قضايا وآراء

الخروج من الطائفية يحتاج إلى عقل حداثي

ولكن هذا التأثير يتفاوت تبعاً لحجم التحوّل الاجتماعي حيث ثمة تناسب طردي بينه وبين التحوّل في الأنماط الدّينيّة، فإذا كان الانعطاف التاريخي سيحدث اهتزازات عميقة مماثلة في الأسس الاعتقادية؛ فإن التحوّل الظرفي مهما كان طفيفاً سيؤدي هو الآخر إلى إضافاتٍ أو تعديلات متناسبة مع حجم التحوّل، ولكنها لن تتجاوز على الأرجح شكل الاعتقاد أو انعكاساته السلوكية والانفعالية. ستُشكّل هذه القاعدة أرضية خصبة لتفسير الظاهرة الدّينيّة وحجم انتشارها وذلك انطلاقا من فهم طبيعة المجتمع، وبالتالي فإن الإجابة على سؤال «كيف هو المجتمع»؛ سيُحدّد تلقائياً شكل الإجابة على سؤال رديف «كيف نفهم النسق الديني»، على أن هذه العلاقة ذات طابع جدلي تمنح النسق تأثيراً مماثلاً بعد أن ينصهر في بنية المجتمع ويصبح ثقافة.

عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي سجّل هذه الملاحظة عند دراسته لطبيعة المجتمع العراقي، حيث وجد أن القبائل البدوية التي استقرّت في الريف قبل أن تجتاح المدن قد تحوّلت إلى التشيع بكلّ ما يحمل من تخمةٍ طقسية وغيبية مسكنة، ولكن هذا التشيع الطقسي لم يتمكّن من اختراق سياج البادية التي تقتضي البساطة في التفكير والمباشرة والحرفية في الاعتقاد، في حين وجدت السّلفية والأصوليّة ترحيباً واسعاً وتربة خصبة بين تلك القبائل، وبالمثل لاحظ الوردي - تبعاً لملهمه ابن خلدون - أن الحياة المدنيّة والمجتمع المدني ستفرز بشكل أو بآخر أنساقاً ثقافية معقلنة، وبالتالي سنتمكن من تمييز ثلاثة أنماط من العلاقة بين المجتمع والثقافة: الحياة المدنية تنتج العقلانية، والحياة الزراعية تنتج الطقس والأسطورة، والحياة البدوية تنتج السلفية.

سيبدو الخلاف من هذه الزاوية بين الإسلام السني والإسلام الشيعي خلافاً شكلياً تحدّده الحاجة الاجتماعية، فحتى تلك المجتمعات السنية التي انتقلت إلى مرحلة الزراعة استعاضت عن التشيّع الطقسي بالتصوّف الذي يؤمِّن لها حاجتها إلى الطقوس، لأن الطقس الذي له بُعد وظيفي سيكولوجي؛ يعبّر في الأساس عن حاجة اجتماعية خاصة بالمجتمعات الزراعية، وهذا لا يعني انعدامها كلياً في حياة البادية، إلا أنها ستكون حاجة ملحّة خاصةً في تلك المجتمعات الانتقالية، حيث تتأكّد الحاجة الاجتماعية النفسية للطقوس والشعائر التي ترتكز على آلية الاسترجاع الجماعي التي تُعيد إلى الذاكرة الشعبية الأصول والقيم، وتساهم في ترسيخها داخل المجتمعات التي تعاني من صراع قيمي وانفصام اجتماعي، وذلك بحيث تضطلع بمهمة حماية الذات من الذوبان والاستلاب.

 

الدّوغمائيّة السّلفيّة والطقوسيّة

وهكذا تتكّشف لنا تمظهرات دينيّة عدة: التشيّع الطقوسي، التصوّف الشعبي الذي يتبدّى من خلال الطرق الصوفية والدروشة، والتفكير السّلفي، وكلها تشترك في خصلةٍ واحدة هي استبعاد العقل، فلئن كان التفكير السلفي يُرسّخ الحنين والتعلّق بالماضي؛ فإن الطقوسية والشعائر التي تجمع بين التصوّف والتشيع الطقوسي ستحلّ العاطفة محلّ العقل، والجماعة محلّ الفرد، والتقليد محلّ الإيمان، والانتماء الطائفي محلّ المواطنة والسّلوك المدني، وأخير الاغتراب محلّ الأصالة والكينونة الذاتية.

وإلى جانب هذه الاستقالة الجماعية من العقل؛ ثمة قاسم مشترك آخر يجمع بين الدوغمائية السلفية والطقوسية، وهو إلغاء الآخر: إنّ كلّ طرف يسعى إلى استئصال الآخر بحكم طبيعته الصراطية «الأرثوذوكسية»، وكلّ مذهبٍ يسعى إلى الانتشار على حساب الآخر، ضمن معارك وسجالات مذهبية أثبت التحليل السوسيولوجي عبثيتّها. هذه الحرائق العبثية تهجُس بالواقع الدّيني في المجتمعات المتأخرة، وتستأثر باهتمامها، وذلك تعويضاً عن الإخفاق في إحراز أقل قدر من التنمية والنهوض. فالتوسّع الجغرافي للجماعة (الطائفة) ليس سوى حقنة مخدرة تلجأ إليها الجماعة التي تعاني من انحسار في الخيارات التنموية وانكماش الأمل في التقدم والازدهار.

وليس من باب المصادفة أن تلجأ الأصولية - والتي تمثل التعبير الأيديولوجي لهذه المجتمعات المأزومة - إلى السجال الطائفي المزمن، والذي هو كالوباء في تفاقمه وانتشاره في جسد الواقع العربي والإسلامي، حيث يأخذ هذا السجال بتلابيب الفكر والعقلانية ليزجّ بهما معاً في متاهات التبشير و«الاستبصار»، حتى الحوار الذي يشترط في الأساس العناية بحقّ الاختلاف؛ سيتحوّل إلى مساحةٍ مواتية لممارسة هاجس التبشير، مادام كلّ طرف يزعم أن بينه وبين الحقيقة اقتراناً شرطياً، وأنه وحده الذي يمثل جوهرها. ورغم أن هذه الصراطات المستقيمة لا تسمح بأي تهديد لجبهتها أو اقتراب من سياجها الحصين؛ إلا أنها لا تتورّع عن تهديد جبهة الآخر والاقتراب من حدوده. ازدواجية في المعايير وفوضى رهيبة نشهدها في هذا الصراع العبثي الذي يجنح لتصفية الآخر وإبادته، لأن حق الاعتراف بالآخر هو وحده الغائب في كلّ هذه المعمعة الجنونية.

 

المقايضة في سوق التبشير المذهبي

نسمع كثيراً عن محاولات لنشر التشيّع وأخرى لنشر التسنن، وكلّ طرفٍ يرتابُ من الآخر ويتشكى منه، تلك هي ظاهرة التبشير التي لا يتورّع أصحابها حتى عن التلويح بالرغيف وبريق الدرهم والدينار للوصول لأجندته، إذ لا تستثني من جنونها التبشيري حتى القرن الأفريقي رغم ما يحمل من عذابات وألم وجوع، فالمجتمعات التي يطوّقها الفقرُ هي المرشحة وحدها لتصفية الحسابات بين المذهبين الغريمين المتصارعين، وهنا تلجأ ظاهرة التبشير إلى ابتزاز فج ومبتذل يتلخص في المقايضة التالية «آمن معي وسأمنحك قطعة خبز وكيساً من النقود».

ولكن صرعات التبشير تتخذ أشكالاً وصيغاً عدة، فتتخفّى خلف ستار الحوار المذهبي تارة، وتُفصح عن وجهها السافر في مؤلفاتٍ ذات طابع رمزي عنيف تارة أخرى. آخر هذه الصرعات كان عبارة عن كتابٍ صادر بعنوان «صرخة من القطيف - انهيار وانتحار» للمؤلف صادق السيهاتي، وهو كتاب حظي بتجاوبٍ واسع في الأوساط السّلفية، وراج كثيراً في المنتديات الإلكترونية، وبمعزل عن صدقية المؤلف - أكان ينتمي حقاً إلى مدينة القطيف ذات الغالبية الشيعية أم لم يكن - فإن ما يهمّنا أنه يمثل نموذجاً كاشفاً للذهنية المذهبية الضيقة والتي تقود لعبة السجال المذهبي.

الكتاب يعالج قضايا عقدية وفقهية عدة، كالعصمة والموقف من الصّحابة وعبادة القبور وزواج المتعة والخمس وغيرها من ملفات شائكة هي محور اهتمام الطرفين بين أخذ ورد، يزعم المؤلف أنه يعالجها بروح موضوعية، وحتى نقدية معرفية محايدة، ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن المحاور الأساسية التي انطلق منها الكاتب في صرخته لا يمكنها أن تصل إلى الإشكالات الجوهرية التي تغلّف التفكير الديني برمته، لذلك يلوح لي أنه وقع تحت تأثير رد فعل انفعالي إزاء بعض السلوكيات الخرافية والمجانبة للعقل، والتي قادته إلى موقف لا يقلّ بُعداً عن العقل، بحيث يوشك على اعتناق تصوّر ديني أكثر تزمتاً ودوغمائية؛ وهو الفكر السلفي، تحت مظلة ابن تيمية وابن القيم ومنْ لفّ لفهما، ولذلك ستبدو كلّ الإشكالات والمآخذ من الهامشية والسّخف، بحيث تثير ضحك الإنسان المعرفي الذي يحاول أن يلتزم جادة النقد المعرفي الرصين من دون أدلجةٍ مسبقة.

 

التفكير الديني واستقالة العقل

ما هو واضح هنا هو أن الكاتب يثير إشكالات سطحية قشرية تشي بقصور معرفي ونقص مخجل في الحاسة النقدية المعرفية: المتعة التي لها وجه سلفي أسوأ بكثير هو زواج المسيار، تهمة عبادة القبور التي ستكون شركاً وفق عقلية ظاهرية تجمد التأويل وتلتزم القراءة الحرفية الجامدة منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، شتم الصحابة التي هي بمعنى موازٍ إضفاء العصمة عليهم، والعصمة كما نعرف هي إحدى التهم السلفية ضد الشيعة، ولكن الأدهى من ذلك أن هذه الذريعة تقود إلى إضفاء القداسة على اللحظة التأسيسية للتجربة الإسلامية برمّتها، وبالتالي تجمد العقل في القراءة الموضوعية للتاريخ الإسلامي مادام الصّحابة كلّهم - وليس فقط الأئمة - يتمتعون بارتقائهم لجة العصمة والقداسة. وهذا يؤكد أن العقلية التي نسجت هذه السطور النقدية ليست مؤهلة إلى أن تُحْدِث أقلّ اهتزاز في القناعة الشّيعية، لسببٍ بسيط وهو أن العقل الشيعي جزء أساسي من التفكير الديني الذي يشمل العقل السلفي، وكلاهما يتقاطعان في خصلةٍ مشتركة هي استقالة العقل.

ولكي نفكّك النزوع الدوغمائي نحتاج إلى خطابٍ معرفي حرّ ومستقل بمناهج معرفية معاصرة. نحتاج إلى علوم إنسانية وتاريخية، وليس إلى أدلجة تفرّ إلى أدلجةٍ ليست أقلّ سوءاً، فالخروج من الطائفية والتمذهب يحتاج إلى عقل حداثي ومخزون ثقافي عالي المستوى، ولذلك فإن هذا الكتاب كما يبدو لي ليس أكثر من شكوكٍ سطحية على درجةٍ مخجلة من التبسيط، ولكنه يكشف عن أزمة أخذت تنخر الجسد الديني من جراء الهيمنة الكلية لرجال الدين على الضمائر والفكر، وخشيتهم الشديدة من كلّ صرخةٍ نقدية ستتجاوز حتماً هذه الصرخة لتنتفض ضد الأصولية الدّينية برمتها.  اضف تعليقاً       المزيد من الأخبار       إشراقات

مازلتُ مؤمناً بتفسيري «الهيروغليفي» لفواتح سور القرآنالخليفة الثاني والتفكير في التشيّع الآخرنقد الثوابت والإطار المدرسيعلي عزت بيغوفيتش.. فيلسوف مسلم عبرَ زمانه ومكانه

 

 

 

 

في المثقف اليوم