فتح الخليفة على نفسه ثغرات في أكثر الجبهات، ومكن للشعوبيين بانفتاحه الفكري غير المحدود، وغضبه العنيف على معارضيه من المحدثين، وميله الغريب عن العرب وكرهه لهم.....،

ومع أن بيت الحكمة كانت مفخرة المأمون العلمية الكبرى، وصبوة نفسه وعقله، ومع ذلك ولى عليها سهل بن هارون وهو فارسي، - ولاضيرفي ذلك مادام مسلما- الا أنه كان يعلم أنه كان شعوبيا كارها للعرب، يؤلف الـتآليف ضدهم،

ولما آل الأمرالى المعتصم قدم الحكم لقمة سائغة للترك، فازدردوه، وحقرواكل ذرية آل بني العباس من بعده، مما جعل أحد أئمة الورع والزهد بشر بن الحارث يقول: بغداد ضيقة على المتقين، لا ينبغي لمؤمن أن يقيم بها

وهكذا لم تعد الزندقة تنغص الرؤوس، وتبلبل الأفكارفحسب، بل شهرت رماحها، فظهر بابك الخرمي ليدعي الألوهية، وليس فقط النبوة، حيث جمع أطراف الزندقة من المانوية والمزدكية والزرادشتية والمسلمية(نسبة الى أبي مسلم الخراساني) والى الراوندية والمقنعية، فقامت حروب طويلة معهم الى ان تم القضاء عليهم، فتتابعت على المأمون مهاب الخطرمن الداخل والخارج، حيث ثارالعرب في مصر، ثم انضم الأقباط الى الثوار، فحروبه مع الرومان، غيرأنه جعل أهم حروبه هي مسألة خلق القرآن التي حولها الى قضية الدولة الأولى، وموضوعا لامتحان الفقهاء والولاة، ومحاسبتهم على ما يضمرون، ..هذا الامتحان الذي يعبرعنه بمحنة العراقيين في زمنه، التي كانت بمثابة محاكم تفتيش، حيث كان يتم اختبار الأفكارمن طرف ولاته المقربين، صيرها التاريخ محنة عباسية كبرى ...

وهكذا تجمعت على عاتق الدولة العربية لبني العباس في أواخرعهدها، مواريث الفساد الشخصي والاجتماعي والسياسي من الآباء، كما تتراكم الأقساط المؤجلة، فتحل يوم الحساب، ولم تكن صدفة، ولكن كان منطق التاريخ أن تنتهي، وتبدأ قرون الدمارعلى العرب في منطقة الشرق الأوسط الذي لاراد له

استشراء الفساد في المجتمع الاسلامي بعد سقوط الدولة العباسية في الشرق العربي ونتائجه المباشرة:

ولم يقتصرالفساد فقط في المنطقة على الحكام والخلفاء..، فقد سرت آثاره في المجتمع كله، بما فيه المجتمع العلمي، من تنازع العناصر وضعف الأخلاق، فلم تبق الميادين العلمية والفقهية ميدان جدال ونظر، بل صارت ميادين معارك وملق، ولنسمع صيحة الزاهد الورع سفيان الثوري –شيخ ابن حنبل الروحي- الذي ما تزال صيحته تسري على كل الحكام العرب وساستهم منذذلك الحين الى اليوم، حين صاح بها في عهد أسبق وأتقى، مخاطبا بها الخليفة العباسي: ....واقعد أجنادك الظلمة القتلة دون بابك وسترك، يظلمون الأناس ولا ينصفون، ويشربون الخمر ويحدون الشارب، ويزنون ويجلدون الزاني، ويسرقون ويقطعون يد السارق، ويقتلون وينكلون ولا يقتلون القاتل.. وهكذا كانت سير الساسة العرب، وما يزالون، يطبقون الأحكام الشرعية في غير موضعها، ويتخذونها ذريعة للتلسط على الرقاب والعباد،

ولقد كان للتغيير الذي طرأ على تكوين المجتمع العربي بالمشرق- بسبب أخطاء العرب المتكررة- أخطر من آثار الحروب الصيلبية والغزوالمغولي، عندما انتقلت السلطة الى طبقة العسكريين المحترفين (وهم الانكشاريون) في حين لم تعرف الأمة العربية –الاسلامية نظام الجيوش المحترفة، بل كان يدعى للجهاد، فيخرج له كل قادرراغب، مما جعل فقيه القوميين العرب الأستاذ الحصري القول بأن الانكشارية أول جيش دائم في التاريخ الاسلامي، وأن المماليك كانوا أيضا أول محاربين محترفين .. وتلك كانت صنعتهم الأساسية التي يشترون من أجلها، ويتفرغون لها بعد تخطي مرحلة الطفولة التي يستخدمون فيها في الأغراض المنزلية والمؤامرات السياسية والتسليات البريئة والشاذة، ومراقبة الخدم والحشم والحريم، ويتم خلالها تلقين الولاء والتدريب على فنون القتال، وسرعان ما يتحول المملوك الأمرد المخصي الى قاتل محترف صنديد، وتوكل له مهام الدفاع عن البلد عند الحروب ونهبها عند السلم، فتمت لهم السيطرة على أسيادهم في الخفاء غالبا وفي العلن تمظهرا

وقد أدي الطرفان التزاماتهما كاملة:

- قهر المماليك لويس القديس، وطردوا الصليبيين من الشام وقهروا جحافل التتار. وخلصوا ثغورالسلمين من قراصنة الفرنجة أكثر من مرة،

وفي المقابل دفع الفلاحون والتجارالأرزاق والأتوات والمكوس والنفقة والمشاهرة والمجامعة،

الانه منذ النصف الثاني للقرن الخامس عشراختلت الاتفاقية، عندما جرى على المماليك حكم التاريخ الذي لايرحم، فتحللوا كقوة محاربة قادرة على صد الخطرالمتفاقم، بظهوردول الافرنج الناهضة، بعد استأصال الاسلام والعرب الى غيررجعة من الأندلس، وظهورسفن البرتغال السريعة والمتفوقة ميكانيكيا على سفن المسلمين العتيقة والثقيلة، والمتميزة خصوصا بعصبية بحارتها الدينية المشحونة والملتهبة ضد المسلمين، مقابل عصبية العرب الخابية ونضوب معينهم الديني، حتى أنه كان عربيا ذلك الذي قادهم حول رأس الرجاء الصالح، فطوقوا حضارته، وما يزال المؤرخون والمحققون الغرب يرددونها، كأحد أهم الأسباب في التفوق الغرب الكاثوليكي على الشرق الاسلامي

 

للبحث صلة

baiti@ hotmail.fr

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1246 الجمعة 04/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم