قضايا وآراء

الكتابة و الوجود (5)

وعن وجود الآخرين الذين ماتوا ممن كان قبله لشعوره باللا وجود والبحث المستمر دون توقف عن الوجود .

هل فكرة الموت  تتوقف من خلالها حريتنا في الكتابة لتظهر مقيدة في ظل إرادة الله ؟ هل يمكن فعلا تجاوز فكرة الموت كتغيير ضروري حتمي و كقدر واقع؟ كيفية قبول فكرة الموت والتصرف في صيرورة الوجود المؤقت، اغتنام فرصة الوجود لتقبل فكرة الموت واللاوجود؟ تهديد الموت لكل لحظات وجودنا؟

لا شك فالموت حدث غيبي متعلق بكل حي وهو الحد الحتمي لكل ما هو  موجود وهو دافع جديد لحياة موجودات غير كائنة في الوقت الراهن.

الموت نهاية الحياة الإنسانية المنتقلة لحياة أخرى مشابهة، الموت نهاية لوقت محدد في زمن محدد لحياة بشرية أو طبيعية أو لكل وجود مخلوق؛ النهاية لأوقات داخل مشروع زماني  لا منتهي ومنتهي عند الله حين يشاء كيفما يشاء.

نهاية وقتية كما نمنح وقتا محددا لإنهاء عمل بعده لا مجال للعمل فيه لأننا أنهينا ما أردنا أن ننهيه بالمطلوب منا.

 الموت ميعاد محسوب في لوح الغيب ينهي أعمالنا وفعلنا  المنجز أو تهاونا في الذي كان يجب فعله  و أجلنـّاه.

لكن هل الموت هو نهاية لكل حياة بشرية أم هو ميلاد للموت في الحياة؟ هل الموت ينهي وجودا ليمنح وجودا أكثر تلازما لحياة الآخرين؟

هل هو فكرة الشروع نحو الموت القريب الذي يمنح الشروع في الشعور  لأجل الحياة البعيدة الأزلية إلى ما شاء الله؟

لا شك الاهتمام الكبير بالتفكير في انتظار الموت هو نفي للوجود الحقيقي الذي يحياه الإنسان و الذي كان من المفروض أن لا يشغله عن وظائفه الحقيقية، إنه من اللازم الانشغال بالجانب الايجابي لفكرة انتظار الموت حتى تتحول إلى فكرة تحدي للوقت وللزمن والأخلاق و التقدم و الإبداع.

لقد ربط مارتن هايدجر فكرة الموت بالكينونة على أساس أننا موجودون من أجله و إنما الذات  وجدت لهذه الغاية، إنه وجود من اجل الموت  ولكنه موت غير موجود بعد، حاضر في الوعي بصورة مسبقة.

نكتب عن الأموات، نرسم ألواحا نخلّد فيها الأبطال والضحايا أيضا، نفكر في كتابة قصصا في الموت و نمنح الأبرياء غالبا دور الضحية ونمنح الوقت الكافي للطغاة والمتعنتين ليزدادوا في طغيانهم لأجل أن نمنحهم موتا قاسيا أكثر من أي موت آخر، نفكر في موت الشخصيات الثانوية حتى نتشبث بحياة القصة أو الرواية أو السيناريو أو الفيلم لأجل أن نمنح مزيدا من الحياة  الجميلة قبل الموتة التراجيدية لبعض العناصر داخل النص.

نفكر في الموت و نحن نكتب  عن الظلم و ننتظر تلك المشاهد التي نصف فيها البطش و التعذيب أن تقام علينا لأننا بذلك قدمنا دعوة للآخرين ليقرّبونا للموت أكثر ، نتكلم عن الشجاعة في المعارك و فَعَلَهَا أبو الطيب من قبل حين ذكر الموت لمّا كان بعيدا وكانت شجاعته أمنية، لم يراه و لكنه ذكره و لما ذكره  وصدق عليه قول ما قال وجد أن كلامه الذي منحه للغير ذكروّه به فكان ما قال قاتله.

في الكتابة نعمل على إفشاء الأسرار المميتة و نعلم أنها مميتة لأنه وجب علينا ذكرها ففي ذكرها ذكر للموت، نقاوم الموت أحيانا حين نتهجم على سلطة الذئب علّه يتخلى عن عدائيته اتجاه ضعف الشاة البريئة  بغية التمني على الأقل إبعاده بقدر المستطاع عن الدائرة التي رسمها للخطر القائم على القطيع.

الكتابة عن الوجود اليومي  بغية الفرار من مواجهة الموت ومشروع الذات هو في حقيقة أمره ترقب له، يصبح الموت في أعلى إمكانياته وكل الإمكانيات الأخرى خاصة به، فكأن الحرية الوجودية لا تنكشف إلا من خلال الموت وهذا الأخير يكشف عن تأصل الحرية في الوجود الإنساني.1

في بعض نواحي الكتابة تهيئة للموت لأجل إبراز الجانب الايجابي للآخر حتى و إن رآه الآخرون إيجابيا كذلك حين يضعون حدا لحياة الكاتب ( جانب الموت السلبي  أن ينهي الآخرون حياة إيجابية و يعتبرون ذلك جانبا إيجابيا في الموت الذي حققوه أو كانوا سببا فيه؛ وجانب الموت الإيجابي أن تبدأ الحقيقة في السطوع من خلال الحياة السلبية للذين أنهوا الحياة الايجابية ضانين أنهم حققوا ما كانوا يصبون إليه).

يستطيع الفيلسوف أو المفكر أن يرى حياته من خلال ما يقدمه لو قدر له مشروع مؤامرة الموت؛ إن موت الآخرين المتشابهين في المواقف و القضايا دليل على موت هؤلاء الفلاسفة ولو كان موتهم حضوره الغائب معهم فجأة ، مهما كان محنة و منحة تأتي من خارجهم، فيها فقدان إرادتهم لِمَا أرادوا إظهاره دون شعورهم  بما يدنونه لهم من رحلة و إنهاء للحياة.

الكاتب الرسالي و المفكر و الفيلسوف لكل ذا موقف موقفه ليس موته حدا لحياة إيجابية إنما حدا لحياة مادية و انتقال للروح بترك ماضيها و أثرها المشع النيّر يتجدد في أرواح أخرى متمثلة في صور حية لآدميين آخرين لا يعرفهم لكنهم يعرفونه؛ كل صانع أثره وخاصة من كانت حياته كلها تواصلا و إيجابا ممتلئة بالخير و الحب.

 الموت لا يفصل الوجود كله  لأن مهمته وضع الفناء العيني لا غير لأن الحياة الايجابية لا تنقطع بمجرد الموت لأنها تتجاوز الوجود إلى وجود آخر مختلف؛ الموت يحدث التغيير الوجودي ليمنح الآخرين المكان والزمان و أسباب العيش التي نالها السابقون مثلما يحدث الزمن التغيير في الجسم و النفس بهذا المعنى الموت باب فناء الأجسام والأرواح تاركا أثر المعنى لعمل إيجابي حدث في الحياة الإيجابية.

 قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية وولد يدعو له و علم ينتفع به الناس." حديث شريف

الحديث عن فكرة الموت ومسألتها في الحقيقة هو نوع من المقاومة للموت ذاته، يحيا الإنسان  لأجل الابتكار في عالم المعرفة فلولا الأوبئة الفتاكة مانحة الهلاك لهذه الأرواح لأجل أن يتعلم، لأجل أن يقاوم هذا الموت ولو أن قدر الموت  هو قدر الحياة لأن في قدر الموت يوجد قدر المعرفة  التي تخفف الآلام و الأوجاع و تشفي الأسقام الفتاكة.

الكتابة التي تغرس بذرة الألم داخلها مقاومة للموت بعدم الاستسلام  لدواعي الموت الكثيرة المعنوية و المادية، عدم الاستسلام فلعل مشيئة الله تريد من خلال هذا الأمل ومن خلال رجاء الإنسان إليه تخفيف الوجع و تأجيل الموت لأجل آخر، يأمل الإنسان ويحصّل دواعي العيش و التطبيب الجسدي و الروحي على أمل أن يحيا زمنا آخر حتى لو كان بعلمه أنه ميت لا محالة و أعتقد أن فكرة ربط الموت بالتمرد و العصيان البشري والاحتجاج الطويل ضد وقائعية الموت نحو الثورة و العصيان عند ألبير كامي2 وإن كان شطر منها صحيح إن كان الهدف منها المطالبة بالحق في الحياة الكريمة وتقسيم المال العام في حال اللا عدالة و اللا مساواة و تفشي ظاهرة الجوع و الأمراض القاتلة واقتصار الضحايا على الفقراء و المعوزين فإن فكرة الخوف من الموت تدفع إلى الثورة و العصيان لأجل تحقيق التمرد بغية أخذ متطلبات الاحتياط من الموت.

 لكن رأينا هناك جزء مهم في فكرة الاهتمام بالموت  فإن الفكرة ذاتها تحرّض على العصيان لأجل الموت  أو البحث عن الموت وهو استغلال الظرف و الوسيلة لأجل التخلص من الحياة السلبية  ذاتها كنوع من الانتحار الشرعي ، هروبا من واقع مزري مكائدي متأزم محتقن؛ الموت باتجاه التخلص من حياة ظالمة جاهلة إلى حياة أكثر اطمئنانا وعدلا وشرفا، اعتقادا دائما من خلال تعلم و قراءة أخذت من تعاليم وراثية مأخوذة من وجود ضعيف أو سلطة وجود يعتمد على المقدس الديني أو التراثي أو التهويلي التجهيلي.

فئة أخرى تصل إلى مرحلة الفراغ الوجودي الذي تجد وجودها غير موجود فتعمد إلى نوع من العبثية ومن خلالها تتخلى عن وجودها باتجاه اختيار الموت( الانتحار ، الحرق، الغرق،أحداث الطرقات ، التهور ، المخدرات...) كعبثية أخيرة هروبا من واقع وتنازلا عن حرية لطرف آخر يتصرف بمنطق اللاعدل و اللامنطق و اللا قانون، لأن العدل و القانون اجتهاد من العقل لأجل التحكم في مصائر الناس أفكار مجموعة أتت من عبث، هو إذا خضوع لفكرة وجودها الضعيف و المتلاشي إما سلطة الوجود القوي للآخرين المتمكنين من  تحصيل هذه الخدع و الحيل لأجل التحكم في حرية الضعفاء.

إن نظرة العبثية  حينئذ تظهر في رفض الأخلاق على أساس أنها إنتاج العقول الضعيفة كما ذهب إلى ذلك نيتشه ومن ثمة الحيلة لأجل الاختيار و تنصل المتسببين من المسؤولية، إن هذه الفئة تختار الموت لأجل التخلص من المعاناة كباب الرجوع لأصل العبث الأول.

فكرة الموت لا تتحقق بمجرد إرادة التحقق أو رغبة الانتظار أو التأخير و لا في اختيار المكان أو حب الرجوع إلى ماض لأن فكرة الموت حاضرة لأنها لم تكن ماضي و لا تلتقي برأي و لأنها كلمة تؤدي وظيفتها  والبشر مادتها، يقول أبو العلاء المعري3:

بقيت و ما أدري بما هو غائب     *    لعل الذي يمضي إلى الله أقربُ

تود البقاء النفس من خيفة الردى  *   وطول بقاء المرء سم مجربُ

على الموت يجتاز المعاشر كلهم   *     مقيـم بأهلـيه ومن يتغربُ

وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي *    فتأكل من هذا الأنام و تشربُ

 

الموت تهديد يغفل عليه كثير من الناس ولذا يكتب الفيلسوف و المفكر و الأديب كل ما يتعلق بهذا الفناء و العدم ؛ تهديد وعائق أمام العقول الراكدة التي لا تتحرك لأجل إثبات وجودها، العقول الميتة حية ماديا دون الوجود الفعلي ( الروح الفعال)، والعقول العظيمة أجساد ميتة لكنها حية اسميا بوجودها المتصل مع انقطاعها عن وجودها في هذا العالم.

من خلال ذلك يترتب على الكاتب و يتوجب  أن يعمل و ينتج و يبدع و يصلح و يجتهد ويهيأ نفسه كيف يكون ليكون تزامنا مع يقين فكرة الموت الذي لا يخطئ أحدا و لا يترك أحدا كفكرة يقينية على كل ما هو كائن وموجود قبل أن يوجد أصل الوجود في هذا العالم.

لأن الموت  هو أخذ لما أعطيَ من حياة.

لا احد كان ليؤمن بالموت كوجود خارج عن وجودنا لولا رؤية الآخر وهو يموت أو كيف يموت أو يقرأ عن تفاصيل موت كثيرة لأحداث كثيرة، أو سماعه و رؤيته لاستشارات طبية أو روايات حرب أو قراءة حول تفجيرات أو حوادث الاحتجاز والاختطاف و التعدي ومن ثمة وجبت الكتابة و القراءة لأجل الاهتمام بالموت للابتعاد عنه و لو كان عبثا.

الكتابة هروبا بصاحبها من الموت إلى الحياة، يتقي العواقب و التهور و التهديد بتقديم نصائحه للناس على أمل الحفاظ  على روحه وأرواح أخرى  لكنه قد يكون منح ذاته إلى عتبة الموت و الهلاك بإفصاحه عن سر من أسراره التي تُجَنّبْ العامة الهلاك والحتف، فيكون حتفه بدلا (كشف أسرار الأسلحة الفتاكة، مصانع الكمياء، النفايات الملقاة في الدول الإفريقية، الإشعاع النووي... خطر على الأنظمة الاستبدادية ، مصالح الدول ذات النظرة التوسعية...) ومن خلال ذلك الكشف يلقى قهرا وجبرا وتعيينا وخانة للتخلص من حريته تخلصا من حياته. "

الإنسان حر في تغيير وضعه أنّ شاء ومجبر على تقبل القدر و اليقين( الموت قطرة من بحر القدر) فهو من خلال ذلك يتغير أو يغير لأن دافعه يتجلي في اختياره كيف سيكون مستقبلا أو يفكر كيف سيختاره الناس ليكون الحياة الإيجابية لوجود متصل بعد الانقطاع عن هذا العالم.

الإشكالية فقط حين يكتب الإنسان و لا يجد من يفهمه و لا يقرأه ولا يهتم له هناك فقط يجد نفسه محنّطا بموت معنوي... ويبدأ في مسائلة أخرى حول وجوده ووجود الآخر...

 

 2 ـ موضوع مقتضى حل مسألة الوجود وتثبيتها واقعا و تحولا الإنسان مسئول أمام وجوده لأنه وديعة الله (العقل و الروح) يردها وهو السائر للفناء الذي أوجده، مسئول أمام إبداعاته وكلماته وكتبه و مقالاته وقصصه وومضاته، مسئول على التزاماته اتجاه كلمة واحدة  يكتبها أو ينطقها، مسئول عن جبنه  وخيانته عن شجاعته و بطولته و إقدامه وهو العالم بالحقيقة.

 لا يولد  الإنسان جبانا و لا بطلا ، محبا للخير مدافعا عنه  أو أنانيا لجبنه، لا يولد بهذه الصفة إنما هو من يصنع نفسه كذلك أو يصنعه الآخرون.

يمكن للجبان فتح باب البطولة و طرد الجبن  من خلالها  لو حصل دافع ما كما يمكن للبطل دفن بطولته في زمن الهزائم  ويكتفي بالعزلة مخرجا لمأزقه لدافع ما، تنكشف قيمة صاحبه من خلال ما يقدمه من تضحيات و أعمال وهو في ضائقة كبيرة من الحياة مقهورا و مجبرا على التنازل ومغلوبا على تحريف مواقفه. يقول سارتر في قصته أبله العائلة: " أعمل، ألتزم ، و اختر تستطيع أن تكون مالا تكونه."

كان يمكن لوضاح اليمن وهو قائل الشعر الجميل والثابت على حبه لولادة والغير خائف من بطش الخليفة به أن يظهر نفسه من داخل الصندوق حين سمع قول الخليفة بعد علمه بوجوده مع زوجته :

" أيها الصندوق إننا ندفنك وإن كان الذي بداخلك غرضنا، و إن لم يكن بداخلك شيء فإنك  خشب لا غير."

 إنها حكمة الخليفة ولو شاء لأظهر  وجود شاعر محكوم بجرم، بل ترك لغزا جميلا في وجود الجبن والشجاعة و الحكمة والسر أيضا.

الكتابة إلتزام و انخراط في عمل ما يمكنه بناء كينونة وجودنا فالإنسانية كينونة ؛ وعَمَلُ الكاتب جسر ينتقل به من وجود فارغ  دون معنى وهدف إلى وجود واقع أصيل حر قال تعالى:

 " أحسبتم أنما خلقناكم  عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون" قرآن كريم.

و العمل جزئية في فلك الزمان و المكان و العمل الهادف لحظات اختيار عن وعي ودراية وروية. وهذا كله مرده حرية الإنسان في تغيير التغيير المختار من قبل المغيّر.

عمل الكاتب  الحقيقي مشروع أساسي  موضوع بمقتضى حلّ مسألة الوجود وتثبيتها واقعا و تحولا من لحظة القرار بالعمل إلى لحظة إرادة الذات إلى لحظة الاختيار في مراجعة الماضي الذاتي من أعمال و مشاريع كتابية قديمة أو حاضرة أو مستقبلية لقد غيّر سارتر نظرته اتجاه الآخر في قوله "الآخر هو الجحيم" إلى نظرة جديدة أن الآخر معادلة لمعرفة الذات؛ و هناك من رأى التصالح مع التراث بعدما رأى في الحداثة قطيعة له مثل أدونيس.

 إن العمل الكتابي الإبداعي يمكن أن يتغير في أي لحظة  في حاضرنا أو حتى الذي خططنا له في مستقبل قريب ، حتى المشروع الماضي يمكن تغييره حتى و لو خرجت سلطتنا عنا إلى سلطة القارئ أو كما يقول بذلك بارت موت المؤلف و اعتقد أن بارت يقصد موت وصاية المؤلف على العمل المنجز لأن وجوده سيصبح منفصلا بمجرد انتهاء عمله لينشغل بوجود آخر في عمل جديد حتى و لو كانت لحظات العمل الجديد شبيهة  تمتص طاقتها  من شعاع منفلت من ماضي ذاك العمل.

إن العمل الإبداعي الفكري نتاج لحظات  ومسائلة وجودية تربط زمنيين مختلفين و قد يكونا متطابقين أو متشابهين  وفي ذلك  استحضار للوعي الذي بواسطته يختار اللحظة لتغيير العمل ووضع تحسينات جديدة تتماشى مع الجديد الذي يظهر  حقيقة الوجود.

اللحظات لا تبني الوجود الأصيل و لا هي الوجود الفارغ المتلاشي؛ اللحظات لمعان ضوء هناك من يراها مخرجا من الغابة فيهتدي بالنور للنجاة ومجرد وهم للخائف القلق المضطرب  المعتقد باختيار وعيه أن النجاة في الثبات بالمكان خشية الضياع.

العمل الإبداعي  متغير حسب معطيات الواقع السياسي و الاجتماعي  والإنساني ككل ولحظات التغيير مواقف اتجاه  هذه المعطيات بموضوعية واعية؛ حتى الرضا بما هو ماضي يحتاج لدعم جديد ليثبته أو يؤكده دون نفيه أو التحرر منه.

الكتابة اختيار من خلال لحظات معرفة الوجود، المتحوّل و المنقلب داخل وعينا، داخل مشروعنا المتجدد اللانهائي الغير مستقر لكن المستمد من المطلق (الله)  ومن تعاليمه ذاك اختيارنا الخاضع للمطلق المانح لحريتنا .

 إن العمل الفكري  يبني رؤيته على أنقاض  ما قد سلف من أعمال ، يكتشف وجوده الحقيقي؛ إنها المبادئ  و المواقف التي كان يدافع عنها و يتمسك بها  وقد بدت له فيما بعد خاطئة فينبذها و يتمسك بأخرى أكثر تأكيدا للحق و تثبيتا لإنسانية الإنسان نابذا العمل الماضي لاعتبارات مراهنة اختيارنا وحريتنا

 "فمن يتجرأ على الموت في سبيل ما هو خطأ أو ناقص؟

 كالعاملين بعمل أهل الجنة و في الأخير يعملون عمل أهل النار فيدخلون جهنم و كالعاملين بعمل أهل النار و في النهاية يعملون بعمل أهل الجنة فيدخلون الجنة  كما في حديث الرسول  صلى الله عليه وسلم.

العمل (الكتابة) اختيار في ظل ضوابط مشروعة وهذا ليس نفيا للحرية على الإطلاق إنما الكتابة في ظل القديم و الجديد إظهار لقيم مستترة سعيا  لنقلها وإبرازها مع القيم  التي نسعى لاستخلاصها .

الكتابة وجود يحرر المؤلف من العائق  الداخلي  إلى مفتاح القرار، القرار معادلة  الفكر في تغيير اللحظات ، اللحظات مجموع اختيارات و كيفيات تعبيرية عن الوجود  من خلال تصرفات و سلوكات  و اتجاهات ، إسقاطات على العمل (الكتابة).

العمل الفكري و الإبداعي  مشوار أخلاقي  وتصحيح للمسار اللا أخلاقي  أو تهذيبه و الإفصاح عن السلوك السيئ المجرّب أو الذي لا زال في سجن الضمير و الألم، وعن تصرفات الذات و الناس  واتجاهاتهم ؛ حر برأيه تارة وتارة أخرى مقيّدا بآراء الناس و أخلاقهم  وحرياتهم.

العمل الإبداعي  فكرا و روحا (الكتابة) اختيار أخلاقي بحرية كاملة انطلاقا من آراء الناس لردها أو تصحيحها  أو تهذيبها أو دفنها أو تكسيرها  وتفتيتها.

آراء الناس  قولا و سلوكا و اعتقادا و تصرفات ، العمل الإبداعي (الكتابة) رياح مرسلة تجوب الحقول لتكمل عمل النمو(اللقاح) دون الاقتصار على حقل نخيل أو قمح أو شجر برتقال أو زيتون ، كذلك  الكتابة ليس لها قواعد محددة وضوابط  زمكانية آنية خاصة  بموضوع على نحو قبلي  أو مسألة محددة قبل عمله الإبداعي (فكرا و روحا) موجها في نطاق ضيق ، الكتابة  عودة  إلى الوجود  الحقيقي  و إلى الداخل  وتفاعلاته  مع الخارج ، إنه الوجود البشري هذا العمل الذي هو بقع سوداء على إزار  العالم بأكمله متسخا كان أو نقيا .

إن عمله  الإبداعي المراد كتابته  ونقله إلى لحظات الآخرين وقد كتبه فعلا .

 إن العمل الفكري (الكتابة) لم يحدد مخرج المسألة و لا الحلول لمعضلات  آراء الناس من قبل لأن هذه  المسائل و الآراء كانت منعدمة تنتظر من يحلها  أو يشير إليها  أو يحقق في إشكالاتها ، وقد تتحقق حلولها لتمنح إبداعا وأثرا إنسانيا خالدا لتكون إسهاما في تحقيق بصمة جديدة لوجود جديد من خلاله يحقق الآخرين مرادهم في تحسين آرائهم أو تركها  أو حتى التخلي عنها لأن الإنسان من لحم ودم  ولن يكون حجرا مهما أراد أن يكون؟

في هذه اللحظات  لحظات الأثر يختار الآخرون لحظات وجودهم  داخل لحظات وجود الكاتب الغائب الحاضر دائما في عمله. و الاختيار مسألة أخلاقية متعلقة بالله(المطلق) وبالنسبي(الإنسان) إنها معرفة الماهية (انتقال النسبي دائما إلى حيث المطلق برضا أو مرغما مكرها): جريان النهر إلى البحر، الماء في البحيرة ، الماء في جوف الأرض؛  القطرة من الغيث و نقص الأرض من أطرافها من الموج، الماء العذب في الجدول و الماء الراكد الأسن.

إن وجود الإنسان لأجل معرفة ذاته معرفة حقيقية  بعيدا عن السطحية لتقرير من خلالها وجوده كإنسان يخلق و يبدع قانونه الذي يخضع في كثير منه إلى قانون المطلق والنسبي أيضا، قانونه الذي يتماشى وفق نظرته الصحيحة إلى وجوده مبتعدا عما لا يقوى  فكره على فهم غايته ومراده فيما يراه الله(المطلق)...يتبع

 

خالد ساحلي

 

......................

المراجع:

1 ـ مطاع الصفدي: مارتن هايدجر و الكينونة ص ص 13/ 14

2 ـ ألبير كامي الإنسان المتمرد : ترجمة نهاد رضا. ط الثالثة 1983 ص 135

3 ـ أبو العلاء المعري اللزوميات

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1251 الاربعاء 09/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم