قضايا وآراء

ِأسطورة العصور الوسطى: الاكتشافات الفلسفية: المسيحية واليهودية والإسلام *

 الداخلي الفلسفي للقرون الوسطى عبر معالجته أعمال الفلاسفة اليهود والمسيحيين والمسلمين الذين وظفوا قدراتهم وإلهاماتهم الخاصة في هذه المرحلة لتقصّي حقيقة الكون. كانت هذه المجموعات الفكرية الثلاث نادرة الاتصال فيما بينها، ومع ذلك فإن بعض الفلاسفة المتأخرين مثل موسى بن ميمون (Maimonides) استفاد ممن سبقه (أبو حامد الغزالي)، وكذلك فعل توما الأكويني Aquinas أيضا مع سلفه "موسى بن ميمون" المعروف أيضا في الغرب باسم "Rabbi Moses."  ويؤكد مؤلف كتاب"ملحمة العصور الوسطى" ريمي براغ - وهو محق في هذا- أنّنا بتنا قادرين على معرفة التبادل الغني بين هؤلاء الفلاسفة الأمر الذي لم يكن متوافرا لدى هؤلاء إلا نادرا . وعلى الرغم من ذلك، يدعونا الكاتب إلى  المشاركة في تلك النوعية من الحسّاسية التي دفعت إلى إنجاز هذا العمل المقارن الذي اتسم بالسلاسة الكبيرة لاحتفاظه بالأسلوب الرسمي للمحاضرات الأصلية.

إن سعة اطلاع الكاتب قد تجعلنا نتهيّب ونجفل إلا أن الفهم الذي أظهره المؤلف للموضوع سينير الطريق للمبتدئين والمتخصصين الذين يرافقوننا في رحلة إلى عالم ساحر. وكلما مضينا في الرحلة أكثر وأكثر ذكّرنا مؤلف الكتاب بقوّة أن ما نرغب اليوم في رؤيته حوارا بين هؤلاء كان بالنسبة إليهم نقاشا أخذ صفة المناظرات والمجادلات العنيفة(199-202).

نجح المؤلف في توظيف التأملات التأويلية المعاصرة hermeneutics وأدوات متطوّرة أخرى من مكتسبات العصر الحديث ليأخذنا بشكل حاذق إلى عالم القرون الوسطى بطريقة تساعدنا على خلق الوعي المطلوب لفهم "الآخر" بما يعيننا على تقييم حدود فهمنا بشكل أفضل.

والحقيقة أن ذلك النشاط المترابط الذي يمكننا من فهم أنفسنا كلما أردنا فهم الآخرين قد نجح في رسم حدود الرحلة حيث ينطلق بنا الكتاب. لهذا يمكن أن توصف مادة الكتاب بأنها تمرين في فهم الذات سهّله غنى الأمثلة التاريخية التي استخدمها المؤلف بشكل بارع.

إن فهم الذات وفق التوظيف الذي برع فيه الكاتب موجّه أولا باتجاه الفلسفة نفسها، فالإذعان لنفوذ من ساهموا في القرون الوسطى يمكن أن يكشف لنا محدودية -وحتى قصر النظر- في فهمنا نحن لهذه الحقبة التاريخية. ويذكر الكاتب كيف أن الظرف كان قد دعاه إلى ملء فجوة من ثمانمائة سنة كان غيابها في المنهج الفلسفي الذي يدرس في الجامعات الفرنسية نشوزا كبيرا، وكيف وجد نفسه بعد انتهائه من هذا العمل، يقول: " كنت و مازلت في مجال الدراسات الفلسفية الخاصة بالقرون الوسطى جديدا ومبتدئا وغريبا جدا"(8, 25). هذا الاعتراف يسمح لنا أن نقر بأنّنا جميعا مبتدئون في هذا البحث وأن القادمين الجدد الراغبين في المشاركة في رحلة الاكتشاف هذه ومن ضمنها اكتشاف الذات سيلقون الترحيب المناسب. (كنت دائما ممتنا لفريز زميرمان Zimmerman  الذي نبهني إلى هذا الأمر قبل ربع قرن يوم تخرجت في أكسفورد بمشروع أولي على شكل دراسة مقارنة) .

إن الميزة الإيحائية للتأملات التي نثرها براغ في كتابه تترك للمرء أن يكون لحوحا في طلب العلم  لكن بلطف.

خذ على سبيل المثال كيف عالج الكاتب التضاربات التي أحاطت بمشروع الترجمة في العصور الوسطى، يقول براغ:" تتميز المجتمعات بأسلوبها الفريد في التواصل مع الآخرين "(163). فقد تعلّم الغرب من اليونانيين عبر العرب الذين يمكن أن نعدّهم"الورثة الشرعيين الوحيدين لليونان" (166). وعلى الرغم من أن " العالم الإسلامي ترجم الكثير، وأن العرب ربما يستحقون أن يقال عنهم إنهم مخترعو الترجمة إلا أن المسلمين لم يتعلّموا اليونانية"(168). هذه المناقشة المليئة بالفروق البسيطة ستعزّز أطروحة براغ المشهورة أيضا حول الأصول المغايرة(غير الأصيلة) heteronymous لأوروبا: كل ما له قيمة جاء من مكان آخر: ظهرت المسيحية من اليهودية، والفلسفة من المصادر الإسلامية، وهكذا.

ويرى براغ أن هناك سمتين للتبادل الفلسفي: هما التنافر والتجريب، وقد هيمنتا على أعمال تلك المرحلة في أغلب الأحيان.

أما السؤال عن نوع البحث الذي يستحقّ اسم 'فلسفة' في تلك المرحلة فيشير براغ إلى أن الحقل المعرفي episteme الذي حمل ذلك الاسم مرّ بنوبات أو تقلبات متنوّعة، محيلا على بيير هادوت Hadot الذي تحدث مطولا دور "الرياضة الروحية" في الفلسفة الهيلينية. وهو دور نجده في الفلسفة الإسلامية أيضا إذا ما استثنينا الشخصية المحورية لابن رشد Averroës- وعدنا إلى الوسط العربي والفارسي عند السهرودري، وابن العربي، وملا صدرا.

وحول هذه النقطة يبدو براغ غامضا إن لم يكن صامتا بشكل يثير الفضول مكتفيا بالإحالة إلى أطروحات هنري كوربان على وجه التحديد. أود أن أقول هنا إنه كانت هناك- بعد مساعي كوربان الرائدة- مساع لآخرين نبهوا إلى الكيفية التي اغتنت بها 'الفلسفة' الإسلامية بما سمي:"الرياضة الروحية" دون أن يلزموا أنفسهم استعمال مصطلح 'الحكمة الإلهية' *theosophy. (من هؤلاء أخص بالذكر دراسة جون ويلبرج Walbridge وحسين زياي Ziai عن السهروردي ، ودراسة وليام شيتك Chittick وسلمان بشير Bashier عن ابن العربي؛ ودراسة جيمس موريس، وسجاد ريزفل  Rizvl، وسيسيليا بونمارج Bonmariage عن ملا صدرا).

أعتقد أن هذه العودة من الفلسفة الإسلامية إلى الوسط، وخصوصا إلى بلاد فارس والثقافة الشيعيّة، تمثل تحولا واضحا للنظام المعرفي "episteme " باتجاه تشكيل علم لاهوت فلسفي.

أما تقييم المؤلف السريع للنقاش الذي دار مؤخرا بخصوص تسمية هذا المجال "فلسفة عربية" أو"فلسفة إسلامية" فقد بدا لي نقاشا معقولا إذ يقول: "يبدو مقبولا الكلام على "فلسفة إسلامية" بشرط أن نفهم 'إسلامية' بمعنى الإشارة إلى حضارة لا إلى دين"(70). فإذا نظرنا في الدراسات التي أشارت إلى استعمال ابن سينا  للحكاية مثل دراسة بيتر هيث Peter Heath عدا الدراسة المقارنة التي قدمها مؤخرا أفيتال وولمان Avital Wohlman عن ابن رشد والغزالي نراها جميعا تشير إلى مسار روحي غني لازم مسار البحث في الفلسفة الإسلامية. ولذلك السبب يلزمنا أكثر من الفطنة المنطقيّة للوصول إلى فهم كاف للحجج المستخدمة في نصوص هؤلاء.

دائما ما تعكس 'الفلسفة' الثقافة، وتشكل موضوعا من موضوعاتها. ولو فكرنا في الحركات القريبة منا كالحداثة وما بعد الحداثة، والطرق والاتجاهات المتعدّدة التي خرجت من هذه الحركات لفهمنا أطروحة براغ المزدوجة عن العلاقات بين الثقافات وأعني كلامه على "الاحتواء" و"الهضم" – وهي آليات رأى روبرت سوكولوفسكي Sokolowski أننا نلجأ إليها إن أردنا أن 'نلخّص' الآخرين لإيجاد طريقنا الخاص بنا: كما فعل الاكويني Aquinas مثلا عندما لخّص أرسطو وشكل ميتافيزيقياه الخاصة. ولا شك في أن تعبيرات مجازية مثل "الاعتماد" و"الاحتواء" و"الهضم" تظل مفيدة في توضيح الجهود الخاصة التي نقوم بها ولكنها تبقى فارغة إن لم نقم نحن بأنفسنا بهذا الجهد.

إن فاكهة هذه الرحلة التي قادنا فيها براغ بهذه البحوث البنّاءة constructive  والتفكيكية deconstructive في آن معا هي أن ندرك نوعية الوعي الذي تطلّبه البحث عن الجوهرة الثمينة' للفلسفة الإسلامية' التي انطلقت بالترجمة ثم بدأت بالتحول إلى أشكال جديدة. ففي كافة المواقع التي مرت بها الرحلة -الأنثروبولوجيية والفلسفية الخالصة- يمكن أن نتعلّم شيئا مهما حول "الفلسفة" وأعني بذلك تسليم قيادة الرحلة لمثل هذا الشخص"المبتدئ". ولقد نبهت عبر هذه المراجعة إلى بعض الطرق الملتوية في الرحلة؛ أما الطرق الأخرى فأفضل للقرّاء اكتشافها بأنفسهم، لأن نصّ براغ يتمنع عن كشف نفسه بسهولة.

 

الترجمة عن الانجليزية أيمن حمودة - الأردن

...................

* تأليف ريمي براغ Remi Brague، مطبوعات جامعة شيكاغو، 2009 ،مراجعه ديفيد بوريل /جامعة نوتردام

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1277 الاثنين 04/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم