قضايا وآراء

العينات الأدبية من الأبله ألى مابعد الامنتمي في جدلية النهادات*

أو بموقف الكائن ضمن نطاق المدينة المفتوحة على كل العواصف والاتجاهات (أثينا الديمقراطية)، وكذلك حيال الممارسات الإبداعية التي كانت سائدة في حيينها (العلم، الفن، السياسة الداخلية، والخطاب الحبي)، فإنها، بالرغم من ذلك، لم تدع ولم تطرح نفسها يوما كونها هي بالذات قادرة على تملك حدس والهام المبدع ولا إنتاج ما يضارع رؤيته إزاء العواطف والانفعالات التي تتنازع الذات الإنسانية. لقد حدد أفلاطون مجال النشاط الفلسفي عبر حركة نوعية، أو خطاب مفارق لباقي الخطابات الأخرى، يرتكز في المقام الأول على حب وتعلق الفيلسوف بكل ما ينتجه العصر الذي يعيش فيه من حقائق، أو ما تقدمه تلك الميادين من كشف جديد،..)"1"من الجميل الانطلاق من هذه الفقرة الراقية بكل ما للكلمة من معنى ببطء واطمئنان. لرسم ملامح هذا المقال استنادا على معطياتها مثل :لم تطرح نفسها يوماً كونها بالذات تمتلك حدس، وإلهام المبدع، ولا إنتاج ما يضارع رؤيته ..، وحددت المجال الفلسفي ...كونه يرتكز في المقام الأول، على حب وتعلق الفيلسوف -  ويمكننا هنا إضافة الأديب والفنان-، بكل ما ينتجه عصره من حقائق وما تقدمه تلك الميادين من كشف جديد. ففي الجملة الأولى يطرح التعصب، والنظرة الضيقة التي تدعي دوماً كونها الأكمل، والأفضل، والمتسيدة على زمام الأمور جانبا، إلى سلة مهملات الفكر. والجملة الثانية حددت مجال النشاط الفلسفي، وارتكازه في الأصل، على حب وتعلق الفيلسوف- وأضفنا الأديب، والفنان- على حقائق المنتجات العصرية. ولننفتح من هاتين الجملتين المكثفتين، إلى عمق جدلية(البداية/ النهاية) موضوعة المقال ومسرح فصوله. لنرى ما قدمه أحد الأدباء لما أنتجه عصره من كشف جديد. ولكي ِ لا نذهب بعيدا، سنختار كأنموذج قراءة: (خضير ميري)"2" لبعض وجوه هذه الجدلية. والتي استهلها بفقرة - دريديه-، لها مغزاها الكبير على مجمل القـــــــــــــــراءة:(إنها فريدة في كل مرة نهاية العالم). إذ يختزل (جاك دريدا) هنا، كل النهايات، والبدايات، عبر ثيمة التفكك الكلاسيكي للتشكيل الحداثوي. ودريدا- حسب (ميري)- مستغرق بمفهوم (الهدم) الذي غيره شخصيا إلى مصطلح (التفكك)، حسب صياغته الحديثة. ويشير (ميري) إلى بعض المشاهد من جدلية (النهادات)، فيبتدأ تعداد الجدلية تصاعديا من (موت الله)، (موت الإنسان)، (موت المؤلف). ويختم الميتات بالميتة التي يؤسس عليها دراسته ،(موت الفلسفة). بفكر ما بعد فلسفي، ليختزل مكثفاً وصف هذه الميتات بكونها:(الميتات الناضجة التي حولت نهايات القرن العشرين إلى نهايات معرفية كبرى، ومراجعات سلبية، وانتحارات تصورية. أسفرت إلى رفع الحد الفاصل بين (المعرفة)، و(الوهم)، و(الحقيقة)، و(التمثل)، وامتزاج (العيني) ب(لإشهاري). كما هو حاصل في التداعيات الأخيرة لفكر(ما بعد الحداثة)..

 

ويثير إزاء (الميتة الفلسفية) ثيمة دراسته، أسئلة مهمة وذكية عبر محاولة فحص، وتتبع الأنساق المعرفية الكبرى، في اللعبة الفلسفية التي أفضت لهذه الميتة. التي نجدها- كما يقول- في كامل نضوجها لدى (جيل دولوز)، و(مشيل فوكو)، الذي دق المسمارالاخير في نعشها. يبدأ بعدها طارحا تساؤلاته التي يحاول الإجابة عليها من جزء دراسته الأول. الذي أتمنى إكماله سريعا من جهة، وان يوفق ميري - لما هو أهل- للإجابة عن كل تلك الأسئلة المكثفة من جهة أخرى. وبما أن هذا المقال ليس معنيا بالميتات - النهايات- التي أشار أليها وتناول إحداها( ميري). سيسعى إذاً لدخول عوالم الميتات، والحيوات، من مشاهد نهائية / بدائية غير تلك التي ذكرت في القراءة (الميرية). وثيمة الميتة هنا تتعلق بنهاية البطل الاجتماعي الذي شخصته الروايات الأدبية المشهورة، والمغمورة، منذ زمن طويل. وقد اختزلت هذه الأدبيات كل أفكار، وإرهاصات، ونوازع البطل الاجتماعي - المعصرن-. في عينات واضحة المعالم، معلومة الأسماء، والدلالات. ففي تراثنا العربي الأصيل نجد صورة البخيل/البخلاء عند الجاحظ، ونعثر على بعض الظلال في تلك العينات التي عرفت بأدب(الشاطر والعيار) رجوعا لعينة (علي بابا) الذي تحول لاحقا الى(روبن هود) بالقصص الأسطوري العالمي. ألا أن هذه النصوص الكلاسيكية رصدت عينات ظاهرة - نوعا ما- وان كانت نادرة وفريدة فهي اقرب للبعد (الفيزيقي) تشخيصا، ويكاد البعد (السيكولوجي) - ونستطيع أن نسميه هنا بالبعد النفسي الميتافيزيقي- أن يكون مهملا بالكامل. ولم يتشكل هذا البعد ألا عند تتاخم البعد السابق الى الذروة، معلنا نهايته بنصب خيمة عزاءه ليموت مرتاحا. وبعد الدفن أبتدأ البعد (السيكولوجي) يحيا متباطئا أدبيا عبر نتاج وتشخيص الروائيين تحديدا.ً وتطل البداية- كما يبدو- مع الأديب ذا الثقل الخاص في الأدب على الصعيد العالمي، وكانت منجزاته الروائية ولاتزال، مورد اهتمام وعناية كونها كتبت بمخيلة مذهلة. إضافة لتشخيصها العميق والدقيق لبواطن وخفايا النفس البشرية. وقد ترك لنا هذا الأديب عينات مهمة سجلت أول ملامح الحياة الطفولية بعد ميتة الملامح الكلاسيكية الشائخة. فالوالد الشرعي لهذه الطفولة (فيدوردستويفسكي)انتج (المقامر)، و(المراهق)، على المستوى الفردي، و(الاخوة كارامازوف) على المستوى الجمعي. ويأخذ على هذه العينات رغم تفردها، ونضجها عما سبقها، بأنها أيضا تقترب من ضفاف (المشاعات)، و(المشتهرات). فمقامر (فيدور)  كان يمتلك صفات فريدة إذ انخرط في إدمان القمار دون استراحة كي يطحن بين جناحي الربح، والخسارة، قمح الإخفاق والعذاب الحبي. فوجد الخلاص من الغثيان، والتطوح الذهني، بالدخول في نفق الانتحار المفاهيمي. حيث لا فرق بين السالب، والموجب، والمفيد، والضار. فلإنسان وجود بلا معنى، ليقوده طرف النفق الآخر الي هاوية الضياع. وكذلك الأمر مع مراهقه، فالعينتين ومع كل المميزات يقتربان من العمومية.  وأول محاولة (دستويفيكية)، تبتعد عن هذه الظاهرية النسبية، وتقترب من حدود المستتر، والخفي، تبلورت  من عينة(الأبله) التي تكاد تملك الخيوط الأولى للبطل الاجتماعي الحديث. الذي فتح الباب للشخصيات التي تلته، وقد جاءت اكثر دقة واستتارا للبطل الفردي الذي انتفت معه الحاجة الى ذكر مثاله الاجتماعي. فليس من حاجة لذكر(مراهق) كمثال فردي، و(الاخوة..) كمثال جمعي. لان العينة الجديدة تختزل، وتمتص، كل إرهاصات المجتمع ونوازعه في البطل الفردي. الذي يمثل تلك الصورة المتفرقة، والمشتتة، خير تمثيل في زمن ومكان وذات واحد. وكان ظهور هذا البطل قد تشكل بما يقترب من نهايته - كما يبدو- مع (الامنتمي)، وما بعده، وصولا( للحالم)، عبر العينات التي شخصهــــــــــــــا (كولن ولسون). ومع هذه العينات (الولسونية) كانت النهاية المميتة للتي سبقتها، لتظل في قبر نهايتها مرتدة الى عمق الهاوية حتى زمن الميتة (الفوكاياميه)، التي أعلنت نهاية التاريخ، والتي أشعل شمعة ميلاد بدايتها السريعة زناد القدحة (الصومائيلية). مضيئة حياة الصراع الحضاري عبر بداية جديدة، وشكل مختلف، عن ماضي الحلقات المائتة في مقبرة الحياة والتاريخ.

 

ومن تلك الميتة التي انتهت عند(الحالم)، تنبثق الحياة لعينتي والتي ابتدأت في(المتأكهذ..). وباستقراء الواقع الذي انبثقت منه أول عينة فريدة (لامنتمية)، تتمظهر الظروف، والجدليات، والإشكاليات الحضارية. التي بدأت من حيينها تتجه نحو مسالك رهيبة، ومخيفة، تتباين تماما عن عصر إنتاج العينات الكلاسيكية. من خلا ل ما طرأ على الواقع من تغيرات فكرية، وعلمية، واجتماعية هائلة. طحنت الأفراد في قرصي رحاها، فتناثر دقيق الأحداث مختلفا، ومتنوعا. منتجا العينات التي نظر لها ولسون، وسبقتها بتشخيص اقل دقة، عينات أخرى أنتجت (غريب- كامو-) و( وحش بشري - زولا-) وغيرها. وقد مر زمن طويل من عصر العينة الأخيرة  (الحالم)، إلى عصرنا هذا. الذي شهد تغيرات هائلة، ومتسارعة على كل الأصعدة.  احتفظت ببعض العينات الكلاسيكية، وأفرزت فوقها عينات اشد تعقيدا، واكثر غموضا. يكاد المجتمع لايشعر بها، وان شعر فهو يسحق وعيها العالي، وحساسيتها المفرطة. وهذا التعامل المجتمعي المفرط السلبية، يولد للعينات نوعا من الغربة، التي فاقت كل التنظيرات (الغربوية ) السابقة. لذلك أطلقت عليها: (الغربهددية) ليكتمل عنوان عينتي السابق، فيصبح (المتأكهذ والغربهددية الجديدة). والمقصود بالمتأكهذ باختصار، هو الذي صار هكذا. وقد شرحت الحالة الاجتماعية السلوكية، والنفسية، التي أدت لانبثاقه في رحم حضارتنا المنتفخة،  في مسودتي - ذات العنوان السابق-، التي أعدت صياغتها بعد أن فقدت النسخة المنجزة تقريبا. ولابد لي هنا من ذكر تعريف موجز جدا لهذه العينة: أنها ضحية المجتمع، ليس بالشكل الكلاسيكي الشائع للإفراد الذين لا يحضون برعاية، وتوجيه، فينحرفون نحو الأجرام، والشر، بكل أشكاله. بل أن الضحية هنا مختلفة تماما. ف(المتأكهذ)،  شخصية قوية، وذكي بشكل حاد، ويتمتع بقوة تحليلية، وتفسيرية عالية. تستشرف الإشكاليات، والتصارعات، والمتناقضات الوجودية. وهو يتمتع بقوة حافظة عجيبة، وحساسية مرهفة، ومزاج متقلب بشكل ملفت وغريب. هذه هي بعض الشروط لجعل الفرد داخل في العينة أم لا.  وكان من المقرر أن يكون (المتأكهذ)، عبقري يغير وجه التاريخ في مجال من المجالات. ألا انه ونتيجة الإهمال، والتهميش، الذي دفع به في عمق (الغربهددية)، - نوع من أنواع الاغتراب الكثيف ولامجال لشرح الاصطلاح هنا-، يصاب بصدمة حادة تعطب اكثر خلايا منظومته النفسية، والفكرية، والسلوكية، لكن قوته العقلية تطفو رغم ذلك. من خلال كلماته، وأفكاره التي تدفعنا نحن المجتمع ألا الارتياب فيه. فهو يبد ولنا حين انغماسه (بتاكهذيته)، كالمجنون. وحينما نسمع كلامة العميق، ودقة أفكاره نقول بلسان واحد:(يبدوا انه ذكي جدا فلماذا صار هكذا؟ ). هذه هي عينتي التي وددت الإشارة أليها كونها تمثل- كما اعتقد- بداية جديدة للنهايات العينية السابقة، و تعيد أحياء ثيمة التشخيص الأدبي الاجتماعي. عبر رصد عينات تنتج من محيط التغيرات الحضارية المتسارعة. أرجو أن أكون قد اقتربت من بنية التشخيص بشكل ما. واكتفي بهذا الإيجاز المختصر لعينتي. لان الإفاضة في وصفها خارج نطاق المقال، وكل ما كشفت بعدا جديدا منها يتغمض بعدا آخر، ولا أستطيع بالتالي تغطية الموضوع. ويبقى الكشف الكامل لمجمل خفايا العينة موكولا للمسودة فيما لو رأت النور، وحالفها التوفيق. والخلاصة من تتبع أنماط، وأشكال اجتماعية مختلفة، لعينتي تبدى لي أن إهمال أمر( المتاكهذ)، يجر الى خسائر فادحة. إذ يخسر المجتمع بإهماله عقلية متقدة، وذاكرة مركزة، وحساسية عالية، لو هيأت لها الرعاية المناسبة لأبدعت وابتكرت مايغير مساوئ واقعنا من بعض الوجوه. مما قد يقفز بالمعرفة البشرية قفزات نوعية بزمن محدود لا يتسنى لها في الظروف العادية بعشرات السنين. ومن جهة أخرى أشرت في مسودة العينة، إلى أن بعض حالات (التاكهذ)، تصل الى مرحلة خطيرة تتخاطر كلما أصر المجتمع على تماديه في الإهمال والتهميش. وفي النهاية بودي الإشارة الى نهاية-موت- يبدوا بأنها استثناء من لعبة النهاية والبداية. اعني نهاية الخيال الذي سارعت بها الأعمال السينمائية، ذات الطابع الخيالي المكثف والتي وضعت المخيال البشري في موقف لا يحسد عليه، عبر حرقها واستنزافها آلاف الصور المخيالية الهائلة في عرض واحد، لا يتجاوز الساعتين. لتعلن حقا نهاية، وموت أبديين، لا اعتقد أن بإمكاننا النجاح في إعلان بداية وحياة لهما. فحينما تتسارع الأفكار بلا فواصل زمنية بهذه السرعة، والتكثيف، تصاب المخيلة الإنسانية بالاضمحلال. وتنضب لفقدها شهية السفر والتحليق في عوالم المجاهيل بعد أن تدرك كساد أفكارها وفقر محصولها في سوق السينما الخيالية، التي تربعت على فنارات الخيال بلا منازع. وهناك الكثير من الأمثلة التي تثبت ذالك من سيد الخواتم ألا غيره من عشرات الأفلام على شاكلته. أظن أن هذه النهاية، والموت الكارثي، جديرة بالتأمل. أرجو أن يوفق لاستيضاح أمورها، وكشف خفاياها، أحد المهتمين، فتعم الفائدة للجميع. وبهذا العرض الموجز، تتوقف مقالتي لاهثة من الخوض في اللعبة، التي ليس لها بداية، ولانهاية، عبر جدلية (البدايات والنهايات)، ولعلها أتقنت بعض شروط اللعبة.

 

وسيم بنيان

10/1/2009

 

............

الهوامش:

*تركيب من البدايات والنهايات.

"1"مقدمة حسين عجة في ترجمته لكتاب( بروست والإشارات) "لجيل دولوز" نشر دار أدب فن. وهو كتاب إذا قلت ينبغي قراءته  اكثر من مرة، ومرتين وثلاث،لا أكون قد جئت بشيء جديد. فالكتاب يحتوي على موضوعات متكاثرة في عموم الفكر، والمعرفة بأسلوب مضغوط، ومعمق. وكتاب بهذه المواصفات لابد من إعادة النظر فيه. فبالإضافة لكون إعادة قراءته لازمة لفهمه، تطفو منه في كل إعادة أبعاد جديدة، وأفكار خفية.  وكان المترجم موفقا في الترجمة- كما يبدو- ،بالإضافة إلى حسن اختياره لهذا الكتاب المهم جدا. كونه قراءة فلسفية حداثوية، لنص كتب في فترة كلاسيكية بأسلوب دولوزي. كما وان المترجم أضاف أليه جزءا أخرهو (الماكنة الأدبية)، لتعميم الفائدة وتأصيل المطالب. ولا يعني هذا قطعا بان الكتاب خال من المناقشات على بعض الأفكار التي يجب إخضاعها للموازين النقدية.

"2"في دراسته (فكر ما بعد الفلسفة )، المنشورة على موقع أدب فــــــــــن.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1068  الخميس 04/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم