قضايا وآراء

"مرافئ الجنون" للمحسن بن هنية.. فعل الآخر في الأنا

ليرصد فعل الآخر في الأنا، وفعل الماضي في الحاضر. "مرافئ الجنون" متعددة في هذه الرواية تشظى عليها جسد الراوي المنهك فكريا وحركيا، إلا أن الرغبة في النهوض تتقد كلما عزم الراوي على الثبات في عاصفة الصداع والاستفاقة من الخدر الجاثم على الحركة.

 

فكر منهك وهواجس الماضي الجاثم في اللاوعي، ينهض الراوي نافضا عنه غبار الصخور الخامدة، الحركة تتفصد بضراوة من حمم الجسد المسترخي "وأدفع جذع صدري المتداعي نحو الشقة وأغلق أبواب بصيرتي. ولا أحدق في أوراقي وقلمي "ص22. يغيب الحاضر وتحل محله صور الذاكرة  المشوشة، المبعثرة تبعثر الذات، يستحضر الراوي مكان نشأته "الريف الجميل في الوسط من خريطة تونس"، يعود إليه عبثا يحاول تنسيق صور الذاكرة، لكن حبات عقدها سرعان ما تنفرط، فهل ثمة ما يرج الحاضر عدا جمرات الأيام الخوالي. وهل ثمة ما يؤدي إلى التيه عدا معاودة الاستراحة من السفر ؟ " تتداخل شرائط عديدة تمر بذهني، أقلب البصر كثيرا فلا أعثر على خط ينتهي إلى نقطة ما " ص25.

 

ويرجع الراوي هذه الحالة إلى الزوجة حسناء، حسناء : لا تتردد صورتها إلا من خلال ارتباطها في مخيلة الراوي بكأس الشاي الذي طالما هدأه "أتريد الهدوء والراحة من السفر...؟ سآتيك بكأس شاي منعش يهدئ الأعصاب " ص25، "لم أشعر بالارتياح أبدا وأنا داخل البيت وحسناء تسقيني الشاي ولم أدر هل كان شايا أم معه حشائش أخرى حيث أصبحت الأعضاء مني ثقيلة والرغبة تدفعني للاسترخاء" ص26. حسناء بمثابة الطيف الذي غلق الباب عن إدراك العوالم الخارجية بوضوح. هي من عطلت ذهنه عن التفكير ومن ثمة نفهم عطالة فكرية للراوي يعيشها وتطبعه بالخمول، غير أنه يسترسل في بناء نسيج صورة حسناء وهي تذكره بنذر الوعدة في زاوية "سيدي خليف" وبضرورة الترحم على قبور أفراد العائلة الموتى، تتراءى صور الماضي ناصعة وتطغى الذكرى على الحاضر فيكتمل رسم المشهد، ويؤدي المعنى الذي أفصحت عنه حسناء" ومن يدري قد تلتقي بالرجل الحكيم الذي يتحدث عنه الناس هذه الأيام " ص29. فحسناء هي المرأة التي يرى فيها الراوي أوهاما لم تجتث من فكره، ولم تقتلعها فلسفة الشك فهو لا ينشد الحرية وإنما يرتد إلى هاوية الانشطار.

 

"زاوية سيدي خليف" التي دخلها الراوي تحت تاثير شاي حسناء  ككل الزوايا تتركب من "الشموع تضيء الزوايا  وتحرك ظلال الزوار على الجدران أو تنعكس على التابوت الجاثم في وسط الذاكرة " ص48، تعويذات البخور، التذرع وخشية المكان يحيل إلى جو نفسي خانق، تضيق فيه الروح، يتخمر فيه الجسد دون أن يرتفع دق البنادير وأن تنشد الأذكار ". جسد الراوي هو جسد منهك تحت تأثير الخشخاش المغلي في الشاي، تحت وطأة الطقوس والأذكار في زاوية الولي، جسد مبتور من العاطفة والراوي يبحث عن الحياة المنبعثة من أعماق القلب لتشع وتضيء دروب الحاضر المعتم، وقد جسدها من خلال هذا الترميز "في تلك الزاوية" " انطونيو هذا المجنون وقد ركب البحر حاملا غطرسته باسم روما وهي مدينة لا تنطق ولا تأمر بالجنون وتقتيل الناس إرضاء لصلف الملوك والطمع في جاه كقبح الجرائم، أنظر إليه كان يمكن أن يكون فظا غليظ القلب، أعمى البصر والبصيرة وعبدا للجنون والكبر في الأرض بغير الحق ولكن سلمت من جسده مضغة هي القلب أو ما يفهم عنكم الآن بمركز الإحساس أو الشعور الباطن الذي يختزن خزينة الحب... أنظر إلى هذه الفضيلة كيف ارتفعت كصحابة حبلى بالمطر فوق أرض أضناها القحط......".

 

الحركة التي ترج الذهن وتخمر الجسد هي الغيبوبة وسيطرة اللاوعي، كي يكشف الراوي صورا مضمرة، هي قريبة من نفسه تستكين في ذاكرته، تتوسط المسافة الفاصلة بين التفكير والحركة. تحط على مرفإ ولي صالح في مسقط رأسه لإضفاء أجواء روحية تخاتل الصفاء والنقاء وتفصح عن الاختناق. الصورة المضمرة هي "التفكير بالجسد"، عبثا يظن الإنسان أن الحضارة المعاصرة قد أجهدته، فينشد الراحة والاسترخاء قليلا. وقد حلل أوسبنسكي هذه الظاهرة إذ بين الإنسان يختار أن يتوقف حين يتسمر تفكيره، يجلس قليلا ثم ينهض من جديد، وهو يشعر بنفس جديد. فالفكر يتحصل على طاقته من مركز الحركة، لكن ذلك التزود بالطاقة يتضاءل ويتناقص إثر كل وقفة، وبذلك يفقد الإنسان السيطرة على جسمه. وعلى حركته ويبدأ في الانقطاع عن الوجود وقد نخره الصداع وقد ارتجت الأرض من حوله.

 

 

 فالجنون لم يتحدد بكشف صراعات الجنون والانهيار النفسي أو المرض العقلي.. ومرافئ الجنون تتعدى القراءة الضيقة لتركيبة لا وعي الراوي من خلال إعادته إلى مسقط رأسه وإلى سرد الوقائع التاريخية المقترنة بالذاكرة العربية وعلى رموزها. فالصورة تطل من واجهات متعددة. تقرن الجنون بالشذوذ والشذوذ بالهيمنة، إلا أن مستويات الخطاب كانت تتغير وفقا للأشخاص والأمكنة.

 

إن محاولة ترتيب المشهد أشبه بالحط على مرافئ الجنون، هذه المرافئ عبارة على رموز مكونة من الشخوص والأمكنة، أما الزمان فلا علامة تدل على أنه يتغير أو يتواصل. إنه يغيب في ردهات اللاوعي التي تبقي على الأجساد والحركة والأمكنة في ظل الأحلام الواهمة. أو في خضم تشتت الذهن الذي فقد سيطرة الوعي.الأم زينة : على موتها فهي الماضي المتجدد، خرافة تعبر عن عن تصور خيالي قد يستحيل إلى حقيقة ماثلة، عودة الروح إلى ذلك الجسد المصلوب في الذاكرة، انبعاث من رحم الصورة المحنطة. فالماضي ينهض متكاملا بأرواح الأحياء والموتى. انه يعبر عن التحول والاستمرار، التجزء والانفصام فاكتمال تمظهر الجسد المتحلل. فاطمة رفيقة الصبا وصوت الجسد الذي ما فتئ يقرع جسد الراوي، فيكتسي بالعنف والتوحش. التعبير عن الرغبة للإفلات من التقاليد، رغبة تبتر الإرادة، محاولة للانتصار على التقاليد وقع طمسها حين تزوجت بابن عمها حسن.

 

في نهاية الرواية عقب الكاتب إن ملامح شخوصه الحقيقية مقترنة بفعل حركة الماء وأنه نسج الأحداث في عالم ذهني تصوري وأسقطها على الأمكنة وطالب القارئ  بإعادة إكمال القراءة أو الرواية، إلا أن هذا النص الروائي قد صبغ العالم الخارجي بالتفكير التصوري. وقد سطعت فيه رؤى العين الشاعرة  مرارا، لتنصهر في مكونات المشاهد  الخارجية المتحركة في قالب فني ينفتح على أشكال متعددة  مثل الشعر والحكاية والسيرة الذاتية.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1266 الخميس 24/12/2009)

 

في المثقف اليوم