قضايا وآراء

عندما يكونُ الشعرُ عبثاً ليسَ إلا/ شعراءُ العقدِ التسعينيِّ في خانةِ النسيان

شعريةً وقى الله الشعر العراقيَّ شرَّها في نهاية المطاف ولله الحمد، فلم نصادف من شعراء ذلك العقد الشعريِّ البائس إلا القليل جداً ممن استطاع أن يقدِّم مثلاً، لا أقول إنه يُحتذى، لأنهم جميعاً لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة من يُحتذى بهم شعرياً بطبيعة الحال، ولكن أقول إنَّ قليلاً منهم من استطاع أن يقدِّم نماذج شعريةً حقيقيةً تتواصل نسبياً مع ما قدَّمه الشعراء العراقيون الثمانينيون على سبيل المثال، ناهيك عن أن يكون واحدٌ منهم قد استطاع بالفعل أن يرتقي بنماذجه الشعرية إلى مستوى ما قدَّمه الشعراء الستينيون العظام، وإن كانت طرائقهم الأسلوبية في كتابة الشعر لم تعد مما نتَّفق به مع الحيِّ منهم في الفترة الراهنة، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر تفرُّد ذلك الجيل الستينيِّ العظيم على مستوى ما قدَّمه من شعرٍ رياديٍّ ما زال إلى الآن يحظى بالقيمة والإعتبار من قبل عددٍ كبيرٍ من الشعراء الشباب في العقد الأوَّل من القرن الواحد والعشرين.

لا شكَّ أنَّ عقد التسعينات شكَّل نكسةً كبيرةً من الناحية الشعرية والثقافية على وجه العموم، وإن كنا نتوقَّع أن يتَّهمنا شعراء تلك الفترة ومثقَّفوها بأننا منحازون إلى الجيل الذي أبصرت  فيه كتاباتنا النور، وهو الجيل الألفينيُّ الذي أعقب سقوط نظام الطاغية على وجه التحديد. إلا أنَّ هذا الحكم مجانبٌ للصواب جملةً وتفصيلاً، بداهة أنَّ كاتب هذا المقال إنما كتب الشعر في نهاية الثمانيات من القرن المنصرم، ونضج شعره واستطالت تجربته في العقد التسعينيّ، في تلك الفترة التي جمعته أواصر الشعر والصداقة مع جملةٍ من شعراء النجف وكربلاء، ومنهم الشاعر الشهيد أحمد آدم رحمه الله، والشاعر صلاح حسن السيلاويُّ الذي هو من جملة هؤلاء التسعينيين الذين أستثنيهم من عطاء الهزال في تلك المرحلة، والشاعر عماد العبيديّ، والشاعر ماجد الشرع إلخ. فلا يكون هذا الإتهام بحقِّنا وارداً من هذه الجهة. نعم، إنَّ الظهور الفعليَّ لشعري إنما كان في هذا العقد الذي نعيش نهاياته على وجه التحديد، وليس هذا وحده كافياً لجعلنا منحازين إلى هذا الجيل الذي يصغرنا سناً ضدَّ الجيل السابق، لكنَّ الحقيقة هي التي تدفعنا إلى أن نقرِّر مثل هذا الحكم، وإن كان حكماً مرتجلاً بسبب افتقاده إلى الإستشهاد بالنماذج وتحليلها وتشريحها منهجياً من الناحية النقدية، لكنه يظلُّ حكماً صائباً في رأينا، بداهة أننا قادرون على الإستدلال عليه بمختلف المقاربات المنهجية النقدية في حال أننا نشاء ذلك.

نحن لم نتحدَّث بالسوء عن التجربة التسعينية للشعر العراقيِّ إلا من أجل غاية المقارنة بما تمَّ تجاوزه من الأخطاء الفنية  والمنهجية التي راح ضحيَّتها الشعر والنقد الذي رافقه كلاهما في العقد التسعينيِّ المنصرم، وإلا فإنَّ المسألة لا تعدو كونها مشاكسةً لا محلَّ لها لو أنها تجرَّدت عن تلك الغاية المنهجية الواضحة، خاصَّةً بعد أن تمَّ تناسي تلك الفترة بكلِّ ما ظهر فيها من الشعر من قبل النقاد والقرّاء على السواء، ولم تعد تعني شيئاً حتى على صعيد كتابة التأريخ الأدبيِّ والشعريِّ لمرحلةٍ زمنيةٍ على وجه التحديد.

 

موقف التسعينيين من الشعر الموزون

يجب أن أشير في البداية إلى أنني لا أعاني من عقدةٍ نفسيةٍ أو فنيةٍ على صعيد الموقف من قصيدة النثر العراقية، فأنا من الداعين إليها بحماسةٍ منقطعة النظير، كما إنَّ أغلب نماذجي الشعرية التي أتواصل في كتابتها بشكلٍ دائمٍ على وجه التقريب، إنما هي من هذا الطراز من الشعر، أقول هذا من أجل أن أقطع الطريق على من يشاء أن يخلط الأوراق من هذه الجهة، فيعتبر موقفي الذي سوف أبين عنه في السطور اللاحقة نابعاً من كوني لا أعترف بشرعية الوجود لقصيدة النثر، أو أنني أعاني من عقدة العجز عن كتابتها في أيِّ شكلٍ من الأشكال.

لكنني كما أعترف بشرعية الوجود والحياة والإستمرار لقصيدة النثر، وأتصدّى لردِّ جميع الشبهات المتعلِّقة بهذا الجانب على المستوى النظريِّ نقاشاً وكتابةً، فإنني أعترف  بنفس المقدار من الشرعية والحقِّ بالوجود والحياة والإستمرار للأنماط الشعرية الأخرى، سواءٌ على مستوى القصيدة العمودية أم على مستوى قصيدة التفعيلة التي تسمّى خطأً بالشعر الحرّ، وإنما الشعر الحرُّ هو الذي لا يشترط فيه أن يكون ملتزماً بالوزن ولا القافية، وليس هو الذي يلتزم بشرط الوزن دون القافية الذي هو شعر التفعيلة على وجه التحديد.

لقد اتخذ التسعينيون مواقف متشدِّدةً ومتأزِّمةً من الشعر الموزون على مستوييه العموديِّ والتفعيلة، ولم يكونوا ليتسامحوا من هذا الجانب مع أيِّ نصٍّ شعريٍّ ينتمي إلى هذين الشكلين الشعريين المتجذِّرين في الذائقة العربية عموماً، وفي الذائقة الشعرية العراقية على وجه الخصوص، بل إنَّ عدداً كبيراً ممن حظي بالشهرة الأدبية في الأوساط الشعرية العراقية لم يكن مطلعاً على ديوانٍ شعريٍّ موزونٍ واحدٍ، سواءٌ كان من التراث الشعريِّ القديم أو الحديث، اللهمَّ إلا بعض النماذج التي لا تسمن ولا تغني من جوعٍ مما كتبه السياب أو محمود درويش أو أدونيس، مع إعراضهم التامِّ عن تقييم الجانب الإيقاعيِّ أو الوزنيِّ عند هؤلاء أيضاً، إلا أنهم يقرأنوهم على كلِّ حالٍ، لأنَّ الموضة الشعرية السائدة في تلك الفترة لا تسمح بتجاوز هؤلاء الشعراء الثلاثة عموماً والأخيرَينِ بشكلٍ خاصٍّ، ولهذا فإنهم يقتنون مجاميعهما من دون وثاقةٍ من كونهم يتفحَّصونها قراءةً ونقداً وتأمُّلاً في طرائق الكتابة، لأنهم نرجسيون ومغرورون إلى أبعد حدٍّ في الحقيقة، بل إنَّ قصارى ما كانوا يهتمُّون بقراءته فعلاً في تلك الفترة هي النماذج الشعرية المترجمة في المجلات الثقافية العراقية مما كان ينشر في مجلات الأقلام والطليعة الأدبية وآفاق عربية والثقافة الأجنبية وما إلى ذلك من الدوريات والمجلات التي كان الوسط الأدبيُّ والثقافيُّ يتعارفها ويتداولها في تلك الفترة التي تعرَّض فيها العراق إلى أقسى حصارٍ اقتصاديٍّ في التأريخ.

 

هذا عن مصادر التحصيل الثقافيِّ والشعريِّ بالنسبة للتسعينيين، أما عن تعاملهم مع النتاج الشعريِّ الجادِّ مما يقع في دائرة ما كان يكتب من الشعر الموزون، فلقد كان مخزياً بالفعل، وكان سبباً أيضاً في تراجع العديد من المواهب الشعرية الصادقة وتخليها عن مشروع كتابة الشعر إلى الأبد، أو هجرانها لما أبدعت فيه من كتابة القصائد الموزونة التي تتسم بكلِّ اشتراطات الحداثة الشعرية المعاصرة، لتقتصر على كتابة قصيدة النثر، وهم إما أن يكونوا غير مؤهَّلين لكتابة هذا النمط من الشعر أساساً، وإما أنها قد أصابت نجاحاً نسبياً في مضماره، إلا أنها خسرت جانباً آخر من النجاح لم يكن من اللازم التضحية به، وهو قدرة هذه القطاع من الشعراء الشباب على الإبداع الهائل في مجال الشعر الموزون.

لقد أوجدوا حساً عاماً في الوسط الشبابيِّ الشعريِّ على مستوى النفور من كلِّ طرائق الكتابة الشعرية الموزونة، فكانت جريمتهم على هذا الصعيد لا تغتفر بالفعل، ثمَّ لم يبدعوا طرائق شعريةً خليقةً بالتقييم والإعتبار بأنفسهم، فكانت إساءتهم للشعر العراقيِّ من الجهتين كلتيهما وليس من جهةٍ واحدةٍ بطبيعة الحال.

الفراغ المضمونيُّ في قصائد التسعينيين بحُجَّة التأثُّر بالمدرسة السريالية.

الأخوة التسعينيون كلُّهم تقريباً، مجمعون على تقدير المدرسة السريالية، ويزعمون أنهم منظِّروها وفلاسفتها وشعراؤها الكبار في المجال العربيّ، حتى أنَّ أحدهم ليتطاول عليك أثناء النقاش لو أنك ناقشته فشكَّكت في قيمة بعض الآراء مما يشكِّل المنظومة المفاهيمية الفلسفية والنقدية للمدرسة السريالية في الفنِّ والشعر والقصَّة والرواية، فلا يسمح بأن يُعتدى على تنظيرات السرياليين من قبل أيٍّ شخصٍ كان، مهما كان ذا قدمٍ راسخٍ في هضم النظريات والمدارس الأدبية والفلسفية، ومهما كان ذا تجريبٍ معتدٍّ به في مجال الكتابة الإبداعية في الحقول الأدبية المختلفة، بل إنَّ آية أن يكون الأديب أديباً حداثياً هو أن يبصم بعشرة أصابع يديه، وبالعشرة الأخرى من أصابع قدميه على وثيقة تمجيد السريالية، وإلا عُدَّ مارقاً وكافراً فيُطرد من حريم الأدب الحديث عامَّةً، ولم يُسمح له ولو لحظةً واحدةً بالبقاء.

إنهم يتندَّرون ويضحكون كلَّما سمعوا قصيدةً لا تجنح نحو الإبهام المتعمَّد، أو أنها تنصب في داخلها بعض أعمدة الإضاءة التي تساعد المتلقِّي على تأويل النصّ، حتى انني مرَّةً لجأتُ إلى السخرية المقابلة لهم، فوضعتُ نارجيلتي في المقهى، وأخذتُ قلماً وورقةً وأعطيتهما للأخ الناقد علي حسين يوسف في كربلاء، وقلت له: اكتب عني هذه العبارات المجانية التي لا تنبعث من تجربةٍ انفعاليةٍ أو شعوريةٍ أو حتى عقليةٍ في الأعماق، وبالفعل أخذ يسطِّر تلك العبارات الغرائبية التي لا يربط بينها رابطٌ، ولا يجمع بينها جامعٌ من منطقٍ أو عقلٍ أو عاطفةٍ أو أيِّ شيءٍ ذي دلالةٍ مجازيةٍ أو حقيقيةٍ على الإطلاق، ثمَّ أتينا بها إلى المرحوم الشاعر أحمد آدم، وكان ينحو في شعره هذا المنحى، وقلنا له: إنَّ هذه القصيدة هي لشاعرٍ عظيمٍ يدعى كليفيان تورا وهو من الشعراء السرياليين الكبار في فرنسا، ولم يكن لهذا الإسم من صاحبٍ في هذا الوجود العريض طبعاً، فأخذها وقرأها باهتمامٍ كبيرٍ، متأملاً مستبطناً متفحِّصاً لمواطن الإعجاز فيها، ثمَّ طلب منا أن نسمح له باستنساخها، وأخذ يطري عليها إطراءً لم أسمعه منه بحقِّ قصائد المتنبي أو شكسبير أو حتى أدونيس الذي كان يعدُّ نفسه من كبار الذائبين الهائمين بطريقته في الكتابة الشعرية، من دون أن يبلغ معشار ذرَّةٍ من موهبة هذا الأخير بالطبع، فيا لله ولسريالية التسعينيين، كم أنتجت لنا من هزالٍ شعريٍّ أنفقت عليه حكومة الطاغية الملايين مما كان الناس في أشدِّ الحاجة إليه في قوتهم آنذاك.

ثمَّ كرَّرنا التجربة مع ثانٍ وثالثٍ من هؤلاء التسعينيين العباقرة، فكانت عمليات التجريب المتكرِّرة تسفر عن النتائج ذاتها في كلِّ مرَّةٍ، فتأكَّد لي بما لا يقبل الردَّ أنَّ هؤلاء إنما هم متظاهرون مقلِّدون، وليسوا أصلاء فضلاً عن أن يكونوا من ذوي الإجتهاد وإبداء الرأي في التعامل مع الموروث السرياليِّ في مجال الفنِّ والأدب، وعرفتُ أنَّ نقّادهم المعجبين بهم آنذاك من أمثال عباس عبد جاسم ما هم إلا جوقٌ من الدرّاخين للكليشهات النقدية الجاهزة التي يصدِّرون بها أيَّ مقالٍ نقديٍّ في الصحف والمجلات الأدبية، حتى إذا ما أرادوا الإبحار في أيِّ نصٍّ، وهم لا يفعلون ذلك إلا نادراً، فإنهم يعجزون عن استخراج أيَّة درَّةٍ كامنةٍ فيه ممّا ادَّعوا وجوده فيها أوَّل الأمر، فيعودون إلى تكرار ما قيل في صدر المقال بشكلٍ عامّ، وهكذا لا تجد لهم من الإبداع النقديِّ إلا نصف الصفحة تلك التي يكرِّرونها بأشكالٍ وصياغاتٍ متشابهةٍ في كلِّ مناسبات المقاربة النقدية لأيِّ نصٍّ على الإطلاق، وتكون النتيجة بالنسبة للقارئ المسكين أنه أنفق جهده، وبذل وقته، فيما لم يجنِ منه أيَّة فائدةٍ نقديةٍ أو شعريةٍ على الإطلاق.

في المناسباتٍ القادمة سأتمكَّن إن شاء الله من جمع بعض العيِّنات من المجاميع التسعينية التي طبعتها وزارة الثقافة في ذلك العهد باسم (ثقافةٌ ضدَّ الحصار) لأبرهن عملياً على تفاهة ذلك الشعر الذي زعموا لنا أنه جسَّد السريالية في أحسن صورها في العراق، وليكون كلامنا مدعَّماً بالشواهد والأدلَّة من خلال التطبيق على النصوص بشكلٍ مباشر.

إنَّ تلك النصوص الشعرية خاليةٌ من المضمون الجماليِّ أو الشعريِّ أو الفلسفيّ، ولا يستغربنَّ أحدٌ من أنني أحشر المضمون الفلسفيَّ في سياق التقييم من زاوية الفنِّ والجمال الشعريِّ لتلك النصوص، فلا يمكن لأحدٍ أن يعتبر واحداً من أكبر منظِّري علم الإستيطيقا وفلسفة الجمال في القرن العشرين، وهو الفيلسوف الألمانيُّ الشهير هايدغر، رجلاً خارج دائرة الإختصاص، إذ يتحدَّث عن الشعر العظيم بوصفه ما يمكن أن يقرأ قراءةً فلسفيةً، وهكذا جاءت العديد من قصائد النثر الناجحة في العالم حاملةً لهذا الوصف، ومنها غالبية شعر ريلكة الألمانيّ، وأشعار رامبو، وبودلير، وإيمي سيزير، ونيتشه، ولوتريامون، وأدونيس إلخ، مما لا يقع تحت طائلة الحصر طبعاً.

 

الوعي الزائف لمفهوم القطيعة الشعرية في وعي التسعينيين   

لم يكن التسعينيون خليقين بإيجاد نوعٍ من الفهم الصحيح لمعنى القطيعة التي ينبغي أن تمارسها القصيدة العربية الحديثة مع الشعر العربيِّ الكلاسيكيِّ الموروث، فتراهم يلهجون ليلاً ونهاراً، ويكرِّرون بلا سأمٍ مقولة القطيعة مع الشعر القديم، من دون أن يدركوا تلك الحقيقة البسيطة التي مفادها أنَّ الشعر العظيم المؤهَّل لممارسة الحقِّ بإحداث القطيعة هو الشعر الذي يوجد نوعاً من التواصل مع النقاط المضيئة في الشعر الموروث، ويركِّز عليها إلى درجة أن يحدِث معها حلفاً أبدياً على مواصلة المسيرة الإبداعية على ضوء التركيز الذي يجب أن تحظى بها النقاط المضيئة تلك، لكنَّ التسعينيين، وهم الذين لا يطيقون أن ينفقوا يوماً واحداً في مواصلة القراءة داخل أيِّ ديوانٍ من التراث حتى لو كان ديوان المتنبي أو ديوان أبي تمّامٍ أو ديوان أبي نؤاسٍ أو ديوان ابن الروميّ أو ديوان أيِّ أحدٍ آخر من الشعراء الذين شهد لهم الزمان بالتفوُّق عليه، فكانوا بحقٍّ هم المنبع الأبديُّ الثرُّ لأية حداثةٍ يمكن أن توجد في المستقبل، ولا يعني ذلك بالطبع أن يدرج الشاعر على خطاهم بشكلٍ حرفيٍّ على الإطلاق، إذ لا ملازمة من أيِّ نوعٍ  بين القضيَّتين، بل كلُّ ما يعنيه هذا الأمر هو ضرورة أن يختزن الشاعر في وعيه ولاوعيه على السواء كلَّ تجارب أسلافه من الشعراء على حدِّ تعبير إيليوت، فإذا ما فعل ذلك جاءت نصوصه بهيآتها التي تُحيل إلى تجارب أولئك الذين لم يبرحوا الذاكرة الشعرية العربية يوماً منذ وُجدت في التأريخ إلى الآن،من دون أن تكون نصوصاً استنساخيةً تُعيد وتصقل دون جدوى في تكرار المعاني وطرائق الكتابة على مستوى الإيقاع أو على مستوى تقنية النصِّ أو على مستوى اللغة أيضاً، لكنَّ أرواح أولئك ترفرف في فضاءات النصوص الحديثة مع ذلك، كما تجسَّد ذلك بالفعل في نصوص أدونيس وغيره من شعراء النصِّ النثريِّ في الزمن الشعريِّ الحديث.

كم مرَّةٍ كنت أتهم نفسي فيها بالسطحية في فهم النصوص، إذ كنت أقرأ تجارب هؤلاء في التسعينات، حتى اختبرت لعبتهم النصية، فإذا هي في قمَّة السذاجة والسطحية والإبتعاد عن منطقة التأثير الشعريِّ في الواقع، لأنني إذ عجزت هذه النصوص عن أن تثير في نفسي أية أسئلةٍ نظريةٍ أو رؤيويةٍ أو وجوديةٍ على مستوى السؤال عن معنى الحياة والموت والإنسان والإله والحضور والغياب إلخ والموقف من كلِّ ذلك بمقارباتٍ شعريةٍ تستغلُّ كلَّ تقنيات الشعر في إنتاج هذه الرؤية الحداثية لكلِّ هذه المعاني والمقتربات، تقدَّمت إلى كلِّ شاعرٍ على حدةٍ ممن قرأت تجاربهم من الشعراء الشباب في تلك الفترة التسعينية البائسة، فطلبت منه أن يتكلَّم على نحوٍ نقديٍّ أو سرديٍّ أو تأويليٍّ للنصوص التي تضمَّنها ديوانه، فإذا بأغلبهم عاجزون عن خوض هذه المغامرة ولو بأبسط الكلمات وأدناها تعبيراً عن وجود التجربة الشعرية الخليقة بأن تعبِّر عن نفسها بكلِّ تلك المستويات العبثية من الإلغاز والإبهام، إذ إني أقدِّر الإبهام، أو قل إني أقدِّر الغموض كثيراً حين تستدعيه التجربة الشعرية أو الوجودية الضخمة كما هو متجسِّدٌ بالفعل في الغالبية من نصوصي كما هو واضحٌ لمن يتابعها بالقراءة، ولكني لا أقدِّر الإبهام عندما يكون ناتجاً عن السيل العبثيِّ للصور المجانية التي ترسمها اللغة، بحجَّة أنَّ النظرية الأدبية الحديثة في التلقي والشؤون المتعلِّقة به تُحيل على القارئ مسؤولية إنتاج المعنى من تلك النصوص الميِّتة والعبارات المرصوفة بشكلٍ مجانيٍّ أو عبثيٍّ يثير المقت والإشمئزاز.

إنَّ الشعر العظيم هو الشعر الذي يثير فينا الكثير من الأسئلة النظرية والرؤيوية بما تصدمنا به عباراته وصياغاته الخارجة على القوانين المألوفة للغة، ولكنها توجد لنفسها الشرعية الكاملة الأقوى عن طريق ما تحمله من الدلالة الفلسفية أو الرؤيوية العميقة إلى كلِّ ما اعتبره العقل الإنسانيُّ مسألةً قطعيةً ونهائيةً من قبل، من حيث القناعة والرسوخ في الوعي الإنسانيِّ المسكين الذي تعرَّض بحكم مختلف العوامل والظروف للإحباط والصدأ.

ومن الطبيعيِّ أن نعتقد أنَّ الشعر التسعينيَّ في أغلب نماذجه التي اعتُبرت ناجحةً ورياديةً قد فشلت في تحقيق هذا المسعى، فكانت خليقةً بالفعل بأن تُحشر إلى الأبد في زاوية النسيان.

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1252 الخميس 10/12/2009)

 

في المثقف اليوم