قضايا وآراء

الكتابة والوجود (6)

به فإنه لا يقطع اتصاله بالآخرين ولو جهل مصدر دائرة السوء والخطر إلا انه عارف بالموضوع الذي جعل منه غرضا للسهام المجهولة وقد يكون عارف بمرسلها في الحالتين.

 الكاتب يعطي وجهة نظره معايشا الآخرين الذين عرفهم  وأحتّك بهم  أو الذين لم يعرفهم ولم يلتقي بهم وهم أصناف وألوان مثل الكتابة.

إن في الآخرين رغبة لخلق الإعاقات لذات الكاتب، يتحولون من خلالها إلى عقبات تشل من تغييره الوجودي، تجمح إرادته ووعيه على تحقيق مشروعه، الآخرون يبدعون في العراقيل يقتربون كثيرا إلى حالة الإفلاس الوجودي حين يمثلّون الإعاقة بأنواعها وخاصة الفكرية وحين يكون طموحهم الرديء النعش لحرية الآخرين.

الكاتب يتطور في ذاته في فكره لأجل تجاوز تلك الإعاقات والعقبات لا يلتفت إليها أبدا، محاولة منه للعلو والارتفاع عن ذاته ليذوق بعض ثمرات طريق الكمال الذي لا كمال له وليعفو عن   السلوك والفعل الظالم المقترف في حقه إنها التعاليم الدينية السمحة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم  "...وأعفوا عمن ظلمك...". فالكاتب محاولة منه تجاوز بركة الماء الراكد لأجل تأمين نفسه عدم الانغماس في الصغائر، محاولة وهروبا ووانفلاتا ونجاة بغرض التمكن من رسم صورته موقفا حرا.

الكتابة سبق لذات صاحبها علوا عليها، علوا على قيدها  وحبالها؛ ليعيش للآخرين في ذاته فهو لا يمنح وجودهم في ذاته  إلا غربلة للأصيل من الزائف ؛ الكاتب الحكيم والمفكر لا يسمع اللحن الجميل للأغنية فقط بل يجب عليه تكرارها مع الفرقة ليضيف للآخرين صوته لأنه في الأصل هو مؤلفها الوحيد.

إنه الآنية مع الآخرين عند هايدجرـ الوجود مع ـ وهو الاتصال مع ياسبرز 1لأننا نعرف الغير من خلال مقارنته بأنفسنا2 أو الخبرة والتجربة التي نكتسبها من خلال التعامل معه (الخبرة وحدها ليست طريقا لليقين) لأننا لا نستطيع معرفة الغير معرفة حقيقية وتظل معرفتهم احتمالية فوحده الله يعلم السر وأخفى ويعلم ما في الصدور، وكلنا يعلم بحادثة القتل التي وقعت في عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم: حين قال للقاتل "كيف ستلقى ربك بلا إله إلا الله؟"  قال : لقد قالها وهو مكره فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم" هل شققت على قلبه ؟".

يستطيع الكاتب التغيير في الآخرين  وسيكون  سعيدا إن تحققت أمنيته وتحققت إرادة الله في التغيير من خلاله أما إن كان خلاف ذلك فالذي يكتبه ويذيعه على الآخرين مغايرا لحقيقة جوهره فيصير فضحا بفشله ويتعرى أمام وجود الآخرين ؛ الوجود الفارغ هو المتعلق بوجود سلطة ما لأنه كما يقول كانط ( أداة في دولاب).

إن ضرورة العلاقة بين الكاتب والآخرين مطلب إذ لا يمكن أن تكون هناك حرية إنسانية بغير وجود هذه العلاقة3 كما ذهب إلى ذلك فيخته فالعلاقة تكشف عن نقيضين الذاتية والموضوعية الذي يكشف عن الحرية الإنسانية والتغيير الاجتماعي والتاريخي ليس له مكان إلا على أساس هذا التناقض4 فالحصول على الذات وفكرتها لا يتأتى إلا من خلال الاحتكاك بالآخرين وانبعاث الذات نحو الآخرين ومعهم آخذة بمرجعيتها ومواقفها، لأن اختيارها الذاتي لا يتحقق إلا بمساعدة الآخرين.

الكتابة فضاء متسع من عطاء معاني ومعارف جليلة شريفة متقاطعة منسجمة متداخلة والوجود خيط أزلي لا ينقطع وإن سقط وجود أحدنا كما تسقط الورقة من الشجرة في الحديقة الكبيرة وكما تسقط النوتة من لحن طويل؛ إننا نحن البشر مادة مكدّسة تحتاج إلى هيكل ليتحول تطورنا وتغييرنا إلى بناء معنوي سليم.

الكتابة تأخذ من المتراكم وجود الآخرين الذين شغلوا أوقات نفع بوجودهم لا ضررا.

 عملية الأخذ( الإملاء والإفراغ) تعريجا إلى أعلى إنه البناء على القاعدة الأولى قاعدة الابتداء  من موضع المعارف والعلوم ممن تقدمنا.

الوجود لا يتغير إلا إذا تمت عملية الإفراغ والإملاء، إفراغ لأجل الإملاء. كما أخبر الله عزوجل:" الحسنات يذهبن السيئات" والمجتهد الذي لم يصب له أجر الاجتهاد كما في الحديث الشريف، والتصحيح مَحْيّا للأخطاء ورسما للمنحرف لتحسين المستقيم وأن تعمل الكتابة في وجودها على هذا النهج محاولة وتمزيقا  وتخطيا.

سنة الله الإتيان لأجل الإنقاص وحدّا للوجود لأجل وجود آخر مساوي؛ إنه مبدأ  الكثرة إلى القلة والقلة إلى الكثرة بعللها( الشيء بعلته وتسخيره لا عبثية) صعودا نزولا ، نزولا صعودا( حبل في بكرة) فالذات تهبط لتأخذ من النزول مادتها ومقارنتها التي تبني علوها الشاهق، ارتقائها أكثر، النزول للزاد لأجل بناء مساحة أخرى جديدة لاتساع آفاق ذاتها، فلا يعرف الذنب إلا التائب النادم والمتعلم  فثمة وجود؛ والتوبة لا يعرفها المذنب الجاهل فثمة غياب للوعي والذات معا.

 

2 ــ الإنسان لا منعزلا ولا منفردا

 الإنسان ليس منعزلا ولا منفردا عن الآخرين  ولا عن الواقع ومهما أراد أن يكون فلن يكون إلا ملتقيا مع غيره من الناس؛ فلا توجد حياة مستقلة عن وجود الآخرين ــ فكرة الوجودين ــ ومع هذا فإن الاتصال  بوجود الآخر يترتب عليه تزييف وتشويه وتجميل وتمويه أيضا وكلما أقترب أكثر كانت حدة الملاحظة أكثر في ذاك التغيير ؛ الآخر يريد أن يلزم سلوكياته وقناعاته عن غيره ونحن بدورنا نبحث عن ذاك الإلزام لنلزمه غيرنا ، هناك من يبحث عمن ُيلْزِمهُ سلوكياته  ويخطأ في وجود الآخرين  فيصطدم بعنوان خاطئ ويحدث ذلك التشويه أو التمويه  والتجميل بحسب قوة الوجود  الذي يمتلكه كلاهما ، حينذاك فقط يكون التنازل  من أحدهما  لقلة الدليل وضعف المعرفة في وجوده أو تعنّت ورفض وجود الآخر  فيعمد إلى  البحث عن وجود يتقبل سلطته وفي هذه الحالة  هو الانحراف  والخرق  للتجاوز؛ فالوجود الكامل الأصيل  يخرج  من هذه الدائرة من خلال ثغرة الجمهور  والكل بالتعبير الهايديجري من أجل تحمّل عبأ المصير  والتصرف في الوجود بكل حرية.

الكاتب مفكرا وفيلسوفا وأديبا يلقى التوبيخ من رجال الدين على اختلاف مذاهبهم، يلقى تكفيرا من جهات كثيرة، يلقى تعنيفا ومضايقة من سلطة ما، يلقى صدودا وأذى من (الشريك، الزوجة...) من الآخر " العائلة" من الآخر القريب:" الجار، زملاء العمل والمهنة المترددين على الأماكن الخاصة نوادي ومؤسسات ثقافية، السوق...) إلى الآخر البعيد (المجتمع ككل) وهذا بحسب درجة الاقتراب من الآخر وحتى عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والالكترونية  بصفتها تصنع سلوكا جديدا من خلال ما  يكتبه الكاتب وما يوقظه من الأفكار من خلال فكر جديد وعلى حسب درجة الاقتراب من الآخر يكون حكم الناس عليه قاسيا إن لم يفهموا الحقيقة على وجهها الصحيح وما أراده الكاتب من ذات الآخرين.

الكاتب الشاعر بوجوده تفرض مواقفه وجود الآخر ومن خلال بحثه عن الحل للأسئلة التي يضعها  ليكتشف من خلالها ذاته  ويمتلك حقيقة ماهيته وشعوره الدائم بالخطر المهدد له  من خلال الاضطهاد والتخويف والضغط الذي يواجهه من هذا الآخر وحشة ووحشا  في حياته الواقعية والعقلية والنفسية على حد سواء (الآخر أصناف من البشر).

 ما يقاسيه من المشكلات يراها إعاقة ، وقوف الآخرين ضد نهضة ونبوغ في التقدم ، وقوف على تعزيز القيد  لمنع  التحليق نحو أفق حريته فرارا من وجعه الذي لا يشعر به كثير من الناس.

 الآخر يتحول إلى الاغتراب  يحياه بكل قسوة ومرارة، إنه يرى الاغتراب حافا بالآخر الذي يقترب منهم في مواقفه وقد يراه في الآخرين( العامة بصورة قد لا يرونها  هم في أنفسهم  أو لا يحسنون التعبير والتعامل معها).

الاغتراب سببه الفشل الذريع في الوصول بذاته بوجوده إلى وجود الآخرين الذين اختاروا بدل التوافق معه الاختلاف  والصراع المقيت.

الكتابة تظل تبحث عن الحيلة عن حركة تتيح لكاتبها علاقات جديدة قائمة على المشاركة الايجابية بعيدة عن الاضطهاد والعنف والكتابة بهذا المعنى هي الفكر والعقل ومدركاته.

إن وجود الآخر حاصل في تفكيره لأنه وجود إنساني، لأنه يحد من حرية المفكر والفيلسوف لانشغاله بالتفكير في إيجاد حلا لمعاناته أو تحليلا لظواهره والآخرين بصورة عكسية.

 كذلك يرى الآخرون في الكتابة وصاحبها بكل أصنافها  فكرا وفلسفة حدا من حريتهم حين تمنحهم فكرا  وسبيلا وطريقا  لحياة  وجود أفضل  فيجدونها خرقا لما ألفوه من وجود إما  يتغير بصعوبة أو برفض هذا  الذي يراه حدا من حريته فيوقعون الكاتب مفكرا أو فيلسوفا  أو أديبا في اغتراب جديد. ولكي يتجاوز وجودهم يعمل على تحقيق ما أكده أبو حامد الغزالي في كتابه "التفرقة بين الدين والزندقة» حيث قال: «إذا صدر عن إنسان كلام يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، يحمل على وجه الإيمان» كم نحن بحاجة لهذه الحرية وهذا الوجود العقلي وهذا التسامح وقبول الآخر.

 

الكاتب لا يختار وحدته وانعزاله إلا إذا هرب وجوده من وجود الآخرين لكنه يظل وجود الآخرين في وجوده. وهذا يمنحه اختيارا جديدا لنفسه لتغيير وجوده.

ارتباط الكاتب بالإنسان الذي بداخله وارتباطه بالإنسان الذي يعرفه والذي لا يعرفه؛ الكاتب مفكرا لا يصنع قدر الإنسان ولا يحدد له مستقبله كيف يكون، ربما قرّب إليه الصورة المبنية على واقع قائم أمامه لا غير، ولأن الكاتب الأصيل يبتعد عن تشكيل صور الآخر من خلال الجنس والعرق   والديانة ومستوى العيش وإلا وقع في الاستبداد الذي يحد من خلاله حرية الآخرين فتتغير وظيفته من كاتب متحرر وجوده على موضوع أداة تسلب الآخرين حريتهم من خلال إدخال الآخر في خانات تحديد الجنس والعرق والدين  ليتجنب من خلال ذلك ما يريد تأكيده سارتر" إن الآخر شكّلني من حيث أنني أصبحت وجودا خاضعا لهذا الوجود الجديد5"  ولو أن عمر الفاروق رضي الله عنه سبقه حين عاتب الأب ودافع عن وجود معنوي أصيل لحياة نفسية سليمة للولد، عتابه للأب بتسمية الابن باسم لا يليق بكرامة الإنسان ووجوده.

لقد قال سقراط اعرف نفسك بنفسك وهي دعوة  قائمة  لأجل الاستعانة  بالذات لمواجهة تهديد الآخر الذي يتقاسم معه المكان وتربطه معه علاقات الرجوع إلى الذات والاستغناء عن الآخر إلى حد معرفة حقيقتها عن يقين ومن ثمة الدخول إلى وجود الآخر أو تقبل دخول وجود الآخر دون الخوف من التأثير بذاك الخطر. فكرة التغريب مثلا.

الكاتب حين يفهم حقيقة وجوده يجد تميز الذات عن الذوات الإنسانية الأخرى ورغم التميز يبقى وجوده  بين وجود الآخرين  لأن ذوات الأغيار موجودة مثلها ، يبنون  لها وجودها .

 لا يمكن للكاتب أن يفهم وجوده دون الآخر لأن شعوره بوجوده هو شعور منحه له الآخر ولو تصورنا أن هناك آخرون منعزلين مثلما ذهب إلى ذلك هايدجر في تحليله الانطولوجي.

إن العزلة  يعتبرها مارتن هايدجر غيابا مؤقتا عن الآخر على نحو تكون فيه صلتها بالآخرين ضرورية لكن هذه الصلة لا يجب أن  تجعلها موضوعا بين الناس6

و الأنا خاضعة باستمرار لضرورة الاعتماد  على الآخرين في الالتزامات المشتركة للحياة اليومية فإن الآنية  كائن محايد لا شخصي وهي الواحد من الناس والناس يلغون المسؤولية الخاصة  لحساب المسؤولية المشتركة لتصبح المسؤولية ليست مسؤولية أحد بالذات  فكل واحد هو الآخر ولا أحد  هو بذاته chacun est l’autre et personne n’est ceci ، وهم باعتبارهم  كذلك  يؤلفون الوجود الزائف7 .

في هذا العالم يتحول الكل إلى شيء  أو إلى موضوع  وحتى وجود الموجود الذي هو وجود بالاشتراك  يصير شيئا من بين الأشياء8 أما كارل يسبرز في تعبيره وجود الكتلة l’existance de la masse لدلالته على سيطرة الدهماء ( غير المفكرين) على الحياة وعلى المعايير يرى أن مثل  هذا الخطر  أنتشر بدرجة شديدة في ظروف المعيشة المجاورة  للمدينة الصناعية والحضارية وهو يعرضها في كتابه" الإنسان والعصر الحديثl’homme et l’epoque moderne .

إنها مشكلة الآخر تبدأ من وجودي ، الآخر يكشف عن وجود الآخر  الكوجيتو الديكارتي العلاقات الوجودية بين الذوات وليس عن العلاقات المعرفية.9.

 

3 ــ الكتابة والعداوة

الواقع ليس كما يعتقده بعض الناس  بنية حسنة توارثوها من أسلافهم الذين نهلوا من سماحة المعتقد الديني  أو من العرف الذي فرض تعاونا وتضامنا لا نظير لهما بسبب الظروف الاستعمارية التي واجهوها وبسبب أجناس المحتل الذي تعاقب على البلاد العربية.

لقد صار تنازلهم عن رغبتهم في الحاجة  لصفات طبيعتهم اللازمة كما كانت من ذي قبل فصارت تلقى إهمالا وإغفالا تارة مبررة وتارة غير مبررة فهي لم تعد ثابتة في جوهر الفرد والمحيط به؛ لقد كانت الحياة تستحيل دون التعاون على معرفة الضرر الذي يشتركون فيه قبل تقسمهم وتفكك الروابط التي تجمعهم . إن روح الاجتماع التي كانت قائمة على الأرحام والأنساب لم تعد كما كانت  نتاج سيطرة قوانين العولمة والحداثة على القيم المتوارثة لأن العلاقة التي فرضت حقيقة الأمر الواقع هي الثروة والملكية والدخل وما هذا التصارع والتشاحن والاقتتال والجريمة إلا الانحطاط المتسارع للأخلاق  بعدما كثر التخاذل وبُغض التآزر.

إن المجتمعات الحديثة أثّرت على الطبيعة الإنسانية تمدنا وحضارة كما كانت هي ذاتها تحت تأثير سحر حضارات كثيرة  فعملت على بلورة حضارتها وخرجت من نفق ظلماتها من مجتمعها الطبيعي إلى مجتمع مدني تحتكم فيه إلى القانون وإلى روح العقل بعدما كانت أسيرة الكنسية والملوكية والارستقراطية الفاضحة الظالمة؛ تطورت بعدما غيّرت في الذهنيات وراجعت مشروع وجودها من خلال ثوراتها التي كانت إلهام كتابها ومفكريها وفلاسفتها من أمثال جون لوك  إلى جون هوبز وجون جاك روسو.

مع هذا لا يزال فاصل زمني كبير لكي تتخلص الدول المتخلفة من رواسب تاريخية أعاقت تحركها.

لقد كان تأثير الحضارة الغربية والأمريكية على الدول المتخلفة كبيرا، الدول التي ظلت وقتا من الزمن تحتكم في صراعاتها وقوانينها إلى القبيلة والعرق وإن كان هناك تغييرا ظاهرا يصنعه بعض الأحرار من العالم بما ينظّرونه ويدعون إليه في كتبهم ومن خلال أفكارهم لكن يبقى أثره جانبيا في ظل سيطرة مبدأ القبيلة والعرق وصلة العائلة وعقلية الصحراء وشيخ القبيلة وكبير العائلة.

حتى أن التغيير الذي تتباهى  به الأنظمة التي تحكم بقهر وبقبضة من حديد وبمؤامرات تغيير لا يشبه التغيير الحادث في القارة المتحضرة؛ فالتغيير هناك  يعمل على منح كثير من الحرية حتى يتاح الإبداع ومهما كان  أثره سلبي على مستوى الفرد والأسرة ولو كان تخلفنا يمنح لنا حجة القول أن تلك الحضارة تتفَككُ في مفاهيم  الأخلاق الروحية في مركزها، إنها حجج واهية لتبرير عجزنا وآسفاه فالفساد الأخلاقي  توأم...

إن حضارتنا التي يسكنها شبح التخلف لا هي احتفظت بأصالتها ولا انطبعت بتطور يفرضه الزمن والرحلة الضوئية.

 

من هذا المنطلق هل بدأ فعل الكتابة من القدم وصاحب كل عصر بكل سيئاته وايجابياته؟ ولو أن لكل عصر خصوصياته وظواهره أليس ذلك نقد فلسفي واجتماعي وضريبة عداوة ونفي وقتل وتشريد يقدمها صاحبها جراء كشفه؟

 

يعمل الكاتب على وجوده فعليا لأجل ائتلاف المجتمع كضرورة تقام على قيم معنوية في ظل إغراء العوامل المادية والمناصب والامتيازات وتفشي الظواهر الخلقية المقيتة من حسد وبغضاء وجريمة التي تزداد من خلالها  درجة الصراع لأجل المراكز العليا والثروة الكبيرة في ظل الاستبداد وانعدام العدل حتى لا نقول انعدام  الديمقراطية؛ وإن هذه الصفات لتخلو من العقل والتفكير بل يرافقها الخداع والكذب والأنانية إنها الحيوانية.

إن الانحطاط والوجود العبثي يتصل بقسمين قسم متعلق بالجاهل الذي تكون شروره أقل من مكائد العالم أو المتعلم الذي يتفنن ويبرع في حياكة المؤامرات والشر والضر للآخرين وبطبيعة الحال سيكون المطبّق على مسرح الأحداث الجاهل وحده لا غير؛ كالذي يتصدى لضربات العصي بأيدي الآخرين.

الكاتب الحقيقي وجوده حقيقي لا يخضع للزخرف ولا إلى  ما يجنيه من مستهلك مادي يثقل معدته وشهوته منفلتا من حقيقة عمله التي تحتم عليه وقوفا في وجه الاستبداد والتخلف، متحديا الفكرة التي تشغل المركز لأجل الخبز والطمع.

وجود الكاتب الحقيقي معاكس الوجود الزائف ينهل من الأخلاق والعلم والمعارف الشيء الكثير ولا يشبع حتى يتمكن بذلك من تحليل ظواهر عصره، بالمقابل لا يتسرع في الإنتاج،  فواجبه أن ينتج كثيرا مختلفا عن الكثرة  التي لا نفع من ورائها  التي تخدم الوضع القائم للفساد والاستبداد  لا غير.

الكاتب يوازيه العامي الذي يأكل الكثير ويستهلك مظاهر الحضارة دون أن يشبع ويقلد لا غير دون أن ينتج، الكاتب الحقيقي بوجوده الفعلي يعرّج على هذه العقبة لأنه يبحث محاولة وأمنية على تأصيل النافع وبعث الأخلاق التي يترفع عنها أصحاب القوة ويصحح مفاهيمها التي هي عند العامة تعني الرضا بالذل على أساس انه مكتوب مقدر في غياب الحظوة وعلى أساس أنها متاحة في ظل غياب العامل المادي والقوة كمهرب وتقية للوقوف في وجه القوة والاستبداد واتخاذها جبة للزينة في انعدام الزينة الأخرى.

إن الجبة لا تصنع حلاّجا جديدا والقبعة لا تصنع محاربا بطلا ولا العصا تصنع نبيا ولا العمامة تصنع فقيها ولا ربطة عنق وقلم أنيق يصنع كاتبا ولا حافظا للشعر يصنع متنبيا؛ الكاتب الحقيقي من يكثر عليه الكلام السيئ أو حتى لا تذكر الألسن سيرته على الإطلاق مخافة سحر تفكيره على العقول  كما يوهم الأوصياء على العقول المغيّبون على العقل، ومن أتيح لاسمه الظهور فسأله لتسمع منه المعاناة التي تعرّض لها ولا زالت مستمرة على مستويات عدة مادية معيشة إقصاء ومعنوية تغييبا لذاته وعقلية ترهيبا.

وجود الكاتب الفعلي الذي عبر عنه محمد إقبال رحمه الله في رسالة الخلود : " أأنت في مرحلة الحياة أم الموت أم الموت في الحياة؟ أنشد العون من شهود ثلاثة كي تتحرى حقيقة مقامك، أولها عرفانك لذاتك وثانيها معرفة ذات أخرى والثالثة المعرفة الإلهية فأنظر في نور الله فإن كنت ثابت الروع في حضرته فاعتبر نفسك حيا باقيا.

 والخلود أي شيء هو؟ ليس سوى شاهد يؤكد حقيقة مقامك".

الكاتب الحقيقي عدو الجميع عدوا لهواه، لنفسه ابتداء بتعريضها للانتقادات، للخطر وللغضب والـلعنة ؛ عدو نفسه للعقاب الذي يناله ولو لم يسئ في مجتمع المسيئين؛ عدو للآخرين  الذين يضر مصالحهم ويخالفهم في الرأي ويكشف أباطيلهم وكذبهم ، وخداعهم ونواياهم الخبيثة،  عدو الجاهل والمتعلم على السواء حتى ولو كان شريكه فيما يمارسه من تفكير وكتابة.

كل كاتب نافعا للمجتمع عدو مضر لفئة من المجتمع، هذه الفئة التي تعمل على الخداع والانتفاع وتمكين السلطة والقوة لنفسها ولمحيطها وتابعيها  من خلال استغباء الفئات الأخرى.

وجود الكاتب حقيقي ولو كان عدوا فعليا لكل ما هو مضر، على عكس الآخرين أعداء كل نافع مباح لأجل الاستحواذ عليه وجعله أداة للتحكم واستعباد الناس.

إن عداوة الكاتب الحقيقي زائلة لأن وجوده أصيل بمجرد ما تزول علة الضرر والفساد تزول عداوته لأن عداوته يرافقها العقل والفكر.

الكتابة مظهر فكري في الغالب وهي لا تخضع لما يفرق، فعداوتها لكل الظواهر على ما هي عليه من دين وسياسة وفكر واجتماع وأخلاق ولذلك تركيزها على الفهم العميق لوجودها يعرضها لعداوة شرسة؛ إعلانها عن التصور المثالي وتصوراتها في حياة أفضل عادلة؛ إنها تعرض صاحبها لحياة وحيدة ، لواقع الهامش وبغض الأقوياء له وأصحاب النفوذ والمطامع المتحابين على سلامة ما يملكون والتصادق وإظهار محبتهم لبعضهم ونكرانها لمن يخالفهم.

عداوة الكاتب يتلقاها شرا وحربا خفية ومعلنة لأنه يشغل مهنة الذبابة المناوئة والبعوضة المحتقرة البغيضة المستصغرة بنظرة استكبار يتلقاها على الصعيدين الهرمي والقاعدي ، السلطة بكل مظاهرها والعامة بكل أصنافها، هو العدو المحذور لأنه يعمل على التأليب والإرشاد على ما ينفع ويدفع ما يضر ولو جهل الآخرون عمله لصالحهم لا لأجله.

العداوة التي يعلنها من خلال بحثه عن تأصيل رابطتهم وإيضاحهم بالذي يرأسهم  سيكون مرؤوسا على الأصعدة المختلفة، أن يحثهم بمطالبتهم بحقهم في الكفاية والحماية بقانون  يكون أساسه محترما مقدسا لا يخضع للعشيرة ولا للقبيلة ولا للعائلة ولا يعرف الاستبداد.

إنه الكاتب الحقيقي الذي يمنحهم عينيه ليرون بنظرته حتى لا تغتصب حريته بداعي التقويم والإصلاح والخير والوصاية لإفقاد حريتهم وجعلها أداة في يد تمنحهم الفناء المؤقت في حياتهم.

إنه الكاتب العدو الرافض للانغلاق على ذاته ومواجهة الظواهر بكل شجاعة ورفضا أن يكون ملكا لنفسه؛ يترفع عن هذا المستوى ليمنح وجوده لكل الذوات ، إنه يملك ذاته حقيقة لكنه لا يعزل ذاته عن الآخرين خوفا ولا هربا ولا طمعا، ينعزل لا منشغلا بذاته بل منشغلا بمستويات الأسئلة التي تقلقه والضمير الذي يؤنبه ويتمنى يا ليتني ما عرفت كما تمنى سقراط، ويا ليت يدي قطعت كما قال ابن المسيب، وليتني أخرج من هذا الأمر لا لي ولا علي كما قال الفاروق رضي الله عنه. تمتلئ النفس بذاتها كما قال ياسبرز وتنشغل بها بنفس المعنى الذي يكون فيه الوجود يساوي الموضوع.

يستطيع أن يجيب الكاتب عن نفسه من يكون  إذا كان مع الآخرين في معتركهم وهمومهم، ويفتخر بحرية تقتضي أن يكون هو نفسه لا متغيرا حين يلجأ إليه الآخرون أو يلجأ هو إلى الآخرين لأن الحرية تنطوي على الشعور بحضور الغير من أجل تحقيق ذاتها فالآخر يمثل حالة العشق ، أليس من العشق يأتي الهلاك والخطر؟

الكاتب عدو  متصل أو غير متصل بالآخرين ولو أن اتصاله مؤقت محددا على العموم، هو منفصل عنهم في التفكير الذي يتخطاهم وفي العمق الذي يحفره في ذاته تكفيرا عن أخطاء قد صاغها أو صنعها أو خطيئة واقعها أو أوقعوه فيها، إنه يمارس انفصاله في الوقت الذي يحصّل السر الذي يفوق طاقة الآخرين ولا يمكنه المغامرة بنفاذه في عقول لا تقبل مبدأ الأخذ ولا تمنح مفتاح دخول لأبواب عقلها الذي ملكه مؤوّلي النوايا حتى لهذا الكاتب الذي عرف سرهم.

ينفصل الكاتب عن الآخرين  حين يتخلون عنه ويصير وحيدا، يوجد من جديد حين يجدد اتصاله بالله وينفصل عن غيره تقوية للذاتية الحقة وتقربا من المطلق والفضيلة.

يعرف الكاتب أنه عدو وأن اتصاله بالآخرين في الغالب تشويها لتغير في وجوده، إنه يتصل بالله ليسمو ففي اتصاله ذلك توجيها نحو الكمال الذي لا يكتمل والحقيقة التي تعينه على تشويهه مع الآخرين.

الكاتب عدو وهو سيد مصيره، لأنه ببساطة يمكن أن ينفذ مشروعه أو يتخلى عنه ويحيا كما الآخرين، يمكنه التحول أو الكفاية من التحول في ما ارتضاه لوجوده، ومع قدرته على تجاوز وضعيته المقهورة والملعونة والتي لا تسر أحدا فهو قادر على الوقوف في أشد الأوضاع حرجا وقهرا مقاومة صبرا ولو معدما من كل شيء إلا من برميل وكيس خبز كما فعل أوجين مع الأسكندر الذي لم يطلب منه إلا أن يتنحى عن طريقه لأجل شعاع الشمس الذي يحجبه عنه...

 

.....................

المراجع:

1ـ سعد عبد العزيز حباتر مشكلة الحرية في الفلسفة الوجوديةص 157

j.p sarre.l’etre et le néant.op.pp310/367

rogergaraudy.clefs pour le marxisme.op.cit.p66

4 ـibidp66

5 ـ sartre.l’etre et le nèantop.citp276

7 ـ مطاع صفدي مارتن هايدجر والكينونة ص10

8 ـ من الوجود الزائف الى الوجود الأصيل الدكتورة فريدة غيوة حيرش الفصل الثالث العلاقات الوجودية مع الغير ص132 مطبوعات جامعة منتوري

9 ـ martin heiddeger.l’etre et le temps.trad rudolph bohem et alphonse de walhems.op.cit.pp205/206

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1277 الاثنين 04/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم