قضايا وآراء

أوغسطين: الخلق الإلهي والثالوث المقدس

يشغلان لحظات فراغه طوال خمس عشرة عاما ونيف. الموضوعان هما، أولا : تأويل < التفسير الدلالي > أول ثلاثة فصول من كتاب التكوين، وثانيا : أطروحة الثالوث المقدس.

وكلاهما كانا منطقة يميل النخبويون من الوثنيين إلى السخرية منهما. وكنتيجة لفرضية أن الله هو خالق العالم، يبدو أن كتاب التكوين يشير إلى أن الخلق تم دفعة واحدة وبشكل مباشر.

وقد اعتقد الفلاسفة (على الأقل بعضهم) أنها عملية قدم فيها الفنان الإلهي أفضل ما لديه حيال المواد غير المتشكلة. وكانت حكاية آدم وحواء والثعبان تظهر بشكل أسطورة تافهة. ولكن معظم الأفلاطونيين أقروا لغويا أن "الخلق" حوار حول علاقة الله مع الكون، وكان أفلاطون يستعمل كلمة " تيموس" . واعتقدوا أن هذه اللغة الرمزية ليست محدودة زمنيا، وفي مجال الحقائق أكدوا أن الكون أزلي، وليس له بداية ولا بداية. 

وضع أوغسطين خمسة تفاسير لكتاب التكوين، ومنها "الاعترافات ومدينة الله". وكان الأول رمزيا تصوريا وبشكل تعليق يفند فيه النقد المانوي < المانوية عبارة عن طائفة دينية قديمة >. غير أن الترميز كان عرضة لعيوب الأداة المثالية (فهو يبدو معقولا ولكنه في الواقع مغلوط)، وليس بوسعه أن يتجنب مصاعب الإحراجات. بدأ أوغسطين بتعليقات أدبية، ولكنه لم يكمل مشروعه. وحوالي عام 401 شرع بتعليقات مفصلة تطرق فيها إلى المضمون الحرفي للكتاب، وهذا سيشكل أهم إنجازاته. أما كتابه الثاني عشر من " تفسير المعنى الحرفي لكتاب التكوين، فقد بدأ من فرضية مفادها: لو أنه ليس هنا بصدد التعامل مع التكوين 1 – 3 كصور رمزية تتعلق بالكنيسة والأضحية، والخطيئة والطهارة، لن يكون بوسعه أن يفتتح التكوين كجزء من " علم الخلق ". وكان غريبا عليه أن يتكلم المسيحيون وكأن الإنجيل يقدم لهم تفسيرا بديلا للعالم ينافس تفاسير الفلكيين وسواهم  من علماء الطبيعة. ذلك يحولهم مع إيمانهم إلى كائنات ترتكب حماقات، وهذا سيلقي ظلا من الغموض على الموضوعات المهمة حقا التي أزمع المسيحيون على تناولها.

لقد أكد غاليلو بما لا يدع مجالا للشك ملاحظات أوغسطين بهذا الخصوص. كانت ملاحظات أوغسطين تغدر بالاهتمامات العميقة التي هي مثار البحث والتساؤل والتي نصنفها نحن في عداد الحقول العالمية، ولكن في نفس الوقت ترفض تطبيق قرار نهائي حول الموضوعات الغامضة فقط لأن الكتاب المقدس ينظر إليه من بعض الجهات وكأنه دفتر مذكرات في علوم الطبيعة.

ما هو "حرفي" بمفهوم أوغسطين لا يعني أن الكاتب المقدس كان يقدم لنا تفاصيل موضوع حقيقي. ومع ذلك كتاب التكوين لا يعني ضمنا أن العالم مخلوق بالواقع. وإن كلا من وجود البشرية ووجود الكون يتوقفان على  إرادة الله الطيبة.

و قصد أوغسطين بهذا السياق للمصطلح "حرفي"  أن التكوين يخبرنا عن الظرف (= الشرط)، وهو لا يعمد إلى أن يتكلم بأسلوب معقد عن أزلية العالم واللافناء المتوارث للروح. وهو لم يفترض أن يكون الكلام عن وجود الله كسبب أول أسلوبا ليقول إن الكون بالصدفة تمهيد أو بداية لحقبة محدودة من الزمن. 

وبينما اعتقد معظم الأفلاطونيين أن فهم الخالق يكون بالضرورة مماثلا للفنان أو الحرفي الماهر الذي يبذل جهده في ترويض خامة المادة، كان اللاهوتيون في القرن الثاني للمسيح يؤكدون أن الخالق هو من خلق المادة، والعالم تشكل "من العدم".

و يأتي تعليق بروفيري 1 على تيموس لأفلاطون ليساعد أوغسطين، حيث قال بروفيري:  بما أن المادة  سابقة على الشكل لا شك أن الخالق هو من أوجدها، ومع ذلك لا يمكن أن تمر دقيقة واحدة تكون فيها من غير شكل. لقد تبنى أوغسطين هذه اللغة شخصيا، و(كما لاحظ بروفيري)، فسر بذلك المتطلبات الصارمة الوحدانية.

إن فكرة فعل الخلق الآني دفعت الفلاسفة لتبني رأي عن الخدعة السحرية. اقترح أوغسطين أن العالم سيرورة تتطور. وليس كل ما هو في العالم الآن مخلوق كما هو منذ البدء. وذكر أن الله خلق "المبادئ العلّية" أو الدوافع والأسباب التي جعلت كل شيء كما هو عليه، وسمحت له هذه اللغة لتبني موضوع جنس جديد سيظهر لاحقا. وربما قدمت له اللغة الأفلاطونية الجديدة حول نظرية التطور في مجال مرتبات الموجود الهرمية جملة من المفردات. وإن لغة أفلوطين < فيلسوف روماني ومؤسس الأفلاطونية الجديدة > حول " النشوء " قد تكون أثرت به. ولكن تأثيرات كل أكسيومات الأفلاطونية الجديدة متضمنة في إمكانية مسبباتها. وهو لم يؤمن بدور الحظ ولا العشوائية في النظام والتصميم المدهش الذي يقف وراء العالم. كان " الحظ " مصطلحا يستخدم حينما لا نعلم السبب. لا شيء يحدث من غير سبب من نوع ما. وكان أوغسطين واثقا من عقلانية الكون، وإن غرائبية الاختيارات غير المشروطة قدمت لنا لا عقلانيات واضحة.

حاز أوغسطين على شهرة في مجال مقاربة الجنس المؤنث. وهذا يمكن تأكيده بمقبوسات مختارة، ولكن بعض الملفوظات والعبارات شديدة الإيجابية. لقد عارض التفسير المعاصر لسانت بول وكلماته (1 كورنثوس . 11 :  7) 2  وفيها كان المذكر، ليس المؤنث، مخلوقا بصورة الله . وأصر أن الرجال والنساء يختلفون بالجسد وليس الروح أو الملكات العقلية. ومن جهة أخرى، اعتقد أن الوظيفة الأساسية للنساء بيولوجية وهذا واضح تلقائيا. " بما أن آدم بحاجة إلى شريك بمعنى رفيق وقرين في حوار عاقل وحقيقي، لا بد أن الله سوف يمده برجل آخر، ولكن بتقديم حواء كان قصده أن يضمن استمرارية العرق ". وافترض أن الزواج يفرض على المرأة دورا منزليا أليفا وداعما، مثل مونيكا 3 التي تحملت وسكّنت شريكها العصبي في المزاج وغير الوفي. على الشركاء " أن يسيروا جنبا إلى جنب " ربما للقضاء على العادة، التي لا تزال شائعة في أجزاء من العالم المعاصر، حيث يسير الزوج أمام زوجته، وهي تحمل الأطفال والممتلكات وتمشي في أعقابه خلفه. عدم التساوي في الحياة العامة، لا يعني أن الزوج والزوجة غير متساويين تماما في الحقوق العاطفية.

وإن عددا من أقوال أوغسطين توضح الأشياء المتفق عليها والتي تعمم موقفنا من النساء، وهذا غالبا ما يكون نتيجة لموقفنا من الجنسانية. وإن الرجل الذي آمن في حقبة منصرمة بالمانوية وعاش في نفس الوقت مع امرأة تلبي احتياجاته لا نتوقع منه أن يكون مستقرا. فتحوله إلى المسيحية الكاثوليكية فرضت عليه تقييما إيجابيا بخصوص الجسد والذي كان على علاقة غريبة مع حقيقة ترفض أن يكون الجنس عصبا مركزيا يؤثر على قراراته. وتدعي إحدى العبادات أن الحق القانوني كامن في متعة تأتي من غرائب الطبيعة والموسيقا والأزهار والشذا والطعام الطيب " والعناق العاطفي ". وفي كتاب " مدينة الله " رفض بحزم فكرة البعض والتي مفادها أنه في العالم القادم سيبعث كل النساء والرجال في أجساد ذكورية، كما لو < أن > الأنوثة خطأ جسيم ارتكبه الخالق. من طرف آخر، كان يخشى من الجنسانية < على الأقل جنسانيته > أن تفلت من رقابة العقل بكل بساطة. وحتى الأخوات في أديرة راهبات هيبو 4 قد تم تلقينهن درسا عن المرأة التي تستطيع بسهولة أن تحرف الرجل عن جادة الصواب من غير قصد ولا وعي، وهذا بطرفة عين فقط.

إن التأويل الحرفي لكتاب التكوين ليس متأثرا بالفقرات العاطفية، ولكنه يقدم لنا مناقشات لمشاكل لها علاقة بفكرة الخلق وطبيعة الإنسان. والخلاف بين الأفلاطونية والإنجيل يبدو واضحا على طول الخط، ومن الممكن أن نقرأ الشرح وكأنه علامة على وعي أعمق عليه أن يفرض مسافة أبعد بين الطرفين بالمقارنة مع ما فعل سابقا في أيام كاسيسياكوم  5 .

كان بروفيري < فيلسوف إغريقي من أتباع الأفلاطونية الجديدة >، وغير مذكور في النص، رمزا أساسيا له وجود في خلفية الشروحات. ولأن الكتاب يستند على قليل من العاطفة، كانت شخصياته استكشافية ودقيقة حتى نحو بعيد. وفي (مراجعاتـ) ـه خلال مراحل متأخرة من العمر نظر أوغسطين إلى الخلف نحو إنجازاته، وانتبه أنها كانت شديدة الارتباط والمحلية من ناحية فوائدها ككتاب. وإن القارئ الحديث لن يوافق على الأغلب مع هذه النتيجة المأسوف عليها.

و يبدو أن العلاقة مع الأفلاطونية الجديدة أكثر وضوحا في عدة أجزاء من خمسة عشركتابا (عن الثالوث المقدس)، وهو عمل أنجزه أخيرا حينما بلغ الخامسة والستين. وإن أول سبعة كتب كانت قد فحصت تقاليد الكنيسة، أولا في النصوص، ثم في رجال اللاهوت والمفسرين الأورثوذوكس. وكان العمل الأساسي قد أنجز قد عدة أجيال على يد هيلاري من بوتيرز 6، وهو عن نفس الموضوع الذي أثر به على نحو جوهري. وإن أحد أسئلة المركزية التي اقترب منها كل من هيلاري وأوغسطين كانت مترابطة مع آريوس 7،  وهو قس من أبرشية إسكندرانية يعود إلى بواكير القرن الرابع. وقد عالج آريوس قضية شائكة أساسية في أطروحته التي صالحت بين الثلاثة المؤلهين مع الوحدانية، وذلك من خلال الإقرار، أو بالأحرى الإصرار على، التدني الميتافيزيقي والأخلاقي الذي يربط الإبن بالأب.

و لقد شعر أوغسطين، لسبب ما، أن المحاجة المضادة لآريوس التي شنها الكتاب الأرثوذوكسيون، ضمنا أفضل لاهوتيي القرن الرابع، كانوا أقل تأثيرا وقوة مما يجب. لقد قدموا تنازلات كثيرة تجاه مبادئ آريوس في أساليب وطرق التفكير. وكانت آخر ثمانية كتب تكتشف إمكانية استيعاب " ثلاثة في واحد " من خلال سلسلة من المشابهات المستمدة من السيكلوجيا البشرية. وكان طرفا الموضوع يتفقان معا ضد الأطروحة التي تربط بين الإيمان والفهم.

لقد رفضت التقاليد الأرثوذوكسية آريوس وعلاوة على ذلك، الفكرة المناوئة  التي ارتبطت بالهرطوقي المجهول ابن القرن الثالث المسمى سابيليوس 8، والذي قال إن الأب والإبن والروح القدس مصطلحات وصفية تعبر عن نعوت وصفات خاصة بالرب الواحد بجوهره.

و الخلاصة، لقد رفضت فكرة أن الأب والإبن والروح القدس إما هي صفات فقط أو ميزات متعدية. وبالنسبة للبحوث الفلسفية التي انتشرت بين غير المسيحيين في ذلك العصر، كان الأمر يبدو كما لو أن أطروحة الثالوث المقدس تتحدى الأفكار العقلانية. ومع أنها تبنت موضوع " الله " كأحجية سامية، إن هذا الاتجاه في النقاش يبدو لنا  أشبه بصيغة غير واضحة، وكأنها تراتيل وعبادات لا ينفذ لها العقل. وكلما تم التطرق إلى الموضوع، كان المثقفون (= أفراد النخبة) يضحكون. 

و لقد بيّن أوغسطين دون أن يألو جهدا أن الطرفين هما واحد، والثلاثة عبارة عن فكرة غير صائبة إذا اعتبرنا أنها مجرد رطانة وثرثرة تعكس الطبيعة البشرية البسيطة للشخصية الإنسانية وتقدم لذلك مثالا مباشرا. وبالاستطراد يتبين لنا أن الوجود والمعرفة والإرادة هي الثلاثي. إن هذه الأسس الثلاث متقاطعة ومتعاضدة ولها أهمية متساوية. وبالمثل، هناك ثلاثي آخر  كالذاكرة  والذكاء  والإرادة، أو العقل والمعرفة والمحبة، أو العاشق والمعشوق والحب الذي يربط بينهما. على أية حال، ليس أيا من هذه الأمور، التي أتيحت لأوغسطين قدمت له سلما يصعد به إلى الله، والذي لا  يتعرف البشر على صورته بواسطة الجسد وإنما العقل (= الروح ) 9  والحرية  و السببية  (= العقل المحض) ووعي الذات. هذه المشابهات ترد على نحو ساحق على النقاد الذين اعتقدوا أن " الثلاثة هم واحد " وترى أن هذا أمر عبثي بلا معنى. ولكن تعقيد ومرونة المعنى هو أكبر من أن يسمح لعقولنا بنقل هذه المفاهيم إلى الله. وإن أقرب وأفضل مشابهة  قد توصل إليها في كتابه الخامس عشر والأخير، وهو عن الوحدة الحميمة للتفكير  والكلام  و" الإرادة "  وعن الاندماج بين المعرفة والمحبة.

" المتشابه " مصطلح، كان لدى أوغسطين ومعاصريه، لا يعني التشابه السطحي، ولكن الشيء الدقيق والرياضي (= الحسابي). في أحد السياقات نبه أن التطرق بالكلام إلى مسألة الله بالتشبيه  تكون شديدة الدقة، ثم تنتهي إلى نتيجة أحفورة شكلية. وإن وحدة الروح وسيروراتها مسألة مفروغ منها وتأتي في مجال المسلمات. ولكنه لم يقر أن للروح ملكات مستقلة أو قطاعات لا تقبل بالتواصل.

على أية حال، تحت ضغط البحث عن " المكونات " أو " السمات المميزة " التي تخص الثالوث المقدس من ناحية الروح البشرية، يمكن للغته أحيانا أن تعتبر أقساما شبه مستقلة عن البسيشة  10  . غير أن الحقائق تغدر بهذه الصعوبة الثيولوجية. ولم يجد مصطلحا يبين بوضوح التمايز بين الأب والإبن والروح القدس. فهم لم يكونوا منقسمين في كتاباتهم حول العالم الواقعي.

و منذ تيرتوليان 11  الذي عاش في نهايات القرن الثاني لعلم اللاهوت اللاتيني،  لم يتحدث أحد عن " ثلاثة هيئات في جوهر واحد " (وهذا المصطلح الأخير لا يتضمن بالضرورة أي معنى مادي). إن " هيئة " مفردة كانت في الإستخدام لأن تيرتوليان وجد في العهد القديم، مثلا السورة 2، فقرات ومقاطع تعامل معها كحوار بين أشخاص دراميين.

كلمة " مادة = جوهر " مفردة اعتقد أوغسطين أنها مقبولة كاصطلاح نوعي يعمل باتجاه التصعيد الميتافيزيقي للوجود، ما دامت من غير ملحقات تفيد أن الله يتألف ضمنا من كل من جوهر المادة والحدثيات. ولكن " ثلاثة أشخاص "  فكرة أقضت مضجعه. الله يتسامى على كل الأرقام ولا يمكن أن نحصيه. وربما بمقدور المرء أن يقول " ثلاثة " من غير الإجابة على السؤال التالي " ثلاثة ماذا ؟" . " ثلاثة أشخاص " مسألة أحاطت بها منذ سالف الأزمنة هالة من تقاليد اجتماعية مقرها الكنيسة، وكان أوغسطين يحترم ذلك في كل من حياته الفلسفية واللاهوتية.

و بتوظيف لغة أرسطو رأى أوغسطين أن مصطلحات الأب والابن هي مفردات تدل على العلاقة. وهكذا افترض أن الثالوث ينتمي إلى مجال العلاقة وليس جوهر المواد. وأن الأب هو أصل أو مبدأ رأس الله، والإبن " معطى " (أي أنه : في علاقته بالأب باطني ومن داخل الوحدة الإلهية وليس له تشبيه مع ما يعتمد على النظام المخلوق حسب قانون الصدفة). وهكذا " تتابع " الروح القدس (مصدر الكلمة هو إنجيل سانت بول).

أما لاهوت اللاتينيين الذي سبق أوغسطين بأجيال (هيلاري من بيوتيرز وأمبروز من ميلان) تحدث عن الروح القدس وكأنها منبثقة من الأب والإبن. وأقرت أطروحة إغريقية في مجلس القسطنطينية مسألة " الانبثاق من الأب "، ولم يكن للمجلس أي تمثيل غربي، وأصدر قرارات قانونية كانت غير معروفة في الغرب.

و هذا قاد إلى مقاطعة النص الذي لم يعرفه الغرب ما يزيد على عشرين عاما بعد وفاة أوغسطين. ولم يكن هناك أي سبب لماذا كان على أوغسطين أن يتلكأ في تأكيد انبثاق الروح من الأب والإبن. وشعر أن هذا الأسلوب في الكلام يحمي الثالوث من أن نفهمه وكأنه ثلاثي غير متساوي الدرحات، ولقد أعطى تأكيدات على واحدية الله تفوق ما قدمه الإغريق في صيغتهم.

و بالتدريج دخلت صيغة أوغسطين في التقاليد العبادية الشائعة في الغرب. وبعد أربعة قرون أصبحت هذه النقطة موضوعا يوسع الهوة بين الإغريق المسيحيين في الشرق والغرب. ودافع الغرب القروسطي عن مفهوم " و- الإبن"  (Filioque) 12  ليصبح في النص بالاستناد إلى السلطة البابوية.

و حتى في القرن السادس عشر، حافظ المسيحيون الغربيون، الذين تراخت علاقتهم مع روما، على صيغة أوغسطين وهي ضد توجيهات النص الأصلي. أما الأديرة الكاثوليكية في جنوب إيطاليا، من جهة أخرى، لم تأخذ بعين الاعتبار الإضافة الأوغسطينية. كان لكتابات أوغسطين عن الثالوث المقدس أثر عميق على المفاهيم الغربية المتتالية التي تهتم بالشخصية. فقد اعتقد بروفيري أن جميع الأرواح لها علاقة في " روح – شاملة 'world-soul'، وكل مصادر الطاقة والحيوية للكون الفيزيائي. واستخدم الأوغسطينيون المبكرون فكرة الروح – الشاملة. ولم ينكر الأوغسطينيون المتأخرون هذا الكيان، ولكن اعتقدوا أن الأوغسطينيين الشباب كانوا مندفعين في افتراض مفاده : " أن الله بالنسبة لنا ليس هذا العالم، سواء بوجود روح – شاملة أو لا . إذ لو أنه حقيقي، فالله هو من خلقه. ولو أنه ليس حقيقيا، يكون العالم ليس إله أحد، ومن الأرجح أنه  fortiori 13  ليس لنا. وحتى في حال عدم وجود روح – شاملة هناك قوة – حية تطيع أفعال الله من خلال الملائكة".

إن تبويء العالم مكانة إله ليست المشكلة الوحيدة. وقد مالت لغة بروفيري إلى تحديد استقلالية ليس مقرها الروح، ولكنها تستقر في التمايز الفيزيائي (= المختلف ماديا). بالنسبة لأوغسطين، كل روح متفردة، ولها قدر شخصاني يخدم أهداف الله. أضف لذلك، رأى أن مفهوم الله في الإنجيل يقف بعيدا عن التقاليد الأفلاطونية بسبب التأكيد على الإرادة، وعلى ما هو إبداعي وأصيل ومتفرد. ولذلك إن المصطلح " شخصاني " لا يعني بالضرورة غير – المادي، الشخصية الداخلية للفرد البشري، ولكن أيضا ما هو متميز وغير مشترك (= غير عمومي). ولقد أطلق بويثيوس 14  تعريفه الكلاسيكي عن الشخص باعتبار أنه " المادة المستقلة للموجود العاقل "، وتم التعبير عن ذلك بالتفاصيل، وكان هذا واضحا في كتابات أوغسطين منذ مدة. لم يكن مفهوم الثالوث الأعلى في قمة هرم الوجود فكرة يمكن لها أن تتعرض طويلا للتقليد من جهة الأفلاطونيين الجدد وذهنهم الفكري من غير السقوط في تشتت خائب وميؤوس منه.

عمل أفلوطين وبروفيري في هذا المشروع، وركزت ميتافيزيقياهم على : الواحد  والعقل  والروح الشاملة. وهذا ساعد في توضيح لماذا اعتبر أوغسطين في (الدين الحقيقي) الأطروحة التي تنص على أن الله هو الثالوث هي الحقيقة والتي تستقبل بسهولة العقل الفلسفي (= العلة والمعلول)، بينما التقمص يمكن استيعابه فقط في تحقير الإيمان (= العقيدة). هذه النقطة تعكس تمسك أوغسطين على الافتراضات المسبقة المسيحية بطابعها والتي تؤّل  التيار التاريخي غير المرتب كأنه مرحلة من الاندماج الذاتي self-disclosure بالمقدس :

إن كلمة الله الحافظة للإنسان مندمجة، من نقطة مفصلية وعقدية، في حياة التاريخ الشخصي، وهي منظورة في المجتمع المرئي والتاريخي. وكان الأفلاطونيون موجودين مع أوغسطين، مع أنه لم يعتقد أن الخلاص يرقد في تجريدات (= اختزالات) أبدية. ولذلك كان بحاجة إلى نظرية تاريخية تنجم من وتشكل امتدادا لـ التعبير عن الإدانة الدينية المركزية، وهذا تفسير دلالي يقدم في نفس الوقت تبريرا للإيمان المتاح على الرغم من كل الكوارث التي تصيب الخبرات التاريخية، وعلى الرغم من لا إمكانية تبني أي شيء غير تقدير عميق للظرف الحالي الخاص بالطبيعة البشرية.

لقد تعامل مع التاريخ كموضوع عن المعرفة بـ هذا – العالم (scientia) المتمايز فعلا عن الحكمة العليا (sapientia) . ولكن الانفصال الأفلاطوني بين العالمين : الإحساس والعقل يمكن التغلب عليه بتطبيق المفهوم المسيحي للتاريخ على أنه سلم طقوسي يستخدمه الله، وبه يسمو بالروح من الحياة النشطة إلى الحياة المندمجة، من الزمني إلى الأبدي، من خلال مسيح التاريخ الذي أصبح يسوع العقيدة. وهكذا علينا أن نمر من خلاله على نفس الدرب إلى رؤيا الأبدية غير المتبدلة.

 

.................

هوامش المترجم:

1 – بروفيري Porphyry : فيلسوف روماني . من أتباعه آمبليخوس السوري وسواه.

2 – المقصود الرسالة الأولى لكنيسة كورنثوس المذكورة في العهد الجديد. وقد ورد فيها ما يلي : ولا يجوز للرجل أن يغطي رأسه لأنه صورة الله ويعكس مجده، وأما المرأة فتعكس مجد الرجل. ص 232 من الإنجيل المقدس، منشورات دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، بيروت، 2004 3 – مونيكا : أم القديس أوغسطين.

4 – هيبو Hippo : المدينة التي توفي فيها القديس أوغسطين.

5 – كاسيسياكوم Cassiciacum: (وتدعى حاليا باسم كاسياغو)  فيلا خارج مدينة ميلان، كان يجتمع فيها القديس أوغسطين مع أصدقائه للتدارس في شؤون الدين ودور العبادة.

6 – هيلاري : رجل دين مسيحي عاش في فرنسا بين (315 – 367).

7 – آريوس : قائد مسيحي، من الإسكندرية. أنكر قداسة المسيح واعتبر هرطوقيا.

8 – سابيليوس : رجل دين روماني مسيحي من أنصار فكرة (الأب على درب الآلام). عاش في القرن الثالث وأسس مدرسة تنشر أفكار الأب الذي يعاني.

9 – منعا للالتباس وضعت إشارة (=)  لأدل على ترجمة مرادفة للكلمة الأساسية التي وردت في النص. والمشكلة في مثل هذه النصوص التي تفسر الكتابات الدينية بمنهج فلسفي أنها تتمتع بازدواجية في المصطلحات . مثل الإشارة إلى العقل والروح بكلمة mind ، والعقل والسبب بكلمة reason  . وكما يقول إمام عبد الفتاح إمام في ترجمته لكتاب الوجودية من تأليف جون ماكوري : كان هيغل يحيل إلى التجليات الكثيرة للروح أو العقل (انتبه إلى الترادف بينهما . الملاحظة للمترجم) حين يفضي نفسه بطريقة جدلية من الوعي الحسي الساذج في أبسط مستوى، إلى الإدراك الحسي والفهم وعدد كبير من صور الوعي، حتى أعلى الأنشطة العقلية والروحية (ص 23 – من الترجمة). وأود أن أشير أيضا أن كلمة المادة تدل أحيانا على الجوهر أو المضمون غير الحسي وتقابلها في النص كلمة substance   وأحيانا matter.

10 – البسيشة : هي الروح الخالدة لدى فلاسفة الإغريق. ولكن ببساطة ربما تشير هنا إلى النفس أو السيكلوجيا.

11 – تيرتوليان Tertullian : كاتب مسيحي يكتب باللاتينية،  عاش في الفترة (160 – 220).

12 – Filioque : كلمة تدمج كلمات لاتينية لها معنى (ومن الإبن) . وهي تدل على انبثاق الروح القدس من الأب والإبن. ومع أن الكنيسة في الغرب اعترفت بهذا المبدأ منذ القرن الرابع، لم تعبر عنه في عباداتها حتى القرن الحادي عشر.

13 - a fortiori : لسبب أرجح. سبب أقوى.

14 – بويثيوس Boethius : (480 – 524) فيلسوف ورجل دولة روماني.

هنري شادويك : (1920 – 2008) مفكر بريطاني ورجل دين. كان عميدا كاتدرائية الكنيسة اليسوعية في أوكسفورد. من أهم أعماله بواكير الفكر المسيحي والتقاليد الكلاسيكية (1966)، الطقوس والكاريزما (1976)، القديس أوغسطين (1991)،  الكنيسة في بواكيرها (1993)، الكنيسة في مجتعات كنسية (2001)، الشرق والغرب (2003).

 

المصدر:

Chadwick, Henry. Augustine : Creation and the Trinity.Past Masters series. Oxford University Press. 1986.

الترجمة : 2009

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1271 الثلاثاء 29/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم