قضايا وآراء

بول ريكور: العيش حتى الرمق الأخير / شارلز ريغان

 ترك ريكور وراءه أعمالا كثيرة وعددا من المشاريع غير المنتهية التي جمع بعضها في كتاب وترجم إلى الإنجليزية للمرة الأولى بعنوان: العيش حتى الرمق الأخير (ترجمه إلى الإنجليزية ديفيد بيلور، مطبعة جامعة شيكاغو، 2009).

هذا الكتاب غريب يتطلب مراجعة غريبة، فهو يضم بعضا من كتابات ريكور غير المنشورة سابقا، التي لم يكن هو نفسه راغبا في نشرها.

يتكون الجزء الأول من هذا الكتاب من ملحوظات دونها ريكور في 1995-1996 عن الموت. أما الجزء الثاني فيتكون من أجزاء متناثرة كتبها أواخر أيامه تتخذ في الغالب شكل تأملات في مواضيع كانت شغلته وقتها مثل الحياة والموت، والمسيحية، وإيمانه وفلسفته، والكتاب المقدس، وصديقه جاك دريدا، ومسألة البعث.

 أما مقدمة الكتاب فكتبها أوليفير هابل، وهو صديق قديم لريكور، إضافة إلى كلمة ختامية بقلم كاثرين جولدشتاين، الصديقة المقربة للغاية من ريكور، خصوصا في العقد الأخير من حياته.

 

يستحسن أن يبدأ القارئ بما كتبته جولدشتاين، لأن ذلك يساعد في توضيح أصل النصوص التي اعتقدت هي شخصيا بضرورة أن تنشر. وجولدشتاين للمناسبة عضو في معبد بروتستانتي في شوتاني مالابري ، صادقت عائلة ريكور في أوائل التسعينيات. وعندما كانت سايمون، زوجة ريكور، في وضع صحي متدهور، كانت جولدشتاين تتردد على البيت عصرا، وتتبادل الحديث وتشرب الشاي بصحبة العائلة، وكان هذا أمرا مهما، خصوصا عندما كان ريكور يحاضر في مدن أخرى.

 كما وقفت جولدشتاين إلى جانب ريكور  في أثناء حداده على سايمون بعد موتها في العام 1998، وكانت عونا له في السنة التي سبقت وفاته.

 

كتب ريكور بعض تأملاته تلك في مرحلة صعبة: كانت زوجته في أيامها الأخيرة عقب مرض ظل يتفاقم يوما بعد يوم مصحوبا بنوبات قلبية وعجز متزايد عن المشاركة في الحديث. يضاف إلى ذلك حلول الذكرى العاشرة على انتحار ابنهما أوليفير. والواقع أن ريكور كان يعمل في ذلك الوقت على المخطوطة التي ستنشر تحت عنوان: ذاكرة، تاريخ، ونسيان .

 

سبق لريكور أن عبر عن بعض الأفكار الموجودة في الجزء الأول من هذا الكتاب، في العديد من أعماله الأخرى، كاعتقاده أننا لا نختبر الحدثين الأكثر أهمية في حياتنا: ولادتنا وموتنا، وأنهما حدثان مهمان بالنسبة إلى الآخرين، خصوصا عائلتنا الأقرب والأصدقاء، لكنهما بالنسبة إلينا شيء كان قد حدث سابقا (ولادتنا) وحدث لم يحدث بعد (موتنا). ويمضي ريكور من هذا الحديث إلى جدل فكري عاصف خاضه في موضوعات عن مسيحيته، واعتقاده في ما بعد الموت، والبعث، وهل البعث وعد سيحدث أم مجرد مجاز.

 

أما القسم الثاني من الكتاب فحمل عنوان أجزاء متناثرة ، وهو عبارة عن ملاحظات أو تأملات يستقل كل منها بصفحة واحدة كتبها ريكور آخر سني حياته. فيها نعرف أن القراءة والكتابة كانتا جوهر حياته، وأنه قرر أن تكون الكتابة إحدى عاداته التي يمارسها كل يوم غالبا في الصباح، وأنه واظب عليها حتى أيامه الأخيرة حين أصيح ضعيفا جدا. يبدأ ريكور هذه الأجزاء بالقول: قرأت على غطاء كتاب فن لمؤلفه واتيو، ما يلي: هذه ذكريات رسام من الولادة إلى الممات. القوسان يفتحان ويغلقان بإحكام على وقت حياة اقتطعت من زمن تاريخي . ثم يسأل: هل هذا مهلة زمنية تحدد وقت عمل واتيو؟ لا، العمل شيء مستقل يبقى مدة طويلة بعد اختفاء مؤلفه. ومما ورد أيضا عن إيمانه قوله: هي فرصة تحولت إلى قدر بفعل اختيار مستمر: مسيحيتي .

 

وهناك بعض من أفكاره عن العلاقة بين تاريخه الشخصي الخاص، وتمسكه بفرع من البروتستانتية المسيحية، وفلسفته. ثم يقول إنه يتقبل واقعة ولادته وترعرعه مسيحيا في خط الإصلاح الديني، ويقر أنه لو كان ولد في وقت مختلف وفي بلاد مختلفة وفي تراث مختلف لكان اعتنق اعتقادات مختلفة. إن الشخص لا يكون هو، وهو لن يكون ذلك الشخص. وعلى أساس ذلك يقول ريكور: لست أفضل حالا أو أسوأ حالا من أي شخص آخر. كلنا ولدنا ضمن تقليد معين وربينا مع مجموعة معينة من الاعتقادات . أما الفلسفة فتعتمد على الحجج العقلانية المستقلة بشكل كبير عن الإيمان والاعتقادات الدينية.

لقد تحمل ريكور آلاما عظيمة، وهو يحاول دائما تمييز تفكيره الفلسفي من أي معتقد ديني. أما السبب وراء إصراره هذا، فتلك الصورة النمطية السيئة التي رسمت له في فرنسا: صحيح، ريكور فيلسوف مسيحي، لكنه ليس فيلسوفا حقيقيا .

جاء في تأملاته تعليقا على النقطة الأخيرة: لست فيلسوفا مسيحيا، كما تقول الإشاعة بروح انتقاصية متعمدة، أو حتى بروح تمييزية. أنا فيلسوف، ولا شيء أكثر من ذلك، وفيلسوف دون مطلقات، اهتممت وكرست بل وغطست في الأنثربولوجيا الفلسفية (علم الأجناس البشرية الفلسفي) .

 

وفي الجزء الأخير من هذه التأملات كلام عن صديقه جاك دريدا الذي كان يصارع الموت من السرطان، قبل سنة أو اثنتين من تدهور حالة ريكور. كتب ريكور الذي كان يكلم دريدا كثيرا على الهاتف: إذا كان يفهم من التعلم في نهاية المطاف أن نتعلم كيف نعيش كي نتعلم كيف نموت، وكيف نأخذ في الحسبان الفناء المطلق دون خلاص، أو بعث، أو فداء، فأنا أسلم بعكس هذه الأمور جميعا . ويعبر عن إخلاصه لدريدا بقوله: أنا عادي جدا، ولا شك عندي أن أعمالي ستعيش أقل من أعمال دريدا الذي هو شخص مدهش حقا .

 

ماذا يمكن القول أخيرا؟ رد فعلي الأول عندما قرأت النسخة الفرنسية من هذه الملحوظات والتأملات أن لا تنشر هذه المسودات والأجزاء المتناثرة. ففي 1989، سمح ريكور لزميلي، ديفيد ستيوارت، ولي أنا شخصيا، بنسخ مسوداته ومخطوطاته غير المنشورة ليستعملها الدارسون فقط. وتم حفظ هذا العمل في أرشيف ريكور في جامعة أوهايو شرط أن لا ينشر. ذلك أن النصوص غير منتهية، ومفككة، ومشوشة خلافا لأعمال ريكور الأخرى المنشورة. وهي نصوص يصعب وضع خلاصة لها، أو وضعها في نظام متماسك زمنيا أو طوبولوجيا، على الرغم من  أنها تنطوي على سحر لماع للحظة مبدعة في فكر الرجل، لحظة ولادة أفكاره الفلسفية. وهي تأملات في الموت: موت زوجته التي أحب، ولاحقا موته الوشيك.

 

إن معرفتي بالمحررين، كاثرين جولدشتاين وأوليفير هابل، هي التي غيرت رأيي بالنسبة إلى نشر هذه الملاحظات. فهما الأقرب إليه من بين أصدقائه في سنواته الأخيرة. فمن دون العناية والشفقة التي أبدتها كاثرين كان ريكور سيموت قبل سنوات من موته.

أما أوليفير هابل فقد كان بالنسبة إلى ريكور صديقا عرفه في عمر مبكر، حيث كان أوليفير ابن قس سابق في الكنيسة الإصلاحية في شاتوناي مالبري، وفي مقابل معرفة ريكور أوليفر وهو شاب، عرف الأخير كل عائلة ريكور.

 وبسبب جهود أوليفير هابل فإن مؤلفات ريكور موجودة الآن في كلية علم اللاهوت البروتستانتي في باريس، وستوضع في مكان جديد مناسب في المكتبة هناك. لقد قرر المحرران أن ينشرا هذه الأوراق بسبب حوارات أجرياها مع ريكور تناولت بقاء الأعمال بعد موت مؤلفيها. وكلي ثقة في اختيارهم نشر بعض ما كتبه ريكور وعدم نشر بعضها الآخر وإبقائها مسودات في الأرشيف ليفيد منها الدارسون فقط.

إنه لأمر محزن بقدر ما هو حقيقي، فالعيش حتى الرمق الأخير شهادة مؤثرة على رغبة ريكور في مواجهة فنائه الخاص: بالأسئلة الجدية وباللامبالاة المؤثرة، وبالأمل في المستقبل.

 

ترجمة أيمن حمودة -  الأردن

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1271 الثلاثاء 29/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم