قضايا وآراء

المتديّن الأصولي و«الشامان».. أو المثقفُ ولعنة «السّؤال»

‘’الشامان’’ إنسان مسكون بالقلق، فهو متحفز تجاه المحيط والمرئي، ولديه حساسية من نوع خاص هي حساسية الاكتشاف، لذلك فهو يسأل. أما المتدين اللاحق، والذي أدلج فعالية الرّوح، فإنه تابع، والتابع لا يفكّر، وإنما يؤمن. ‘’الشامان’’ أيضاً يؤمن، لكن إيمانه هلامي متحوّل، يؤمن بفكرةٍ عندما تجد لها حضوراً جوانياً وجدانياً، فتروي عطشه للحرية في تناول الأشياء ببكارتها، لكنها ستفقد بريقها عندما تعجز عن مواكبة تطلعاته وهوسه في الافتتان، وهكذا فإن الانتقال من فكرٍ إلى آخر أو من إيمان إلى آخر؛ ليس أصعب بالنسبة إليه من تغيير فردتي حذاء أو خلع قبعة، ذلك لأنه اعتاد روح المغامرة في الفكر، والسؤال لديه هو الطقس المفضّل.

ما يقضّ مضجع ‘’الشامان’’ هو قلق معرفي في الأساس، القلق تجاه أشياء أصبحت اليوم من المسلمات: الماورائيات، والأمور الغيبية، والإنسان، والحياة، والموت، والكمال. هذا القلق الذي يُضنيه هو نفسه القلق الذي أراد سقراط إشاعته في مجتمع أثينا، فلقي جرّاء ذلك حتفه. إنه باختصار ثقافة السؤال والبحث: لا شيء ثابت أو مؤكد، وكلّ شيء خاضع للنقاش. إنّ الأشياء تفتقر إلى الحدود، فهي مشوّشة أمامه، يهجس بعذريّتها، فيضع الأسئلة ويسعى إلى الفهم. هنا ثمة صلة بينه وبين المثقف النقدي الحديث، غير أن ‘’الشامان’’ وجد أن بوابة الفهم هي السّحر، بخلاف الآخر الذي اكتشف العلم. بهذا المعنى سيكون الاختلاف بين الحالتين اختلافٌ منهجيٌ فقط. يخطئ منْ يظن أن الشامانية اندثرت أو أنها مجرد تفكير ساذج تجاوزته الحضارة، فالجينات الشامانية لازلت تُسجّل حضورها في التاريخ. تتخذ صورة السّحر كما هي عند الإنسان البدائي تارة، وتتجلى تارة أخرى في صورة تفكير فلسفي، لكنها أيضاً ستتوغل في التفكير الديني نفسه بعدما أحرز تطوراً في اتجاه المنظومة الشاملة والنهائية ليصبح الوجه الآخر للفلسفة. إن الشامان - الذي عادة ما يطأ عالماً بكْراً وأرضاً عذراء من الناحية المعر فية، فيعتريه القلق؛ يصبح في الأديان الشمولية معادلاً موضوعيا لذلك الصّوفي المسكون بالدهشة والذهول والتفرّد، ولكن أيضا: التجربة. يحاول الصّوفي أن يستعيد الأشياء ببداهتها وطراوتها الأولى ويدمجها في داخله، يتشرّبها ويستوعبها على صورتها ومادتها الأولى تماماً كما تبدّت للشامان، لا مسبقات ولا مسلّمات ولا أجوبة جاهزة، كما أن المعنى بالنسبة إليه ليس تجريدياً وإنما هو تجريبي مثبت باختبار اللحظة والاكتشاف، وبالتالي فهو، كما الشامان، يمتلك عقلا اكتشافيا متفردا موغلا في التساؤل.

 

التديّن الشّمولي رقم مكرّر

التجربة الدّينية هي الاشتغال الأساسي للمتصوّف، بخلاف الأشكال الدينية الأخرى التي تنزع مرة نحو الخرافة وأخرى نحو التجريد الذي يصل أحياناً إلى العدمية حيث تستفرغ الأشياء من مضامينها وحدودها، هذه الأشكال التي تتقاطع في تصوّر للدين يُضفي عليه طابعاً فلسفيا مهمّته إرساء حقانية ما، خرافية أو تجريدية، تجعل من التديّن فعالية طقسية أو فلسفية وهي في كلتا الحالتين تمثل بشكل ما حالة استلابية للفرد، لأن التدين الشمولي هو أساساً ‘’روح جماعة’’ أو ‘’عقل جماعي’’، وما على الفرد إلا التماهي مع هذه الروح. الفرد هنا رقم اضافي مكرّر ضمن حشد أرقام هي الجماعة، إنه يستعير التصوّرات على شكل إيمان ليس سوى تقليد، كما يستعير بالمثل السلوك الذي سيشكل في مرحلة لاحقة طقساً يستمدّ وهجه من التكرار وهيبة الجماعة. ليس الإيمان بهذا المفهوم إلا شكلاً من أشكال الاغتراب حيث تنفصل الذات عن ذاتها. إنّ ما هو إيمان هنا سيتحوّل إلى كفرٍ عند المتصوّف الذي يصرّ على أصالته وتفرّده، لكنه لن يفصح عن ذلك إلا عندما يشطح، كما فعل الحلاج في إحدى شطحاته حين يعلن للملأ بقوله: ‘’كفرت بدين الله والكفر واجبٌ عليّ وعند المسلمين قبيح’’، أو حين يقول: ‘’على دين الصليب يكون موتي’’. الحلاج هنا، كأي شامان، يعلن أن دينه يتخذ شكل تجربة وجودية منبجسة من أصالة الروح، إنها تجربة فردية بامتياز، تُعيد التدين إلى نضارته وانبثاقه الأول. ليس هذا التدين استعارة، سواء كان اعتقادياً حقانياً أو أسطورياً خرافياً، وإنما هو حساسية دينية مرهفة تجنح لاستكناه العالم والاندماج في المطلق واللانهائي. واللانهائي حتى وإنْ كان يمثل حلقة وصل بينه وبين تلك الأشكال الدينية؛ هو عند المتصوف ميداناً للتجربة والاختبار، والأشياء بالنسبةئإليه ليست إلا تجليات وصوراً.

 

«إبليس» أوّل مثقف نقدي

اليوم سقط المفهومُ الشمولي للدين وحلّت الحداثة محلّه، ولكن المفكر الإيراني مجتهد شبستري يقول: ‘’إننا نواجه الحداثة بالتصوّف، وأن خير ما نقدّمه للغرب هو تراثنا الصوفي’’، ذلك لأن الإنسان مجبول على اضفاء رمزيةٍ على العالم، صحيحٌ أن الحداثة أحلّت الانسان محلّ الوحي، والعقل محلّ الكشف، ولكن صحيح أيضا أنها أتاحت للتصوف، كما للشامانية، مكانة خاصة بوصفه حالة وجدانية أو رؤيا ذاتية مفتوحة للعالم. إنّ إعادة الاعتبار للتصوّف تتجلى بشكل واضح في الفكر الوجودي، حيث ثمة اشتراك في أسبقية الوجود على الماهية، ولكن العامل الأساسي الذي جعل للتصوف وهجاً خاصاً هو في فرادة التجربة الصّوفية التي أزاحت التديّن من الحيّز العام إلى الخاص، ذلك أنها كفر بالإيمان العمومي وما تؤمن به الجماعة، وإيمان بما يعتمل في داخل الفرد. التدين ها هنا نشاط جواني لا براني، إنه باختصار مسألة فردية. وبذلك سيكون التصوف خروج على الجماعة، إنه انشقاق.. تمرد، إنه خطيئة. يحملُ الاختلاف والتمايز في العقل الصوفي قيمة مركزية تجنح إلى الكفر بما تؤمن به الجماعة. الذات ستحلّ محلّ الجماعة وستشكل بؤرة القيم، بل هي مرآة العالم، والكعبة التي تحجّ إليها الأشياء. يشير هنا البسطامي في لحظة تألق صوفي إلى أن الكعبة هي التي تحجّ إليه، وليس هو منْ يحجّ إليها، لقد تصالح الانسان مع الله فما عاد يخشاه، يقول البسطامي: ‘’ما النار؟ لأستندن إليها غدا وأقول: اجعلني لأهلها فداءً، أو لأبلعنها. ما الجنة؟ لعبة صبيان’’.

لقد ورث الانسانُ الحداثي عن سلفه الصوفي سمة الأصالة، الفردية، والاختلاف، ولكن الأصولي يواجه هذه الجريرة بمقولةٍ تتردّد دائما كلما آنس المرء اختلافاً وتمايزا: ‘’خالفْ تُعرف’’، وكأن مفارقة القطيع تهمة خطيرة تستوجب إجراءاً عنفيا من نوع خاص، وكلّ ذلك بالتشويش بتهمة لا يمكن دحضها كما لا يمكن اثباتها. ولأن إنسان الحداثة وخاصة المثقف يجب أن يتسم بخطاب نقدي؛ فإنه سيكون بالضرورة إنساناً مغايراً، وطبيعي أن يكون الخطاب المعرفي النقدي خطاب مفارق ومتجاوز ومتقدّم على الوعي السائد، وإلا لما كان نقدياً في الأساس، ولذلك فإنّ كلّ خطاب نقدي يمكن أن ندرجه في خانة: ‘’خالف تعرف’’. ولكن محنة المثقف النقدي التي حاصرته، كما حاصرت المتصوف والشامان، تكمن جوهرياً في أنه كـ’’فاوست’’؛ يمثل وجهاً آخر للشيطان أو ذلك المتمرد المنشق الذي أشاد به الحلاج، ولئن كان إبليس ‘’لا يخفى هنا أن لهذه المفردات توظيفاً رمزياً ليس إلا’’ بالنسبة إلى الحلاج يمثل أسبقية في الإخلاص والتنزيه؛ فإنه كذلك يمثل سابقة في التمرّد والنقد، لأنه أوّل منْ اقترف جريمة السؤال، وبذلك يصبح إبليس أول مثقف نقدي في التاريخ. إنه كالشامان ليس كائناً ناطقا، وإنما كائن متسائل، بخلاف المتديّن القابع في إسار اليقينيات والمسلمات، فهو يُقبل على عالم غير عذري. إنه يشتغل لا على تشييد السؤال، وإنما على اجترار الأجوبة والخيارات الجاهزة. يقول الشهرساني في ‘’الملل والنحل’’: ‘’إن كل شبهة وقعت لبني آدم طوال التاريخ البشري نشأت كلها من هذه الكلمة الرعناء: لماذا!’’.

 

- كاتب سعودي

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1246 الجمعة 04/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم