قضايا وآراء

رواية "أحلام كاظم يقظان" لخالد لسود.. السطح والقاع: مرايا الماضي

 انطلاقا من تشظي هذه الشخصية عبر اختلاف الأمكنة التي تكمن دلالاتها النفسية في توليد الشعور بالقلق وعكس حالة المعاناة وانكسارات الذات انطلاقا من أنماط الشخصيات التي تؤمها وتعكس ردودا متسمة بالقسوة والاضطهاد.

 

التحفيز التأليفي

تبدو شخصية كاظم ثابتة، منطوية، غير فاعلة بالشكل الكافي لما تحمله من شروخ كامنة في الذاكرة ومن ندبات بادية على صفحات حاضرها. هي شخصية لا يمكن تحديد ملامحها إلا عبر لعبة المرايا من خلال النظر في مرآة الآخر المفرد أو مرايا الآخر المتعدد لتكتسي الشخصية تقاسيمها المتناثرة وتستجمع صورتها واضحة لتنجلي لحظة المكاشفة الذاتية عبر رؤية دواخل النفس المتخفية في اللاشعور، مكاشفة تؤدي إلى انكشاف قناع الجبن والغموض المرضي.

 

في الفصل الأول من الرواية "كتشاف ثم كشف  تواري الحلم الأول المنعكس على بشاعة الواقع، فتحول إلى كابوس ضار، إلى شعور عبثي بالعدمية وغياب المعنى وتحول اللحظة إلى محاولة تهدئة لأوجاع النفس البائسة. وقد انطلق الكاتب في كشف صورة الشخصية الباطنية انطلاقا من إشارتين وظيفتين :

 

- الإشارة الأولى : انفتاح الرواية على شخصية زوج الأم والتعمق في تصوير ماضيه بطريقة أوهمت القارئ أنه نواة الأحداث وأن حركاته وأفعاله بمثابة الدفع أو التصعيد لسياق تحولي معين. ولكن بالاسترسال في قراءة الرواية مكتملة  نلحظ أن زوج الأم وهو الشيخ "عبدالجبار" الذي تعبر حركاته عن السأم والضيق يرنو نحو الانطلاق إلى ذكريات الماضي، والرحيل إلى "نعمة الانعزال مع الطبيعة العذراء، مع صوت الناي في انثياله الشجي يخرج كل الأحزان والآهات".

 

الانشطار، الارتداد، النكوص: مسميات لحالة واحدة يتقاسمها كاظم وعبد الجبار، لجوء إلى منافذ للاسترخاء، واستحالة تلك المنافذ إلى ملاذ استنادا إلى فكر طفولي لا يستكنه إلا الجمال والحرية ولا يعي الحدود والعوائق والمكبلات، فثمة قفزة على اللاشعور بتسكين الأوجاع عبر حيل نفسية تعمل على تعديل التوتر وخلق حالة من الاستقرار والتوازن. "المجال ضيق والأفق محدود ومشوار الحياة لا يبدو كافيا لمواجهة مفتوحة... أليس الأفضل أن تخضع الحياة لمنطقنا؟ " وأي منطق هذا، إنه العودة إلى الزمن البدائي الغابر، إلى زمن الأساطير والبراءة والطبيعة البكر والصفاء والالتحام بالظواهر الطبيعية لتسكين الخوف. هذا المنطق إقرار بوظيفة التمثلات الميتولوجية في السيطرة على مخاوف الإنسان، هذا الاعتقاد أدى إلى تحويل الواقع إلى موضوع كاريكاتوري، إلى تضخيم صور الواقع للتعبير عن عوارضه بطريقة معكوسة، وعبر عن حالة اللاتوازن التي بدت فنية بعض الشيء. حيث شكلت الذات الواقع الخارجي بطريقتها، وفي لحظة الخروج من هذا الواقع يرسم الكاتب إشارة ثانية لكاظم ليدفعه إلى إعادة التفكير بصورة مختلفة.

 

- الإشارة الثانية: وجود كاظم في حالة ارتدادية جعلته يرتخي في ظلال الفكر الأسطوري أفرز لديه ذلك الاعتقاد بأنه في مأمن عن الواقع وما يحمله من انتكاسات من تجارب مؤلمة، غير أن بروز صورة الغريب أمامه جعلته يقف وجها لوجه أمام الحقيقة " الكل في خلل كأنه الوحيد الذي حافظ على توازنه لولا هذا الوجه الكالح الذي ظهر أمامه فجأة... يا للبشاعة، قبح مقذع. وجه قاسي القسمات، جاف، جاد، لا يبدو عليه أي تعبير لأن آثار حروق قديمة  قد محت كل علاماته " هذه الحروق نابعة حتما من نار الكبت التي انفجرت كبركان للتعبير عن قهر الذات واضطهادها.

 

صورة الغريب بمثابة الوجه الحقيقي لكاظم، الوجه المنفصل عن وعيه الذاتي الوجه الذي هرب منه إلى ملاذ الوهم. الوجه الذي أحدث لديه الرهبة والتصدع وعكس مخاوفه، فعصفت بنفسه كرياح عاتية. وقد نبهه صاحب الوجه   أن الملاذ الذي لجأ إليه هروبا من المطر المنهمر هو واجهة لمصحة هي عيادة نفسية مغلقة. فثمة تأشير إلى تمزق نفسي وجب معالجته لاحقا والعلاج لا يؤدي فاعليته إلا من خلال مكاشفة النفس واستدراجها إلى كل تخومها وتجاويفها لفك خطوطها المتشابكة والمعقدة، غير أن تصفح ذلك الوجه المشوه لم يخلف لدى كاظم سوى الكراهية والاشمئزاز والرغبة في الهرب، والاحتماء بالمقهى عله ينسى ما اعترضه ومن صادفه. هروب كاظم لم يطمس رغبة الغريب في ملاحقته للتعبير عن معاناته مطلقا على نفسه إسم "سيزيف" كدلالة على شدة عذابات النفس واستفحال العبث بين طياتها. وأما حروقه فهي دلالة لحريق باطني افرز الشعور بالغربة الروحية، ووجود الإنسان وحيدا داخل العالم، عاد بي إلى فلسفة سارتر حول الوجودية العبثية، وعلاقة التوتر بين الذات والآخر، بين الحرية والضرورة، بين الحدود الماقبلية للوجود والذات الحرة. فثمة إسقاط لفكر آخر على فكر مستسلم للميتولوجيا، ومن ثمة لم تتحدد ملامح كاظم كشخصية أصيلة في واقع معين لأنه عبر عن عقد نفسية حضارية، وعن تمزق الذات وتشظيها داخل منافذ فكرية متعددة أشعرته أنه منخرط في رحلة البحث عن نفسه وفي تخليصها من كل الإسقاطات والترميزات التراجيدية التي تدحر جهد الإنسان وتكرس هزيمتها، وتجتث حركته وفعله،  فلئن اعتبر الغريب بأن الناس شوهوا وجهه وأن الكيان ليس قيمة ثابتة وأن " قيمة الذات في ما تستوعبه من أحداث الحياة  في ما تستخلصه من ذوات الآخرين ".. كل ذلك عبر عن ثقل نفسي مرضي جشم على الشعور وكساه بالظلام، فاجتث منه الرغبة في الانعتاق.

 

إن الحافز التأليفي المتكون من إشارات أساسية تكتسب دلالاتها الواضحة في بناء المتن الحكائي لرواية "أحلام كاظم يقظان" لم يقص "الحافز الواقعي" المتشكل من خلال شخصية الغريب التي ظهرت ثم اختفت عن أحداث الرواية دون أن يخلف غيابها نقاط استفهام، ذلك أنها لم توظف إلا للتعبير عن شحنة المأساة الكامنة داخل كاظم، سيما وأن هذا الأخير المنكسر على أسوار الذاكرة والباحث عن لحظات الاسترخاء كان يفتقد القدرة والشجاعة على مواجهة النفس واكتساب الوعي الذاتي، فهناك درجة كبيرة من الايهام القارئ عبر اجتراح الذات وفتح شروخها لكي تتفصد سمومها المميتة للحركة والفعل والتفكير، وهذا الفتح للآلام التي وقع رتقها هو بمثابة المواجهة الفاصلة بين شخصية كاظم، وتحول إلى واقع آخر بمثابة إعادة النظر وتمحيص الماضي والحاضر على محك النقد والتشخيص.

 

التداخل

التلاقح بين الحاضر والماضي كسا الزمن بعلاقات رجوع وعودة، لا تربط الأحداث بأسبابها في خط تصاعدي، وإنما تتفكك هذه الأحداث حين يقفز الماضي، حيث تكتسب حركات كاظم بعض التطور، ثم سرعان ما تعود إلى تسجيل الوقائع التي أسهمت في تكوين شخصيته. فمرة أخرى يعمد الكاتب إلى كشف الحقائق حين تنبري في المرايا، فلئن كانت الذكرى قاسية فلأنها خلفت رواسبها وتراكماتها في اللاوعي، ففقدان الأب في مرحلة الطفولة دون المبالاة بالسؤال عنه، ثم تمظهر ذلك الصراع في سن الشباب، إنما هو سؤال عن انتماء ثقافي وحضاري إثر مرحلة الاستلاب التي التي تفرعت واكتست أبعادا أسطورية وأخرى فلسفية عبثية أو تراجيدية مأسوية. أضف إلى ذلك فإن التعريج على زواج أمه برجل فظ متسلط بعد سلسلة من الرفض المتكرر وما خلفه ذلك في نفسه من أسى،  هو نتيجة تعلقه المرضي بأمه، وهنا تكمن عقدة نفسية وحضارية أخرى. ولو أضفنا  البرد والعراء والجوع، فإننا نستشعر عدم إشباع كاف لحاجيات نفسية أساسية كفيلة بتحقيق التوازن النفسي وأدنى درجات الشعور بالطمأنينة، كما نفهم سر عزوفه عن الشهوات واللذة العابرة: "عاد إلى زهده ونسكه بأكثر وأقوى مما كان. رجع إلى طقوس الصمت وإلى الشهوة المقهورة والهيئة الوقورة.. عاوده الامتثال ورغب في الطاعة "، تلك هي رحلته مع الماضي بدأت بالقسوة المحفورة على الذاكرة : الشعور بالانبتات ووجوده في مجتمع منافق يجرم البريء، تتراءى فيه الأنثى في صورة الواقع المتجرد عن الرمز والمثال.... ذكريات عن الطفولة المعذبة ما أحدث شروخا تراجعية. أما الحاضر فهو أفق مختلف لتطلعاته : ففضاء الجامعة فضاء للفكر والعلم والأدب والخيال. عقول دون عقد، وعلاقات متحررة. وأثناء وصف الحياة داخل الجامعة يرصد كاظم تلك الثنائية بين العلم وبين الجهل، التحرر والعقد، الفضاء الجامعي وشرفات المنازل، العمق والسطح، إلا أن فضاء الجامعة لم يخل أيضا من انفصام بعض المفاهيم حين تحضر أصنام التفكير والحوارات الانفعالية والتقييمات المستندة إلى أهواء العاطفة، كل ذلك برره كاظم قائلا "لا أحد يدري إن كان من حسن حظ هذه الأمة أم أن من سوئه أنها بنت كل حضارتها على العاطفة"، فزخم الحاضر جعل كاظم يناقش الكثير من القضايا ليرصد واقعا ثقافيا صلبا يجذر عليه خطاه، إلا أن تسلحه بالفكر والوعي غير كاف لتغيير الواقع من حوله، فقد ظلت انحرافات المجتمع بمثابة التسلط الذي يقهر رغباته في الأمان والاستقرار.

 

التداخل بين الماضي والحاضر تجسد في فصول ثلاثة وهي فصول : من الماضي - زخم الحاضر - عودة ليتها لم تكن. تداخل نصص على على فشل تجربة إصلاح أعطاب الماضي من خلال رؤية متسرعة ومندفعة، فكأن شخصيته التي كانت بحاجة إلى كظم انفعالها إزاء المظاهر المستهجنة كانت بحاجة إلى وعي لبناء حركة تقدمها عبر السفر لمدة عينة، سفر مرآة للشعور بالانبتات والغربة واجتثاث الجذور برؤية مكتسية بالحلم. وبأحلام كاظم يقظان، فهي أحلام التيقظ والوجود.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1268 السبت 26/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم