قضايا وآراء

صدور ديوان جديد للشاعر التونسي الحبيب الهمامي .. "أحبك بأتم معناك"

"يطربيني لون عينيك" 2004 . والقارئ لدواوين الشاعر الحبيب الهمامي يستشف أن شعره يقوم على الرؤيا الشعرية الخالصة التي ترتفع بالذات إلى تخوم المعنى، فتستحيل قصائده إلى رؤى تشع بالأنوار الإلاهية . ولئن قام معجمه الشعري على مفردات النشوة ورنين الروح، فديوانه الجديد يذهب بالنشوة إلى تجلياتها القصوى حين ينهل الشاعر من لغة القرآن وصوره وأساليبه، وخاصة في القسم الأول من الديوان " نور العزلة " حين ينتحي الشاعر مكانا قصيا وهو يتهجد المعاني الشعرية في عزلة هي أشبه بعزلة الصوفي، ولكنه لا يستقدمها من التراث الأدبي الصوفي بقدر ما يستقدمها من القرآن عبر تأمل صوره القصصية المعجزة، ومفرداته الموحية، فإذا بالشاعر يكشف عن كينونته الشعرية انطلاقا من نص معجز، مضيء، ومنغم . يطرب روح الشاعر ويبعث فيه حالة من الخشوع عند العودة إلى كتابة نصه الشعري، وهو يتمثل نفسه في صورة نبي اصطفي ليعيد ترديد لغة البيان .

 

وقد قام الشاعر الحبيب الهمامي بتصدير ديوانه الجديد بعبارة للشاعر الفلسطيني محمود درويش " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " و عبارة أخرى " نحبها إبنة الكلب الحياة " للشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وعلى ظهر الديوان  انتقى الشاعر عبارات من مقالات كتبت عن تجربته الشعرية، حيث ترى الشاعرة نجاة العدواني أن الحبيب الهمامي " يختزل الكلمات نافخا فيها من ذاته صورا موحية مغردة تفضح جنونه "، ويرى الشاعر والروائي حافظ محفوظ أن " هذه القصائد اللذيذة للحبيب الهمامي التي تختزل أسئلة لا تحصى وتعمل على إرباكنا بما تختزله من رؤية فنية متطورة ومن صور شعرية ضاربة في التجديد ومن ايقاع خاص يجعلها أنموذجا متطورا في التجربة الشعرية العربية " أما كاتبة هذه السطور- هيام الفرشيشي - فقد ربطت منزعه الروحي بالأسئلة الوجودية التي لا تنضب " أسئلة الشاعر الحبيب الهمامي لا تنضب وإن طرب وانتشى لأنه لا يمتلك حكمة ولا يحمل يقينا وإن فتح له الغيب أبوابه المقفلة "، في حين ارتأى الشاعر شمس الدين العوني أن " شعر الحبيب الهمامي قد مثل بستانا خاصا في مدونة الشعر التونسي الحديث " .

 

وقد قامت قصائد هذا الديوان على الحب المقدس المقترن بفيض روحي لا ينضب، وإدراك الينابيع القابلة لتشكيل الصور التي لا يكشف عنها غير الانفعال الخلاق، ولا تبعث موسيقاها غير خفقات القلب :

 

أتمدد فوق الموج منبهرا

أكتب إسمي فوق الرمل

لي حرفان من البحر الحاء والباء

تسعى الأمواج إلى محو إسمي

فإذا هو يطفو فوق الماء

 

 فالصور الشعرية التي تمر عبر القلب تلتقط الأحاسيس التي تتركها، فالصورة بهذا المعنى محمول لكتلة انفعالية وسبرها يؤدي إلى تمثل دلالاتها، إذ ذاك نستطيع تفكيكها  أو تشفيرها عبر العاطفة التي تستشعر الكتلة الانفعالية التي تشحن بها الصورة ولا تكتفي بالشكل الظاهر . و بث الحياة في الصورة، مرتبط  بتشكيل المعنى  الذي لا يعدو مجرد تجسيد  لصورة جامدة، بقدر ما هو تجسيد لصورة  حية نابضة بالحياة الداخلية للشاعر، وفي حالات خط الصورة، يعيش تجليات الأنوثة ( الوضع ) كسر لكل دلالات العقم والموت، وإرساء للخصوبة في مقوماتها الجمالية والتشكيلية . ليعبر عن هذا العشق الأبدي في حالة الخلق والولادة أو ما يعبر عنه بالخصوبة الروحية :

 

أحببناك أحببناك

وأغلقنا

فاض في الدنيا نور نورك فاشتقنا

وتعالينا وتعمقنا

في السماء التي هي بعد السماوات

غطانا بحجاب سماوي

عبقري فأشرقنا

إننا الآن نور من أنوار خلقنا

بعضنا قمر بعضنا شمس

رضي المعشوق ولم نرض

ما زلنا في الهوى نشقى

فإذا جاء يوم

بلغنا في سعينا ما وراء العرش

عشقتئذ نتلو الحجج الحسنى

ونقول الآن عشقنا

ونقول : الآن عشقنا

 

الاندماج بين روح الشاعر وروح الأعلى  أثمر هذه الحالة الخصبة، المرتفعة عن أدران الواقع، المنعتقة من القيود الحسية، تتحول فيها الأنا إلى نحن المحتشدة، إلى وحدة الاندماج، فإذا بالواحد كل، وإذا بالكل يذوب في ذرات محبة الأعلى، ويبلغ درجة التسامي والذوبان . هذا العلو عودة إلى أعماق الذات، وإلى ينابيع الخلق، و لحظة الإشراق، والصفاء والتجلي، والانعتاق هي حالة من التأملات الشاردة  حسب باشلار، التي تفضي إلى الخيال الخلاق، وإلى الحلم الواعي المشرق الذي يتصور على موسقى خفقان القلب ورنين الوجدان . ليخلص الشاعر إلى اللحظة الشعرية التي تعبر عن وجوده الشعري، عن لحظة الكشف ... ولحظة الإشراق هي نتاج التهجد والطقوس الروحية التي تجلت في قصيد " العبد الباقي"، ويستعيض الشاعر بمفردات اللهب والنار الصوفية، بالقمر والشمس ككواكب مشعة بالأضواء ومثلت آداة قسم إلاهي، تتداول على إنارة الكون، سيما وأن الاندماج في الذات الإلاهية هو الاندماج في أنواره .

 

عند الفجر نهضت

توضأت بالدمع مرتجفا

ثم صليت

وظللت إلى فجر الغد

أبكي أصلي وأبكي

وأصرخ يا ليت

قال من عرفوا أمري

إن كنت تغافلت يوما عن المعبود

لم تحترق عابدا

فابتهج ها قد أديت

قلت : حولي حشد

أرى نسوة في البياض يزغردن

وصفيين اصطفوني يطوفون بالبيت

كلما زادوا أخشى وحدي

ياليت الحشد يكثر يا ليت

قال أصفى صفي

لو أدركت المعبود يا أيها العبد الباقي

لنظرت إلى موتك الفاني

واكتفيت

 

يعود الشاعر إلى الزمن البكر وما يحيل إليه من بداية، بداية اليقظة والنهوض لينخرط في حالة خاصة لم تنجل ليلا وإنما هي نتاج الحلم الواعي، هي لحظة الرجفة والخشوع . هي حالة النقاء، وبداية رؤية الذات ومعرفتها واكتشافها في طريق جديد . طريق التهجد واستعادة البدايات طقسيا، لتتخلق صور الكشف وصور الشاعر في عالم البهجة الروحية، وبياض المعنى، وطواف الروح حول مركزها النوراني،، ويتحول الشاعر بدوره إلى نواة النور وقد اجتذب الصور الأكثر إشراقا، فإذا بالشاعر أعلى مرتبة من الإنسان العادي بما أنه اصطفي للكشف عن المعرفة الروحية العميقة . عبر رجفة الحلول ودمع التجلي .

 

انتظرت

وأوقدت روحي في

ظل نخلة مريم

قد شربتها الصحراء

وظلت ظلال الحياة الدنيا ظلها

يثلج ناري

وانتظرت الناقة تأتي هاربة

من ثمود

تأتي إلي وحدي

وعلى ظهرها سر الأنوار

 

إن ما يميز شعر الحبيب الهمامي هو حمل القارئ إلى ماوراء الصور الشعرية، وإلى مخاتلة مفهوم التصوف إلى غبطة الدهشة لتستحيل الكتابة إلى متعة التشكيل لمنابع الخلق الشعري، إلى عودة إلى رحم اللغة، إلى التأمل في وجوده الإنساني في خضم الوشائج التي تشد لغته إلى جذور الخلق، ومن ثمة لن نبحث عن جذور لغته الشعرية في مراجع شعرية وأدبية سابقة، بقدر ما نبحث عنها في كتاب الإعجاز وهو القرآن، لندرك في النهاية أن لغته لم تكشف سطح الدلالة ولم تثقبها فجوات العجز، ولم تنخرها غربة الروح بل تتسامى حين تتحول الكتابة الشعرية إلى استجلاء لكينونتها داخل النص المقدس ...

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1251 الاربعاء 09/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم