قضايا وآراء

العمارة الهجينة في الخليج العربي والأزمة العالمية

ومثلما عكست ذلك الحضارات البشرية الأولى في وادي الرافدين ووادي النيل والحضارة اليونانية والرومانية حتى تلتها العصور المختلفة، وصلنا إلى حاضرنا صاحب التقنيات المتطورة، التي أدت إلى ظهور ناطحات السحاب بشكلٍ غير مُتصوّر من قبل.

ومع ظهور أي حضارة جديدة كانت تظهر دائماً احتياجات جديدة لم تكن معروفة من قبل، فكان على المعماري أن يُحاول ويُفكّر ليستكشف الحلول، وعليه أن يبحث ويُطوّر من أجل الوصول إلى حلول مقبولة ومتمشية مع الإمكانيات التكنولوجية المتاحة. ولو ألقينا الضوء على العمارة في الغرب نجد أنها خضعت إلى كلِّ الوسائل التقنية المتقدمة. حيث ساعدت على فتح العقل المعماري بعد ذلك على آفاق عريضة من الأفكار والابتكارات تحت مسميات عديدة ومتعددة تصدر هذه العينات إلى الوطن العربي من حين إلى آخر جامعةً معها كل مقومات الإبهار والإظهار حتى أصبح كل شيءٍ جائز في عالم العمارة.

والمعماري العربي في كل هذه التطورات يقف منذهلاً متفرجاً أو ناقلاً لكل الإفرازات الحضارية والمعمارية في الغرب كما يقف عاجزاً عن المساهمة في خوض المجالات الفكرية النابعة من خصوصيته الحضارية. فالمعماري العربي ليس لديه من المراجع إلا ما يُقدّمه له الفكر الغربي وليس عنده من التقنية إلا ما تُنتجه المصانع الغربية. إن دلَّ ذلك على شيءٍ فإنما يدلّ على التخلّف الحضاري الذي أصاب هذه الأمة بعد أن كانت مُصدرة للعمارة والفنون والعلوم إلى أرجاء العالم.

وأصبح كلَّ ما نراه في مدننا العربية من عمارة ما هو إلا تعبيرٌ عن عمارة السوق أو بمعنى آخر عمارة الشارع. إن عمارة السوق هي الواقع الذي يُمثّل النسبة العظمى لما يُقام ويُنشأ من معمار وهي في الواقع وبالأغلبية الممثل الوحيد لعمارة المجتمع بما فيه من تناقضات وتباينات إلى حد أن أصبحت فيه عمارة العشوائيات تجسيد واقعي.

إذا نظرنا إلى التخطيط المستورد من الغرب فإننا نجد أنّه يُراعى التجانس الاجتماعي والاقتصادي لمجتمعاته والصورة تختلف في الدول العربية، حيث التباين بين الطبقات. ولذلك فإنَّ كلّ من النظرية المعمارية والتخطيطية لابد أن تنبع من منطلق المنظور المحلي الذي يُحدّد العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع المتكامل والمتعاون.

إنَّ العمارة العربية غرقت بطوفان من القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكان واضحاً ذلك في سلوكيات الإنسان العربي وعمارته، وفي خضم هذا السيل من القيم الغربية وفي إطار هذا التحوّل الثقافي الذي بدأت بوادره تظهر في مسخ اللغة العربية وأنكلزتها. هكذا ينخر الطوفان الغربي في عصب الحضارة العربية الإسلامية حتى يقضي عليها إلى الأبد. وعلى سبيل المثال الجملة العربية كادت تفقد قوامها ونسمع نصفها باللغة العربية ونصفها الآخر باللغة الإنكليزية وتكتب أيضاً بنفس الصورة، فالمخطط لا يستطيع أن يكتب تعبير استعمال الأراضي مثلاً إلا إذا كتب أمامه Landuse (لانديوس)، وكأنَّ التعبير العربي لا يؤدي الغرض منه. وكان واضحاً ذلك على العمارة حيث تكتب بالأفكار العربية وتترجم في الطبيعة بالمفردات والألوان والتشطيبات الأوروبية، فالحوائط تكسى بالسيراميك. وتغطّى الواجهات بالزجاج وكأنها صورة من عمارة مبنى الأوبرا الجديدة في فرنسا.

ومما زاد في الطين بلّة، هو ظهور الحرب الاجتماعية المعولمة وضغط الأوساط الاقتصادية العالمية لاجتياح فضاءات اجتماعية جديدة وإخضاعها للسوق، ومنها منطقة الخليج العربي ذات المخزون النفطي الكبير، وإن خروج النُخب الاقتصادية الكونية من إقليمها، يعني وجود إقليمية جديدة على بقية سكان الأرض.. وهذه بالحقيقة هوّة عميقة أدت إلى كوارث اجتماعية واقتصادية، وثقافية وغيرها.

وحتى في البلدان الأوروبية ذات الأسس الاجتماعية الراسخة ظهرت مشاكل نوعية، مقترنة ولا شك بالدفاع عن أوضاعها الاجتماعية وإن ظهرت مُقنّعة بقناع قضايا الهوية. وهكذا كان البحث عن الهوية الذي يُعبّر عن رفض عميق لما يُسميّه السوسيولوجي روبر كاستل Robert castel بعدم الانتماء الاجتماعي. وأنَّ العودة إلى الأثنيات وإلى الميكروفاشية من الأنواع الجديدة كالجبهة الوطنية في فرنسا وصعود المتطرّفين في الدول الفقيرة، كلّ هذا مُرتبط بهذه التحوّلات البنيوية في المجتمعات.

وفي أغنى بقعة من الوطن العربي "الخليج العربي" كان هناك هجوماً عنيفاً للشركات الهندسية، ذات المشاريع المعمارية والعمرانية العملاقة.. وصارت عمارة السوق في هذه المنطقة تشغل جزءاً كبيراً من الاهتمام على جميع المستويات خاصةً وهي تشغل الحيز الأكبر لما يُبنى على أرض الواقع من المناطق العمرانية، حيث أن رأس المال يبقى المُوجّه للعمارة هو صاحب الرأي الأول والأخير فيما يُبدعه المعماريون من أنماط جديدة وأشكال فريدة في عالم العمران. حيث يُصمّم المعماريون نماذج بأنماط مُختلفة منها الغربي الكلاسيكي ومنها الأوروبي الجديد منها النمط الشرقي ومنها من لا هوية له كبضاعة تطرحها الشركات التجارية في السوق كأي سلعة لها زبونها الخاص. وهنا يُشارك المعماريون مع أصحاب الشركات العقارية بتثبيت عمارة السوق، فلا حديث هنا عن القيم التراثية أو الثقافية أو البيئية، ولكنَّ الحديث لرأس المال الذي تتلاشى أمامه أي قيم ثقافية أو حضارية. إنها عمارة الدولار التي تشبه مكان ساحة سيرك يلعب فيه الجميع دون نظام أو تنظيم ومن غير هوية أو جنسية.

   هكذا ظهرت عمارة هجينة، لا تمت بأي صلة باجتماعية الإنسان في الخليج العربي.. وبظروف معيشته وحاجته الفعلية لمثل هذه المشاريع، والأنكى من ذلك كان بعض المعماريين ناهيك عن الناس العاديين، ينظرون وبسذاجة بالغة إلى هذه المباني. وكأنها جنّة الله على أرضه.. مبهورين بما يحدث غير ناظرين إلى المستقبل ولا إلى تداعيات اجتماعية ونفسية واقتصادية قادمة.

وهكذا حلّت الكارثة، مع أول بوادر الأزمة الاقتصادية العالمية، وانهيار اقتصاد السوق، وهروب أكثر المتعاملين مع هذه الأوساط.. تاركين في أول أيام الأزمة أكثر من 5000 سيارة عند مواقف سيارات المطار في دبي.. أغلقت هذه المشاريع الاستثمارية أبوابها وتوقفت منها التي كانت في مرحلة الإنشاء.

ومن هذه التجربة أقول لقد حان الوقت للمعماري في الوطن العربي، ليتعامل مع ظروف مجتمعه ويدرس أفراد المجتمع بكل مستوياتهم ليكون قريباً بذلك أكثر إلى الواقع وتصبح أعماله مُعبّرة عن وجدان الشعب وقدراته الذاتية، وذلك بوضع النماذج المعمارية التي تحقق الشخصية العمرانية للمكان. لقد حان الوقت ليكون الفكر المعماري متكاملاً مع الفكر الأدبي والفني والعلمي. لقد حان الوقت لأن يكون العمل المعماري ناتج عن الموهبة المختلطة بالتفاعل الاجتماعي والعمل الجماعي، حيث يُصبح رأي الشعب عاملاً أساسياً في توجيه الفكر المعماري باعتبار أن العمارة هي منتج اجتماعي قبل أن تكون منتج فردي.

لقد حان الوقت لأن يراجع المعماري موقفه من الحركة المعمارية العالمية ويخرج من تبعيته الفكرية إلى بناء مقوماته الذاتية والبحث وبعمق في العمارة والعمران، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة مع التراث لتقييم ما فات والعمل لما هو آتٍ لبناء عمارة الإنسان.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1067  الاربعاء 03/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم