قضايا وآراء

أدبيات النقد وحدوده: رسالة إلى الناقد الاندفاعي

 الكتابة الأدبية للعمل الأدبي لتضمن له سموه وبقاءه، والنقد إن كان بهذا المعنى؛ لا يتصيد معايب النص ولايشهر بها أو بصاحبه، بل يكون القصد هو الإيضاح والاستدراك على مافات المنقود من مقومات وقوانين فن الكتابة الإبداعية.

يقول أحد المتأدبين في تعريف النقد: النقد هو حالة تقويم .. حالة وزن بالقسطاس المستقيم، وكلّما كنت دقيقاً في نقدك، بلا جور ولا انحياز ولا تعصب ولا إفراط ولا تجاوز، كنت أقرب إلى العدل والإنصاف، وبالتالي أقرب إلى التقوى، قل في منقودك ما له وما عليه .. قل ما تراه فيه بحق ولا تتعدّ ذلك فـ «مَنْ بالغ في الخصومةِ أثِم». وجاء عنه أيضا: النقد هدية .. فاعرف كيف تقدّمها، فقد ورد في الأثر : «أحبّ إخواني مَنْ أهدى إليَّ عيوبي» إذ اعتبر الإسلام النقد والمؤاخذة على الخطأ (هدية) وترحّم على مهديها لأجل أن يكون النقد والنصيحة والتسديد مقبولاً ومرحباً به، بل يُقابل بالشكر والابتسامة . والهدية ـ كما هو معلوم ـ تجلب المودة «تهادوا تحابّوا» فإذا صغت نقدك بأسلوب عذب جميل، وقدّمته على طبق من المحبّة والإخلاص، وكنت دقيقاً ومحقاً فيما تنقد، فسيكون لنقدك وقعه الطيب وأثره المؤثر على نفسية المنقود أو (المهدى إليه) الذي سيتقبّل هديتك على طريقة «ووفقني لطاعة مَنْ سدّدني ومتابعة مَنْ أرشدني» .

غير أن الأسف يركب شطآن التذمر، إذ غالبا ما نوجه سهام النقد نحو الآخر، و نادرا ما تأخذ تلك السهام منحاها نحونا، ذلك لأنه ثمة ثقاقة تعشش في عقولنا تجعل منا نحمل عن ذواتنا تلك الصورة المثالية، في حين أن الآخرين تجتمع فيهم كل علل الكون وأمراضه …

وهنا أتذكر قصة العالم الذي حدثته نفسه بعلمه، فتعالت على القوم وتصعّدت. فإذا بصاحبها يقف يوما على البحر يكلمه بكبرياء وأنفة: "يا بحر وقف عليك بحر". فخرجت حينها حورية من هذا البحر تكلمه وتسأله: يا بحر العلم!! أستفتيك في امرأة مات نصف رجُلِها، أتطلب العدة أم تطلب الطلاق؟؟ فارتعد العالم من هول السؤال وأقفل راجعا إلى مكتبته يقلب بطون الكتب عن جواب، فلما أجهد نفسه وضعُف وخاب مسعاه، عاد إلى الحورية يٌخبرها عن عجزه. فقالت مجيبة: إن مات نصف الرجل الأعلى وجب على المرأة العدة، وإن مات نصفه الأسفل وجب عليها الطلاق. حينها فهم العالم المتكبر المقصود، أن الاستفتاء لم يكن لذاته، وإنما الغرض منه : أن لاأحد أعلم من أحد، وأن فوق كل ذي علم عليم، وأن التكبر والتباهي لايجني صاحبهما من ورائهما غير الخيبة والندامة والحسرة.  فالعالم المتكبر المتعالي على الناس سيكون من أول الثلاثة الذين تُسَعّر بهم النار يوم القيامة، ذلك لأنه ادعى أنه علِم العلم وأفقهه ليعلم الناس، وما تعلم العلم في الحقيقة إلا ليقال عنه عالم وقد قيل. حينها يؤمر به فتسعر به النار والعياذ بالله.

يا من يدعي الوصاية على لغة الضاد، ويامن يتربع على سلطان الأدب، وكأن بيديه مقاليد الحل والعقد، اعلم أن أشد الناس خشية لله هم العلماء، قال الله تعالى:"إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ". وإن كنت لابد منتقدا أحدا فانتقد ما يتكلم عنه وفي حيز ما طرحه، وابتعد عن شخصيته وراع خصوصيات ذلك، وانتقده في حدود المعقول دون تجاوز الخطوط الحمراء ودون تجاوز حدود الحوار والنقاش. ثم كن على دراية واطلاع بما طُرح، ولاتكن للمخطئين خصيما، فخير الخطائين التوابون، وشر العلماء المتكبرون.

فإذا كان الاختلاف لايفسد للود قضية، فكذلك ما تزمع على نقده، إذ به تنمو اللغة ويسمو الحوار وتتآلف الأفئدة. شريطة أن تقصد في مسعاك، وأن لا تمشي بعلمك – إن كان لك علم- في الأرض مرحا، "واغضض من صوتك فإن أنكر الأصوات لصوت الحمير" كما قال الله تعالى على لسان لقمان موصيا ابنه. بمعنى أن يكون هدفك واضحا تجلي من خلاله ما استصعب أو استشكل على المنتَقَد وما عجز عن وصف أو تقديمه.

أيها المنتقد الناقد المغرور: كن موضوعيا في نقد نزيها حياديا لاذاتويا اندفاعيا، كن أمينا ولاتكن مؤتمنا، واعلم أن كل حرف تعلمته ستسأل عنه: ماذا عملت به؟؟؟ فهل ستجيب حينها أنك تعلمته خالصا لتعلم بإخلاص، أم تعلمته ليقال عنك عالم فتشهر وتجرح وتنتقص؟؟؟

فهون عليك أيها المنتقد الاندفاعي الذاتوي ؟؟؟ فلا أنت خير من موسى ولا أنا شر من فرعون، فموسى حينما دخل على فرعون كلمه بالحكمة والأدب، كما جاء عن هارون الرشيد ناصحا اندفاعيا مثلك. واعلم أن للنقد أصناف منها: البيني، والعادل المنصف، و الملتف، والمحابي، والجائر، والمتهور، والهدام، والاستدباري... ولكثرة الأصناف "الخائبة" المشبوهة حمت حول حماها فسقطت في المحظور، عافاني الله وإياك.

وعلى هذا الأساس، أرسلت إليك هذه الكلمات أهمس بها في أذنك علها تعيدك إلى صوابك وتواضعك. وحتى لاتكون ممن قال فيهم الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة \\\\ ولكن عين السخط تبدي المساويا

 

بقلم: حمادي الموقت (أبو ريحانة)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1270 الاثنين 28/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم