قضايا وآراء

قراءة في رواية "أعراس العزلة" للحبيب المرموش .. الكـتابة لمغـالـبة العـجـز

مجزأة إلى جزئين " زقاق 1" و"ثقوب"، والأكيد أن لهذا التقسيم دلالته و هو يرصد لحظة التحول في بناء شخصية الراوي .

 

وقد قدم الرواية  مصطفى الكيلاني وبين في تقديمه أهمية الكتابة في مغالبة العجز، واقتران الكتابة بالتذكر وإن تحولت صور الذاكرة إلى كوابيس . فعبر مكاشفة الذات وتفصد المعاناة من الجروح عند الوعي بها شعوريا، تخوض الذات مغامرة الإفصاح عن أزمتها في قالب حكائي . فالكتابة بهذا المعنى هي لحظة الوعي بالسقوط إلى القاع وتلمس المعنى الكامن، الروح العميقة في متاهات العتمة، إنها مخاطرة رهيبة كشف عنها الرواي في الفصل الأول (حكاية الحكاية) / مبرزا خوفه من مازوشية فعل الكتابة وهي تراوده وتقتحم عزلته، بعراءها، وتكشف له أوراق الذاكرة ورقة ورقة، وكلما عرته كما عن لها، تكشف عن سوأته، فتنخره حالة من التيه، أشبه باعترافات اللاوعي في شكل أحداث مقيتة يعود الراوي لسردها " لكن أصابعي كانت ترتعش وتسقط الكلمات من فجواتها الصغيرة " ص8 .

 

 ويبدو الراوي كقناع لشخصية الكاتب وتمثيل له  حيث أشار مصطفى الكيلاني في تقديمه للرواية : " ولأن الحبيب المرموش مهوس بعشق الكتابة هوسه بكراهية العالم الذي ينتمي إليه حد الشعور التراجيدي أحيانا كثيرة بالقرف، فقد حول القبح إلى جمال والفظاعة إلى تناسق هو لا شك "جمال القبح" حينما تسفر الحكاية على نقيضتها، فتلتوي السبيل، تتشعب كي تفضي في زحمة أفعال التذكر إلى زقاق خافت رقيق يمتد ويتلوى يرتفع وينخفض، يتواصل وينقطع بعد أن أضحى الشر مرجع القيمة في الموصوف الحكائي ..." ص4 .

 

فهو يتعرض إلى إشكال في عملية الكتابة : تقيؤ الكاتب للقبح والتعبير عن مأساة قبح العالم الخارجي بلغة خلاقة ومضيئة، لا تجمل القبح بقدر ما تعكس جمال الذات والتطهر من حالة الغثيان عبر الكتابة . فالكتابة بهذا المعنى تصور لمأساة القبح كما وصفها لورانس " البيئة القبيحة التي لا معنى لها ولا شكل لها، والمثل العليا القبيحة،والمعتقد القبيح، والمحبة القبيحة، والأزياء القبيحة، والأثاث القبيح، والمنازل القبيحة .. بينما الروح الإنسانية تطلب الجمال الحقيقي وتشتاق إليه حتى أكثر من شعورها بالحاجة إلى الخبز" ...

 

الراوي في "أعراس العزلة" لقيط نشأ بين أحضان أم آثمة، وفي غياب الأب، عاش في بيئة لا تشدها حلقة القيم، فقد تهرأت وأضحى القبح متلبسا بكل شيئ، وتحول الإنسان إلى جان وضحية، وأضحت المرأة كائنا مغتصبا، تغتصبه كما عن لها منذ طفولته الأولى وذلك ما سبب له القهر والشعور بالتيه والضياع، وتضحي بيئته الضيقة ( هو والأم) نواة للتعفن، يلتف بها الجار محمود ( عشيق الأم) وابنته نجوى ( مغتصبة الراوي وهو في العاشرة من عمره) .. ويتحول الواقع إلى كابوس خانق، يجتث الحلم وحركة التحرر في ذات الراوي . فيجد في الكتابة المرفا الآمن، العالم الذي يجعله يعي ويستشعر مأساة القبح وطعمها المقرف رغم عسرها ...

 

"هذه ليست حكايتي إنها حكايته، حكاية كنت أخاف أن أرويها، أخاف أن تمتد مخالبها إلى جسدي ولكنها تراودني وتطن في رأسي بعنف غريب "ص8 . وتبدأ لحظة الكتابة من خلال ليلة العرس .. الزواج من إمرأة قبيحة بحثا عن جمال كامن، ليكتشف أنه أمام جسد متعفن فقد رحيقه ( البكارة )، وعبر هذه اللحظة يتمثل الكابوس بضراوته، وتستحيل الكتابة إلى حلم يصارع العجز والقهر .. إلى جمال يستبدل " النفي المطلق" للجمال كمعنى " إن كل هذا يولد الإحساس بأن ما يبعث على الكآبة والانقباض قد تغلغل في أعماق الأشياء بأسرها والاستبعاد التام لبهجة الحياة " حسب لورانس ..

 

وما الكتابة بهذا المعنى إلا هدف مثالي وارتفاع عند الوعي بالسقوط الذي يحتمه الالتفاف بالوجود الاجتماعي والمادي . فالسقوط في وحل القبح ما بعث لديه الرغبة في الخروج من الشعور بالفضاعة : " ترنحت جحافل المرارة في كيانه، ونما الحنظل على شفتيه وتوزع في رأسه نبيذ النهاية، فهجم عليها بكل جنونه وغليانه وبيده اللحاف إلا أنه تعثر فسقط . رفع بصره، فإذا بلحظ أحدهم يسحقه وضحكات الصبية تلسعه كما السياط عبثا حاول النهوض ..." ص29 .

 

ولكن الكتابة اقتحام للبيئة القبيحة بكل أماكنها وشخوصها وملامحها وإدراكها حسيا (الصورة والرائحة) وتصوريا (التصور الذهني) لهذه البيئة . لذلك ينتقل الراوي رفقة الغريب - والغريب هو ذاته -  كظل له داخل هذا الواقع " وكأن الأحداث والشخصيات تتجمع وتتفسخ أثناء فعل التذكر لترتد إلى الذات الساردة وتتشكل حسب التقريب كي تستقر مجازا في صورة ذلك الزقاق الدال واقعا على درب الوجود " حسب مصطفى الكيلاني .

 

إن أعراس العزلة - زقاق واحد - وعي بأن القبح قد يتشكل في قالب حكائي فني وجمالي، وتصوير لانحدار الإنسان نحو التيه، وتحويل الأوجاع وعذابات النفس وخدوشها وعلاماتها إلى شكل فني في لحظة تصوير الواقع بأزقته الضيقة وروائحه المقرفة، وبقيمه المنحدرة إلى التفسخ ويتحول الشر إلى مرجع للفن، لانفصام النفس عن إحساسها الرومنسي بنقاوتها وهي تكتمل برحيق الجمال . كل ذلك لن يفسر كما ذكر مصطفى الكيلاني انتصار الكتابة على الجمال الكاذب لفائدة القبح الصريح . فتصويرالكتابة للقبح ومكاشفة النفس وفعل التذكر ارتفاع إلى الجمال . وبذلك تستحيل الكتابة كما ذكر لورانس إلى قوة إبداعية .

 

وتتداخل سيرة الكاتب مع سيرة الراوي غريب في الجزء الثاني - ثقوب -  من الرواية، وتتقاطع معها في ركائز نفسية وتاريخية واجتماعية لنستكشف الخيط الرهيف الرابط بين أنا الكاتب والأنا الراوية . ونستخلص أن السيرة الذاتية ليست مجرد استقاء تفاصيل الماضي أو سرد الندبات والخدوش العالقة في قاع الذاكرة لتقديم قراءة حول الماضي، حول علاقة الذات بذلك الماضي، وحول إرث الماضي الثقيل الجاثم على النفس كتسلط جائر، فتكون الكتابة نوعا من تحرير الذات من الخيوط العنكبوتية الملتفة بها في المتاهات المعتمة .

 

ففي أول الرواية يقدم لنا الراوي الأول كصحفي يكتب سيرة الآخرين، ويقدم حصصا إذاعية تكشف عن ذائقته الفنية، في التعامل مع عظماء الإنسانية المسكونين بهوس الجنون الإبداعي: "أنا الحبيب المرموش:  ناقل هذه السيرة أعترف.." ص14، ثم سرعان ما يمضي إلى الحديث عن سيرته باقتضاب ( 6 صفحات تقريبا )، وقد استدرك عند تقديمه للرواي " كل تشابه في الأسماء أو الألقاب أو الكني أو الأحداث في الرواية لا يمت بصلة لأحد . فهو محض خيال " في حين أن الرواية زاخرة بالصور الاجتماعية التي تعود بنا إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، كما أن المواقف النفسية، تكشف عن مخلفات الكبت والقمع جراء التسلط البارز في صورة الأم .

 

ومن أهم التصديرات التي انتقاها الكاتب لإضاءة ملامح روايته عبارة لهنري ميللر : " لقد نجح رامبو مثل إبليس أن يجعل نفسه يطرد من السماء، سماء الشباب . لم يهزمه ملاك، لكن هزمته أمه التي تمثل له السلطة . وهو قدر استلم له منذ البداية . فالشاب اللامع الممتلك كل المواهب والمحتقرها يكسر حياته فجأة إلى نصفين " .

 

والانشطار بين شخصيتي الكاتب والراوي، يبرز الانشطار بين شخصية عاشت وقائع اجتماعية في حيز تاريخي معين، وشخصية تسترجع تلك الوقائع وتشكلها إبداعيا، وبذلك تنتشل تلك الصور من الموت وتبث فيها الحياة . ومن ثمة تتشكل السيرة الذاتية كشكل فني يقاوم رواسب الماضي، وينحت حياة أكثر جدوى، هي تعبير عن التمخض الإبداعي الدال على الأخطاء والجنون والخروج عن القطيع، فذلك ما خلق لنا الحياة " حسب نيتشة . والحياة التي يمنحها الكاتب لشخصياته ( الغريب وصالح ) لا تقل عمقا ونفاذا وأخطاء عن الشخصيات الفنية والفكرية التي يقدمها في برنامجه الإذاعي (رامبو - بودلير - بيرس - لوركا - كافكا - بوشكين - ديكنز - ويلز - شوبان - بيكاسو - ديفنشي - سيزان - دالي - دولا كروي - مونة - توسو - فن غوغ - بونيير - انجلو - هوميروس - أسخليوس - بيرس - هوغو - ملاراميه - صاند - موسيه - فولتير - فلوبير - صافو - ريليكيه - موباسان - شكسبير) والقائمة تطول وهي تضم سيرة العباقرة المهوسين بالإضافة الفنية. 

 

فالحياة لا يمكن اكتشافها من خلال بناء الشخصيات فحسب، بل بالتعبير عما يجول في بواطنها من طاقات خلاقة في التعامل مع الواقع تعامل الصعاليك الخارجين عن النواميس الجائرة ومحاولة رتق الثقوب الكامنة في أعماق النفس بحركات لا مبالية ومتواطئة ضد الواقع الذي لم يعد مرغوبا فيه .

 

وانفصال الكاتب عن الراوي، هو إطلاق العنان للمكاشفة عن ما يجول في أعماق النفس  من خلال حيلة نفسية إبداعية هي التعويض، وكأنه ينبش الغبار عن الغربة النفسية التي يعيشها الإنسان في واقع يطمس خياله ووعيه الإبداعي . واستعاضته بالراوي هو تأويل لمرحلة تاريخية قد عاشها رفقة جيل عاصره، اتخذ له رمزا يمثله (صالح) وهو بذلك يستند إلى التجربة والتذكر حسب "قوسدوروف"، وتندرج هذه الرواية ضمن هذه النظرة القائمة على خلق أنا مبتكرة تضاف إلى الأنا التي عاشت التجارب وتذكرتها، وما خلق الأنا المبتكرة إلا عملية إبداعية خلاقة .

 

الخطاب الذكوري والترميزات الأبوية

تتقاطع تجربة الكاتب وتجربة الراوي في تجسيد تجربة الغربة في غياب الأب، فقد تحدث الكاتب عن حال والده إثر تسخير المنزل لصالح المصلحة العامة لإقامة مقهى على أنقاضه، وبما أن هدم المنزل هدم للهوية الاجتماعية وترميز لهدم نظام سلطة الأب، فذلك ما سبب ذله وانكساره : " عندما وصلنا رأينا حشدا من الناس يتجمعون ويتفرقون . كان البيت مهدما بالكامل وأغراضنا فوق الشاحنة وعيون الحكومة ترمقنا . شتمهم أبي .. صرخ ... تجمعت رغوة بين شفتيه .. بكى .. تمرغ في التراب .. صاح فيهم :

- مصلحة عامة يا كلاب ..

 

حملونا في ذلك اليوم المشؤوم إلى بيت آخر حاولوا إخماد النار اللاهبة في أعماقنا لكن النفق كان ضيقا وطويلا ومليئا بالظلام . مرت سنوات . تسلقت عظامنا ببطء عنيد، فلم يعد أبي يحتمل الحصار . لم يعد يشعر بالظلم واليأس فقط وإنما بالذل والهوان ينشران ظلالهما في قيعان قلوبنا " ص17-18 .

 

من هذا النفق المظلم، أضحت الشخصيات أشباحا، تزور القارئ ككائنات هلامية عنيدة ومتمردة، تصطبغ أفعالها بالجنون، وتكشف عن بعض العجز الكامن في طياتها، ولكن في غياب صورة الأب، يضحى البحث عنه بحثا عن الهوية الثقافية وعن سلطة الجذور، وعن تركيز النظام الأبوي  . ومن ثمة يحمل الراوي غريب وزر هذا البحث الذي لم يؤد إلا إلى المجهول وغياب الأفق إذ يستحيل البحث عنه كالكشف عن جثة ووري عليها التراب في مقبرة الحياة: "أبي لم يهرب .. أبي ليس جبانا .. أبي شامخ في صمته مثل صومعة قصر الرباط .. أبي لا تهزمه النكبات .. سيعود يوما أبي .. لا بد أن يعود يوما أبي "، وذلك التعلق المرضي بالوهم / ما جعل غريب ينساق وراء هاجس العثور على الأب " مصطفى مردوم رجل كاد أن يذبح فرحتي بين أحضانه . رجل وعدني أن يبحث معي عن أبي لكنه في الحقيقة قد خدعني " ص159

 

صورة المرأة في ظل الايديولوجيا الأبوية

تنحرف صورة المرأة في الرواية عن الصورة المشرفة للمرأة التي رسخها الفكر الديني من خلال النصوص التشريعية (القرآن والأحاديث النبوية)، ويسقط تمثالها الإلاهي المقدس وتتحول من رمز ومثال وهدف أعلى إلى أقصى حدود الدونية، ويتحول حنانها إلى قسوة حتى وأن الراوي وهو يبحث عن أبيه بين ردهات الجامع، وأنصت إلى خطبة الإمام عن الأم قال في سره إن الإمام يكذب " وأنا ساجد أفرك جبيني بقصب الحصير، دعوت الله أن يأخذ أمي وأن يعيد لي أبي، رجوته أن يضعف بصري حتى أحتمي من نظارات الهزء بنظارات مثل نظارات خالتي ثم تذكرت حمادي الزميلة فقلت في سري لعله مازال يشخر هناك تحت السارية فلم أسجد في المرة الثانية "، ومرد ذلك الشعور مخلفات القهر والانكسار المحفورة في نفسه جراء قسوة الأم التي تتضخم وتزداد كلما قام بفعل متمرد يجرفه إلى الماضي الأبوي " مضت أيام وأنا أسرق نقود أمي وأشتري الصلصال وأكدسه في غرفتي، لقد عاد لي غرامي القديم فمنحته كل وقتي وتفكيري، وانهمكت أشكل وجوها عديدة لرجال كبار بملامح مختلفة، كنت أبحث عن وجه أبي بين هذه الوجوه الغريبة، وحين لا أشعر بميل نحو أحدها، أعجنها وأعيد تشكيلها من جديد وأنا أبكي في داخلي ولا شيء يسكن وجع نفسي، عندما فهمت أمي ما أقوم به ، انتفخت أوداجها ونهتني، ثم نهرتني، ثم طفحت ملامح وجهها بالشر وضربتني .. وحين لم ينفع معي أخذت صلصالي ورفسته تحت قدميها الكبيرتين .. شتمتها في سري طويلا، رفعت يدي إلى السماء ودعوت عليها أن تموت".

 

إن مرد قسوة الإبن ما جرعته له الأم من مرارة حين دست إصبعه بقوة وداسته في جمرات الكانون ليكف عن عادة امتصاصه: لقد صور الخوف الذي تحول إلى عذاب نفسي، وإلى التعثر في النطق جراء الخجل، وإلى العيش في عالم وهمي في غرفته المظلمة وهو يحاور خيالات ووجوها اخترعها، وهو ينذر بدخوله النفق الذي دخله والد الكاتب في أول الرواية حيث وصف معاناة الأب إثر هدم المنزل : " ظل يحاول أن يبرز مخالبه، ثم يعيدها إلى الداخل وينزوي في غرفته، يحاور أطيافا غريبة سرعان ما ينهض ليبصق على وجوهها المرصعة بتلك العيون الثاقبة القبيحة، ويصرخ ممزقا ستار الظلام: يا أولاد الحرام، الآن ... كل الأبواب مقفلة " ص18

 

إن الآثار النفسية العميقة المتسمة بالضعف والإحباط والتحاور مع الأطياف ثم نبذ الوجوه التي أضحت أقنعة تحجب وجه الإنسان الحقيقي أثناء الشعور الحاد بغياب إنسانية الإنسان، ما جعل الشخصيات الذكورية تعبر عن قرفها من هذا العالم الاجتماعي الخارجي الخالي من الحنان والباعث على الشعور بالتيبس والتحجر، وسبب هذه القسوة المرأة التي لبست قناعا تواري به ضعفها وهي تواجه عصرا جديدا وواقعا جديدا، في حين أن القدرة على السيطرة على وضعها مفقودة، فاستعاضت بالقوة، ولبست وجها متسلطا لا يتماشى مع صورتها الإنسانية، في حين ان حنان الأم وتفهمها ترميزات تؤشر إلى بناء الذات الذكورية على صورة صحية لتحقق ذاتها، وذلك ما استشفه غريب حين سرق جهاز "الهارمونيكا" من المونوبري واتجه إلى المقبرة، معتقدا أن الأرواح تنهض على عزف الموسيقى وايقاعها، فما كان من أمه إلا أن حطمت الجهاز بالمهراس، فداست على نبضات قلبه الأخيرة . 

 

الكتابة لمغالبة العجز

تختلف الكتابة عن نقل التجارب الحياتية لأنها توجه الحكي وفق تشكلات الذات الإبداعية التي لم تعد تكتفي باجترار تفاصيل الماضي، بل تنطلق منه لبناء عالم فني، يتميز بقدرات وفنيات لغوية تراود المعنى وتروضه، وتلوذ إلى أعماق النفس، وأغوار الواقع الاجتماعي لتنشأ نصا قادرا على التحول إلى وثيقة فنية، ترتفع بالإنسان، وتجعل القارئ يستشعر المتعة والدهشة والروعة، إذ يتداخل الواقع بالرمز والتاريخ بالحاضر، والوجه بالقناع، والعجز بالقدرة .

 

ولن نغوص في البحث عن السيرة الذاتية في هذا النص الروائي لأن الحبيب المرموش بدا واعيا أن هذا " الجنس الأدبي " يبرز قدرة اللغة على الإفصاح والتجريب . وعلى بناء نص ذاتي، مخالف للسائد . فهو لا يعكس الحياة إلا ليحولها إلى تجربة فنية خالصة، ولعل ذلك الوعي هو نتاج لعملية الاكتشاف الأولي التي نقلها لنا الراوي غريب : " قرأت الكتابة المرسومة بالخط الكبير الملحق الثقافي والأدبي لجريدة العمل، تأملت الصور الصغيرة حذو العناوين، لن أنسى ما حييت الهادي نعمان، ويوسف رزوقة، وعزالدين المدني، ومنجي الشملي، ومصطفى الكيلاني، ومنور صمادح،وجمال الدين حمدي، وعروسية النالوتي، وزبيدة بشير، لست أدري لماذا انفضت الأوراق وذهبت أجففها تحت قرص الشمس . لكنني في المساء عندما أدخلتها إلى "سيدي المحارب " وفتشت داخله أنقل بعض أبياتها على جدران قبته الصغيرة، أقرأ وأعيد وأضيف وأشطب وأغير من مواقع الكلمات حتى استقامت في ثوب بهي أينعت ثمراتها في رأسي، أيقنت أنني على وشك اكتشاف شيء جديد، فسعدت نفسي وأنا أهدي قصيدتي الأولى إلى قلبي المقهور وأتساءل: كم مرة مت؟ كم مرة ولدت " ص146 .

 

الرواية يمكن معالجتها من خلال عدة قراءات تاريخية، نفسية، لغوية، جمالية تبرز قدرة الكاتب على تعرية النفس، ومساءلة التاريخ، ونقد السلطة المستبدة، وتحليل أسباب العجز ومظاهره، والأهم من ذلك الاقتراب من روح الشخصية  وإكسائها بألوان إنسانية تبرز الشدة في مغالبة الضعف ولكنها تستعيض بالكتابة في مواجهة الشدة  لأن الكتابة تمنح الراوي والكاتب (الشخصية الاعتبارية) المجال لتشكيل وجهه الذي ظلت كل حركاته ومواقفه غير قادرة على تشكيله وسد فجوات العجز وثقوبه .

 

..........................

(1) أعراس العزلة، رواية من جزئين، للحبيب المرموش، صدرت عن دار الإتحاف للنشر2005، الطبعة الأولى .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1275 السبت 02/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم