قضايا وآراء

قراءة في رواية فالس الوداع لميلان كونديرا

فأن ادلجتهما وتجيرهما لصالح الأفكار والمحاور السياسية أصبحت من الأمور البديهية، بحيث كليهما الأدب والفن – المساير والمعارض – أصبحا رديفان لكل حقبة سياسية أو معيارية أيدلوجية..

في رواية" فالس الوداع يوجد منحنى فكري هام شغل العالم لعقود طويلة ولحد ألان وهو الصراع بين الفكر الماركسي الشيوعي.. والفكر الرأسمالي اليبرالي .. في فترة الحرب البارده..هذه من ناحية، ومن الناحية الثانية إنها تطرح أفكار ما بعد الحداثة، واختلاف.. وتلاقي.. هذه الأفكار مع الفكر الماركسي والفكر الرأسمالي اليبرالي..والسرديات الكبرى ألأديان السماوية..والايدلوجيات المختلفة..

في رواية فالس الوداع علينا ونحن نتوغل في عوالمها أن نتوخى الدقة وتحليل نفسية شخصيات الرواية و الانزياحات السايكلوجيه التي تعكسها إرهاصات وتصرفات شخصياتها ..كذلك تحليل البنى الاجتماعية لهذه الشخصيات وأثرهم وتأثيرهم على صيرورة وسيرورة مجريات الأحداث الواردة في الرواية .كذلك نتناول الأختلاف مابين الحداثة ..وما بعد الحداثة ..في الرواية..

بدأ "ميلان كونديرا " روايته بكلمة "حل الخريف " وكلنا يعرف ماذا يعني الخريف ..أنه بداية النهاية..ولكن أي نهاية ؟ هذا ما سنتعرف عليه في تحليلنا لهذه الرواية .وهل تتلائم هذه النهاية مع شخصيات هذه الرواية .. من الناحيتين النفسية والاجتماعية ..؟ وماذا تقدم هذه الرواية.. للحياة بصفتها جنس أدبي أنساني..

حل الخريف ..على ذلك المنتجع الصحي الصغير وهو" النبع" ومعظم نزلائه من النساء العقيمات كذلك يعالج الاعتلالات القلبية، وتمثل فيه النساء تسعة أعشار النزلاء، إن هذه النسبة العالية من النساء تحنق الممرضة "روزينا " وهي شابة ولدت في بلدة " النبع " ..وهي تقوم على رعاية العقيلات المجدبات طوال اليوم، وان والديها لازالا في بلدة "النبع" وتسأل هل بمقدورها الهرب من ذلك العش المزدحم بالنساء ..وأنها على علاقة بعازف البوق "كليما "الذي زار النبع قبل شهرين مع فرقة موسيقية وقد اهتم بها كثيرا وباشرها في الفراش ..لمدة ساعتين ..ومن خلال هذه المباشرة أصبحت حامل ..وقد أخبرت "روزينا "" كليما" بالهاتف إنها حامل .هذا ما اخبرنا عنه الروائي في الصفحات الأولى عن هذه الشخصية . كما أعطانا وصفا للنبع على انه مكان للخلاص .. بطريقة ميتافيزيقية..

إن طبيعة المرأة التي تطمح دائما لاستمرار الحياة ..ومن خلال حب الحياة ذاتها، والإنجاب وتلطيف الأجواء .. و "روزينا" ..التصاق سيرتها " بالنبع "وهو مأوى للعقيمات ..أرادت وبغريزة الانثى ..أن تثبت خصوبتها وقدرتها على الإنجاب ..حتى لا تلتصق بها تهمة العقم الرديفة للنبع ..وهذا هو السبب المنطقي لعلاقتها مع "كليما "..لأنها بعد تأكدها من حملها ..تحولت إلى مرحلة "الفضح الذاتي " لذاتها من خلال مطالبتها بأبوة الجنين الذي في رحمها من "كليما "، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إنها شخصية" انطوائية" .. اتضحت لنا من خلال سير احداث الرواية .. ذكر المؤلف في صفحه " 41" ان والدها كان عضوا في الجمعية المدنية لمحاصيل المواطنين،وكانت الهيئة الطبية للنبع تسخر من هؤلاء المحاربين ذوي الستين أو السبعين عاما بدواعي تجمعهم وجلبتهم الطنانة،وكانت روزينا"خجلة من انضواء أبيها تحت لواء هذه الجماعة كما إن من مهام هذه الجمعية الحفاظ على نظافة البلدة من براز الكلاب، ونظافة البيئة بصورة عامه..

لا يوجد مبرر لخجل "روزينا" من والدها لأنه منضوي لهذه الجمعية،علما إنها ولدت في مجتمع اشتراكي وتربت وترعرعت في هذا المجتمع ..!؟ وهذه النشاطات مسألة طبيعية في المجتمعات الاشتراكية ...

إن ما طرحه كونديرا بخصوص موضوع خجل" روزينا " من انضمام والدها لهذه المنظمة لم يكن دقيقا..ففي هذه الفترة الزمنية،وهي فترة الحرب الباردة .. إذ أرجعنا المؤلف إلى الماضي..وهنا مشكلة في البعدين ألزماني.. والمكاني في الرواية، لأن المعسكر الاشتراكي وتحديدا في أوربا، في هذه الفترة الزمنية كان متطورا صناعيا.. وجميع وسائل الزراعة ..تنفذ.. بالطرق الميكانيكية.. بل كانت من الدول المصدرة للمكننة الزراعية ..ولكن كانت هناك حالات استثنائية.. عندما تكون وفرة في المحصول تساعد بعض المنظمات والاتحادات الشبابية بمساعدة الجمعيات ألفلاحيه في عملية الحصاد..

 وإن هذا العمل في الفكر الاشتراكي..يعتبروه تكافل اجتماعي ..وعمل خلاق..

فقد رسخ كونديرا الاواقعية في المشكلات الاجتماعية والسياسية.. ولم يتوغل في القوانين التي تتحكم في الواقع ..بل إنه تجاوز الواقع ..وكأن الواقع لديه مجموعة من الصور الفوتغرافية..وهو بذلك يرفض الواقعية الاشتراكية..

كيف نفسر المعتقدات الغير عقلانية في بريطانيا وأمريكا عند الشباب المضادة للملونين!؟

إن لم يكن هناك تعزيز ومؤثرات ..سلبية من قبل ذويهم وبعض المؤسسات في المجتمع ؟ إن أطروحات علم الاجتماع توضح إن الطفل يعتنق معتقد والديه إن كان هذا المعتقد دينيا أو قوميا أو سياسيا أو أعراف اجتماعية،وإذا لم يكن الأمر كذلك، ولا يوجد مؤثرات.. سلبية وتعزيز لها، لأصبح العالم بدون تطرف ولا تعصب في جميع المجالات التي ذكرناها سلفا، وهناك عشرات الأدلة الناهضة والبراهين في هذا المجال... إن علم النفس أعطانا تعريف لا يقل أهمية عن التعريف الأول عن الاتجاهات،" تنشا وتتكون بعد النضوج العقلي أثناء التعلم المقصود وإكتساب المعرفة والخبرة ..من الأمثلة على الاتجاهات هي مواقف الفرد من المثالية والمادية،نحو الخير والشر،نحو الحق والباطل"1"

 في هذه الحالة نحن أمام جدلية خاضوا غمارها مفكري الحداثة منذ نشؤها إلى هذا اليوم، وتطرح أمامنا عدة تساؤلات من أهمها،هل إن الفرد يمتلك حريته بالفطرة ويرسم مستقبله ومصيره ..وأن الإفراد هم الذين يؤثرون ويوجهون المجتمع ؟ أم إن المجتمع من خلال القيم والمعايير والمعتقدات هو الذي يوجه الإفراد.؟ وبهذا نرى إن" ماركس .. ودركهايم" يرون إن ألبنى في المجتمع إنما تتشكل بفعل تفاعل تبادلي .. ويرى "ماكس فيبر" إن بوسع الفرد ان يتصرف بحرية ويرسم مستقبله..إن ما يثير الانتباه في هذه الجدلية.. المدرسة التفاعلية الرمزية: "والتي ترى إن الإنسان ليس صنيعة المجتمع فحسب بل صانعوه في الوقت ذاته.. وذلك من خلال الأفعال والتصرفات .ولكن مفكري ما بعد الحداثة يبتعدون عن الخوض في غمار هذه الجدلية .. وليس لديهم رأي مستقر..بسبب التشكيك..والنسبية..والتهميش..والتفكيك..ولا موضوعيه.. إن نظرة الروائي كونديرا إلى ألعوامل الخلاقة في المجتمعات..مثل المشاركة الإنسانية في مجمل فعاليات التكافل الاجتماعي ..والتعاون..والتبادل..نظرة لا موضوعية..

إن شخصيات رواية فالس الوداع الرئيسية والمحورية معظمهم شخصيات انبساطية،عدا روزينا شخصية انطوائية،ومن خلال هذه الشخصيات الانبساطية طرح لنا الروائي كونديرا أفكاره بشقيها المناهضة للفكرالاشتراكي ..والمؤيدة الأفكار ما بعد الحداثة..وتعارضها مع أفكار الحداثة..ولذلك نرى إن شخصية الشاب "فانتا" والذي يحب روزينا حبا رومانسيا شخصية هامشية في الرواية ..لأن كونديرا يرفض التفكير التقليدي للواقعية الرومانسية..

إن عازف البوق (كليما) فهذه الشخصية من الشخصيات المحورية في الرواية،انه فنان متزوج من فنانة سابقا تدعى "كاميلا" وهي عقيمة،تحب زوجها وغيورة عليه . إن "كليما" شخصية انبساطية وهذه الشخصية يتصف فيها الفنانون أكثر من غيرهم "يلقب "وندت" الشخص الانبساطي بلقب "متقلب"والدليل العلمي يؤيده في هذه النقطة بشكل مؤكد .الانبساطيون أكثر تكرارا من حيث تغير عالمهم وأماكن سكناهم، وأقل اتصافا بالاخلاص الدائم،ويغيرون شركائهم الجنسيين على نحو أكثر تواترا،ويمارسون الطلاق بيسر وسهولة " كذلك إن الشخصية الانبساطية من شأنها عدم التحفظ أو اللامبالاة والخوض في غمار البهجة والسرور ..مندفع .. مجازف.. وانه يتصف بالانفعال والعدوان وهو على العكس من الشخصية الانطوائية والتي تحبذ الابتعاد عن الأذى.. ومن صفاتهم كذلك السلبية.. والخضوع..ويميل إلى التأمل..هادىء..علاقاته الاجتماعية عميقة.. وبهذا نرى"يتميز الانبساطيون بما يدعى ب" الجوع الاستثاري" أي سيبحث هؤلاء الاستثارة الحسية القوية ويتمتعون بها . في حين يقوم الانطوائيون بتجنب هذه الاستثارة وتقبل المثيرات الضعيفة عليه3" وهذا يعني إن المثيرات الحسية عند الانبساطي قوية وعند الانطوائي ضعيفة،فالانبساطي أكثر تحملا للألم والانطوائي أكثر تحمل للحرمان الحسي ... ويكمن الاختلاف في شخصية "كليما" أنه يحب زوجته وباق عليها، والشيء الثاني إنه جبان والشخصية الانبساطية لحد ما تعرف بالأقدام وتحمل الألم وعدم التحفظ ..

 إن هذا الاختلاف في الشخصية الانبساطية والانطوائية في رواية فالس الوداع .. يرجع سببه إلى تبني ميلان كونديرا لأفكار ما بعد الحداثة والتي تتجاهل الحقائق العلمية النفسية ولذلك نرى إن علماء الأنثروبولوجيين ما بعد الحداثيين يميلون إلى دراسة المعاني... وليس إلى أستكشاف الأسباب التي تكون سلوك الإنسان وخواصه..كذلك يفضلون علم النفس السلوكي..على علم النفس الإنساني..كذلك لا يعتبرون علم النفس الإنساني جزءا من أصول المدرسة الإنسانية ..لأنه خاضع للتشكيك..والتفكيك.."لان باله مشغول تماما من القلق والخوف،وهو يرقد جنب كاميلا"/ الرواية ص20/ اخذ كونديرا يصاعد من أحداث روايته، بعدما قرر "كليما" زيارة النبع..وقد زار في النبع الرجل الأمريكي الغني "برتلف" هدف (كليما) طلب المساعدة من (برتلف)في إجهاض الجنين . شاهد" كليما" صورة جداريه في غرفة" برتلف" إلى رجل ملتحي مع قرص ازرق باهت خلفه ويمسك فرشات ولوح ألوان،سأل من رسمها أجابه" برتلف " أنا وان هذه الصورة ليس إلى" لازاروس" الأنجيلي، لكنه القديس"لازاروس" كاهن كان يعيش بالقرن التاسع في معتزل،انه قديس الراعي كان قديسا غريبا للغاية )كما تطرق برتلف إلى الزهد في الكنيسة الاتوذكسيه قديما الرواية ص"46" .. إن أفكار ما بعد الحداثة ساعدت كثيرا على بروز الاصولية في الاديان..المسيحية واليهودية والإسلام، وذلك للدفاع عن ارثهم الثقافي في جميع مجالاته..إن هذا" البروز للأصولية الدينية كشكل من المقاومة للتشكيك "بالسرديات الكبرى" للحقيقة الدينية..

 إن الدين ما بعد الحداثي هو دين عاطفي.. وحدسي.. وتجريبي..وأنهم يميلون إلى التوجهات الطقوسية.. ويرفضون الاحكام والتشريعات ..

وبهذا فان وسائل الإعلام المختلفة والانترنيت لها تأثير مباشر على الإنسان ..وفعلا هذا ما يعول عليه مفكرو ما بعد الحداثة ..إن الصورة ترها في آن واحد جميع البشرية وتترك اثرا على الجميع .. لذلك نرى إن الصورة في غرفة برتلف لها دلالة لفكر ما بعد الحداثة..يقول بودريلارد :" أننا نعيش في عالم الصور، لكنها صور زائفة . إلى إن الكثير من الناس يخفقون في أدراك الحقيقة، إننا ننتقل إلى عهد تكون فيه نتاج لقيم اجتماعية، ويكون العلم فيه مجرد تسمية نقر لها بأنماط معينة من التفسير " وقد أعطتنا صورة برتلف في الرواية مفهوما مفاده إن الأنظمة الدكتاتورية.. الشتراكية.. معادية للرب وخانقة للإبداع ..كما إن الشعوب التي تسيطر عليها هذه الأنظمة جعلت الإنسان.. كانسان ألي يبرمجوه للعمل في الصباحات الباكرة ويحدث الضوضاء وكما أسماها كونديرا على لسان برتلف" الصدمة الصباحية" ...

 إن ما يثير الانتباه في الحوار بين برتلف وكليما هو موضوع الوقت..من المعروف عن الاوربين والأمريكان هم أكثر الشعوب والأمم تتمسك بالوقت وبمواعيدهم .. وخاصة مواعيد العمل .ويعتبرونها جزء حيوي من قيمهم ..إن التوقيت الزمني ليس حديثا وأول من استخدمت التوقيت هي الأديان في توقيت العبادات ..الصلاة عند المسلمين..وأنشطة نزلاء الأديرة .. عند المسيحيين.. يقول ماكس فيبر " إن الكسل وإهدار الوقت يعتبران من الخطايا عظيمة الشأن.." وبعد ذلك تطور التوقيت واخذ يشمل معظم جوانب الحياة.."ففي المجتمعات الحديثة، تتحدد النطاقات أو الأطوار التي ننظم فيها أنشطتنا البشرية بمقياس التوقيت الزمني .فلولا الساعات التوقيت الدقيق للأنشطة وبالتالي تنسيقها عبر المكان لم تكن المجتمعات الصناعية لتنشأ وتنمو وتتطور على الإطلاق..ولا تخلو أية مؤسسة أو جماعة بشرية في عالم اليوم من نظام لقياس النشاط الإنساني وتنظيمه بالتوقيت الدقيق،وكلما ازداد حجم الجماعة واتسعت مواردها وعدد المنتسبين إليها،ازدادت أنظمة التوقيت دقة وشمول.4"كيف يمكن لإنسان أن يتصور عالم بدون توقيت للزمن..وأي فوضى تنتظر العالم ..إذا جعلنا الزمن هامشيا في حياتنا..

لا تعنينا الاشتراكية وجذورها الماركسية إن فشلت أو نجحت،ما يهمنا من الاشتراكية والفكر الماركسي انه فكر إنساني بغض النظر عن الفشل والنجاح ..لأنه في كلتا حالتيه تجربه أنسانيه ..و التجربة تستفيد منها الإنسانية..حاضرا..ومستقبلا..فأفكار "ماركس" و"أميل دوركايم" و"ماكس فيبر" وأجيال المفكرين ألاحقين.. ليس من شأننا في هذه الدراسة التحليلية لرواية" فالس الوداع" إصدار الأحكام على التباين.. والأختلاف..والتلاقي.. فيما بينهم .ولكن نأخذ ما احتوته الرواية من هذه الأفكار .. كما إن العلوم الاجتماعية ليس مجرد دراسات للمجتمعات المعاصرة فقط.. بل هي عناصر مهمة في الحياة المتواصلة لهذه المجتمعات ..وعوامل مؤثره في مسيرة التغيرات المجتمعية ..

من خلال الحوارات بين كليما وبرتلف من جهة، وحوارهم مع الدكتور سكريتا الدكتور المعالج في النبع كذلك هو مسؤول النبع، ومن خلال سير أحداث الرواية اتضحت لنا شخصية "برتلف" انه رجل أمريكي متدين ..غنى ..ومبذر للأموال .. وهو شخصية انبساطية ..وكان يعطي المواعظ أثناء حديثه مع كليما والدكتور سكرينا حول موضوع إجهاض روزينا لأنه يحمل قيم رجل متدين أمريكي ..فأن كونديرا أعتمد الحوار في توصيل أفكاره إلى المتلقي أكثر من السرد ..لذلك نراه أعتمد في الحوار على مستوى الشخصية الفكري ..والطبقي..

 قيم" برتلف" انهارت لان سكريتا يريد من برتلف أن يتبناه ..حتى يكون باستطاعته أن يخرج من بلاده إلى أمريكا .. ويمنح الجنسية الأمريكية،والدكتور سكريتا .سبب نجاحه في النبع هو حقن النساء العقيمات اصطناعيا بصورة سرية من استمناء ذكره .. والكثير من النساء أصبحن أمهات من هذا الرجل..ومن ضمن النساء" مسز برتلف"وقد علم بذلك.. وبهذا أصبح سكرينا أكبر من أمه بالتبني بخمسة عشر سنه،وأخا للطفل

عندما يصف" زيغيمونن باومان" احد الكتاب الرواد في ما بعد الحداثة "قدرتها ألتدميرية القائمة على الاستهلاك التام ..التقويض التام ..والتفكيك التام.. لكل ما هو قائم،إن ما بعد الحداثة كما يراها"باومان"لا تسعى لا حلال" حقيقة محل أخرى،أو نموذج للحياة محل آخر..إنما تعد نفسها لحياة بدون حقائق ومعايير ومثل.." والدلالة على قول "باومان" ما طرحته رواية فالس الوداع من أفكار..و معرفيات أثارت جدلا واسعا دينيا.. واجتماعيا.. ولها تأثيرات سايكلوجيه..سلبيه على الفرد والمجتمع، ولم تقبل دينيا ولا اجتماعيا،فالتلقيح الاصطناعي اكتشفوه الروس قبل غيرهم ..،فعندما كانت الخيول وسائط النقل الرئيسية للجيوش أصبح من الضروري إكثارها ..وكان التلقيح الاصطناعي احد وسائل الإكثار آنذاك،وبعد انتفاء الحاجة من الخيول للأمور العسكرية،أوقف عمل التكاثر بالتلقيح الاصطناعي .. في خيول السباق والمضمار..وذلك من اجل ندرتها وارتفاع سعرها..

إن شخصية الدكتور سكريتا في الرواية تحمل ازدواجية..وهذه الازدواجية سببها اعتماده أفكار ما بعد الحداثة .. كما صورته الرواية.. فهو لا يستطيع تطبيق القيم كسلوك في حياته .. يستطيع الإنسان أن يغير اتجاهاته بصورة أراديه أو عن طريق ضغوط معينه..أما القيم فهي أكثر ثبوت ..لأنه في الواقع لم يحمل قيم ..ولا مثل..

 إن القيم عند مفكري ما بعد الحداثة محل شك بحد ذاتها..وسكريتا اعترف لصديقه جاكوب"فقد خلقت بنكا للحيوانات المنوية من" منيي" الخاص الرواية ص "118" وكان رأي سكريتا "تحرير الإنجاب من الحب"..في حين كان رأي جاكوب"الماركسي "تحرير الحب من الإنجاب"..إن رأي الاثنين مختلف..ولكنه توحد من خلال مفاهيم وأفكار ما بعد الحداثة..والتي تسعى إلى المتعة واللذة الجنسية..

فأنهم لا يعنيهم أي مفكري ما بعد الحداثة... إن كان هذا العمل خطأ أم صحيح ..عقلاني أم غير عقلاني..موضوعي أو غير موضوعي ..فالذي يعنيهم هل هو قابل للتطبيق أم لاء..؟

إن التوجه العام في الدين المسيحي يعتبر المباشرة الجنسية خارج نطاق الإنجاب .. غير مقبولة، ويعتبر "زنى" وعلى الإنسان أن يسعى إلى اللذة الجنسية عن طريق الزواج.

"وفي أيامنا هذه،تتعايش المواقف التقليدية مع التوجهات اللبرالية التحررية تجاه الحياة الجنسية،وقد بدأت هذه المرحلة منذ الستينات من القرن الماضي،وأخذ التحرر الجنسي بالتزايد المستمر في الثقافات الغربية بشكل خاص خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية في أكثر البلدان الغربية،وبالإضافة إلى أنماط السلوك الفعلي،تجلت بعض مظاهر هذا التحرر الجنسي في شيوع وسائل الترفيه والإمتاع في الحياة الحديثة وما تعرضه وسائل الإعلام المختلفة مثل السينما والتلفاز والانترنيت –بل إن كثيرا من المراقبين يعتقدون أن ثورة الاتصالات الحديثة هي من مسببات التحرر لا من نتائجه"5" 

 الدكتور سكريتا لديه أماني وأحلام بعد الهجرة عندما يعود إلى بلده يغيره إلى الأفضل.. بالأفكار التي يؤمن بها ..

من الواضح إن أفكار ما بعد الحداثة توجد البديل في حالات الصراع .. وان هذا البديل لابد إن يكون محليا حتى وان كان محدودا أو منحازا ولكنه لابد أن يتصف بالفاعلية "فان سياسات ما بعد الحداثة تقدم طريقة لإضفاء طابع السيولة واليقينية على الظروف المحلية،رغم تأثر هذه الظروف بالاتجاهات العالمية،" وبهذا يكون شعار ما بعد الحداثة هو فكر عالميا، وتصرف محليا"-ولا تصدق بأي مخطط شامل أو خطة كبرى"6"

جاكوب زار ابنته بالتبني "أولجا" وليخبرها عن حصوله على أذن بالهجرة،تبناها بعد إعدام والدها وهي في السابعة من عمرها . ومن خلال الاسئلة يتبين لنا إن" اولجا" عندها شكوك حول والدها بأنه ربما كان متطرف وان هذه ألعاطفة في هذا الاتجاه تصب دائما في المجلات النفسية.. والقيم.. والمعتقدات.. لأن الضمير" بدلالة نظرية سيكولوجيه تقول ببساطه بأن الضمير هو مجموع إرجاع القلق الشرطية التي يكونها الفرد "7"

إن السيد "جاكوب" صديق قديم إلى الدكتور" سكريتا"،وقد أعطاه حبه سامه قاتله كي يستخدمها عندما يريد نهاية لحياته، حتى يكون سيد موته ،ليس من السهل على الإنسان أن يقوم في هذا العمل لابد من أسباب تجعله قادرا على تنفيذه،أما أن يكون شد عصبي عالي التوتر عقابيل أمراض سايكلوجية . أي شعور الإنسان باليأس والوصول إلى قمته.. وبذلك يصل إلى درجة العدوان العليا، يبدأ التفكير بالانتحار للانتقام من ذاته والخلاص من عذابه السايكلوجي."وترى الدراسات الاجتماعية اللاحقة إن مثل هذه الظاهرة تمثل ترابطا ظاهريا ومضللا في اغلب الأحيان في المجتمعات الحديثة،وتميل إلى تبني بعض الأسباب الأعمق التي طرحها "دركهايم"انذاك حول الترابط بين معدلات الانتحار ،ومستوى التضامن والتألف السائد في أوساط المجتمعات والجماعات.وتؤكد منهجيات البحث الحديثة ضرورة الابتعاد عن محاولات الربط الميكانيكية الظاهرية بين المتغيرات المجتمعية" إن الانتحار ظاهره انفرادية وقد تزداد نتيجة الفوضى الأخلاقية،كما نرى هذه الظاهرة تتوسع من خلال العوامل الجغرافية.. والبايلوجية.. والاجتماعية.. عدم التمسك بالدين ..وفقدان القيم .. وتزداد نسبة المنتحرين عند غير المتزوجين.. إلى الضعف عند المتزوجين..كذلك تزداد في صفوف البطالة..وفي أوقات الكساد الاقتصادي ..ولكن تنقص النسبة في تعرض الشعوب والأمم لعدوان خارجي ..وذلك نتيجة لعوامل وطنية..

إن التوجهات التي عبروا عنها مفكري ما بعد الحداثة..ليوتار..وبودريلارد..ودريدا..بي

"موت الإنسان"ونهاية السرديات الكبرى"والتشظية"وفراغ اليأس".. إن هذه المفاهيم هي التي تحفز على مبدأ أن يكون الإنسان سيد موته .. اكثر من غيرها ..وليس الهروب من واقع سياسي ..

إن ما أراده الروائي" كونيرا" في موضوع الحبة السامة القاتلة، مفادها إن السعادة والحياة المبهرة توجد في الغرب فقط .. ولذلك انتفت الحاجة إليها بعد أن حصل جاكوب على الترخيص بالهجرة ..ولم تكتمل السعادة إلى في ظل مفاهيم ما بعد الحداثة..وعولمة الإنسانية..ولذلك نرى إن كونديرا جعل من شخصية جاكوب متجاوزه للمجتمع ..وإن هذه الشخصية تشعر في الغربة داخل مجتمعها،كما إن سعيه للحصول على ترخيص للهجرة هي هروب من الواقع ..لأنه لا يستطيع أن يواجه مشاكل الحياة..

أولجا عندها ضمور في الصدر ولا كنها تتصف بالذكاء كما تقول الرواية ..لان جبهتها واسعة.."فعلا الجزء المسيطر على وجهك هو جبهتك، والتي تجعل أي مرئ يعرف فورا كم ذكائك"الرواية ص72"

 لا يوجد أي دليل علمي على إن ذكاء الإنسان يعرف من خلال قياسات وجه الإنسان مثل وسع الجبهة وحجم الجمجمة، بل يعرف ذكاء الإنسان من خلال التحصيل العلمي، والنجاح في الجانب المهني، ويتعزز من المؤثرات العائلية والاجتماعية والمدرسية.. كذلك يعرف الذكاء بتصرف الإنسان بضبط الذات في حالات العاطفة والمشاعر،كذلك في المثابرة.. والإصرار.. "فقد شهدت الأوساط العلمية والاجتماعية والتربوية جولات من المساجلات والمناظرات النظرية والتطبيقية .وترى طائفة من الباحثين إن الجينات الوراثية هي التي تحدد معامل الذكاء في أوساط الجماعات، بينما يرى آخرون إن المؤثرات المجتمعية هي التي تحدد مستوى الذكاء .."8"

 فقط ملامح الوجه لها علاقة من خلال الدلالة على الانفعالات عند الإنسان مذل الخوف.. والحزن.. والفرح... أولجا تشمئز من أبوة جاكوب،لأنها تحمل له حبا خفيا ..وتريد أن يعاملها كمرأه، وفي أخر المطاف استجاب لطلبها وباشرها الفراش.. يقول فرويد "إن كل عرض عصابي لم يكن موجودا إلا لضرب من التسوية، لهذا السبب،أن يستجيب على نحو من الانحناء لمتطلبات الأنا التي تتصرف لهجمات نزعتها المكبوتة"

وفي الليلة الاخيرة قبل سفره سقطت الحبة السامة في علبة حبوب روزينا خطأ ..فحاول استرجاع الحبة المميتة فلم تعطيه مجال" روزينا"،وفي الصباح سافر ولكن اقنع نفسه إن الحبة غير قاتله لأن "روزينا" مضى عليها زمن تناولت فيه ثلاث حبات ولم يسمع بموتها، وان الدكتور" سكريتا" أعطاه الحبة لسبب نفسي ..

 لقد أوهم نفسه بذلك، لأن "روزينا" ماتت من الحبة فعلا ..

 وقبل أن يعبر الحدود اخذ يستمتع بالمناظر الطبيعية الجميلة ونسى موضوع موت روزينا.. وكذلك نسي الإثم الكبير الذي ارتكبه مع من تبناها "اولجا". وغادر بلاده ..مقتل روزينا الشخصية المحورية الانطوائية في الرواية.. وضعت نهايتها أفكار مع بعد الحداثة..التشكيك ..وإثارة الشبهات..للمسلمات العلمية..

 تبعت "كاميلا" زوجها كليما إلى النبع بدافع الغيرة ..التقت باصدقاء قدامى جلست معهم في كازينو،وقد استمتعت معهم كثيرا .. وافسد على" كاميلا" سعادتها برتلف بعد إن جلس بدون استئذان..وبفضول..

في هذا المقطع:جلوس برتلف بدون دعوه ورفضهم له في بادئ الأمر، دلالتها ترمز إلى إن مجتمع هؤلاء السينمائيون منغلق على نفسه..لأنهم من المجتمع الاشتراكي.. ومن ثم قبوله.. بعد أن سخر من ملابس احد اصدقائها.. وطلب لهم شراب فاخر وطبق من الإجبان المنوعة الجيدة..

وهنا إشارة قوية إن الرأسمالية هي الرفاهية والشبع حد التخمة ..فأن رفضتموها سوف تقبلونها مستقبلا..

" كونديرا "جعل من شخصيات روايته المحورية لديهم قاسم مشترك واحد وهو الجميع تنشد السعادة،ولكن بطرق مختلفة، كذلك هذه الطرق المختلفة يجمعها قاسم مشترك واحد وهو نيل السعادة بصوره غير شرعية ...         

 سكريتا: حصل على التبني من عائلة" برتلف "وهو يكبر أمه بالتبني بخمسة عشر سنه،كي يهاجر من بلده.. ويحمل الجنسية الأمريكية ..ويعتبر هو القاتل الحقيقي" لروزينا"

برتلف: أصبح له ولدان طفل غير شرعي من أطفال النبع.. و"سكريتا..بالتبني..

جاكوب: مارس الحب مع ابنته بالتبني بعد أغرائها له،كذلك اوهم نفسه بان" روزينا" لم تمت..وهو المسبب لموتها،وشريكه سكريتا بالقتل..وهاجر من بلاده..

كليما: عاد إلى زوجته التي يحبها وتحبه ..بعد إن تسبب في أذى" روزينا "،كذلك عاد لمغامرات جديدة..

إن رواية فالس الوداع لها أبعاد نفسية.. واجتماعية.. وفكرية ..فقد أراد الروائي كونديرا أن يضع أمام الإنسان طريق واحد.. ومن الطبيعي الإنسانية لا تشاطره الرأي.. فالإنسان حر في اختياراته.. ولكن لابد من التغير..وليس كما يعتقد..كونديرا في روايته فالس الوداع إن الإنسان بطبيعته يتقبل من الحضارة جانبها المادي بسهولة ويسر..ولكن من الصعوبة بامكان أن يتقبل الأفكار والمعتقدات بسهولة ويسر... هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى لا توجد ديمومة لنظام معين في العالم. فهل كان يتصوروا مفكري عالم الإقطاع في أوربا أن يئول الأمر إلى الفكر الرأسمالي أليبرالي الديمقراطي كما هو ألان في الغرب وأجزاء كبيره من العالم..وكذلك تظهر أفكار أممية ماركسيه كما كان موجودا في الإتحاد السوفيتي ودول حلف وارشو المنقرض ..؟ كلا لم يتصوروا.... كذلك مفكري اليوم لم يتصوروا كيف تكون هيكلية العالم بعد نصف قرن من ألان.. وما هية المبادئ والأفكار التي تتحكم في هيكلية العالم المستقبلية .. كما نعلم" إن ابرز ما يميز المجتمع البشري هو عنصر الصراع . والمجتمعات حافلة بالنزاعات، والتوترات، والاختلافات،ومن الوهم الاعتقاد بأن الناس يميلون بطبعتهم إلى العيش في إطار من الانسجام والوئام والمودة التامة، دون مواجهات بين المصالح العميقة المختلفة التي قد تتبلور أخر الأمر على هيئة الصدام المباشر وغير المباشر"9" على اثر تفكك حلف وارشو وانهيار الاتحاد السوفيتي،أخذت الكثير من الدول بالنهج الرأسمالي ألليبرالي الديمقراطي. و عتبر بعض المفكرين إن هذا الانهيار في المعسكر الاشتراكي ..نهاية التاريخ ..وقد انتهى الصراع الإنساني..ومن ابرز هؤلاء المفكرين المفكر فرانسيس" فوكوياما"

ان الروائي كونديرا في رواية فالس الوداع يؤدي واجبا أدبيا.. وسياسيا.. ففي الوقت الذي يرفض فيه نظام الحكم الاشتراكي الشمولي ..كذلك يرفض أفكار الحداثة..و يلتقي في بعض الجوانب منهما .. وخصوصا مع الفكر الماركسي.. ولذلك لابد من القول :

 إن الإنسانية لن تتوقف عند نقطة معينة ..وان تجارب الإنسانية.. منذ الدولة الرومانية..ولحد ألان أثبتت إن التغير حتمية تاريخية..أما مفكري ما بعد الحداثة..وهم يعولون على الثروة التقنية في نقل المعلومات ووسائل الاتصال والتلفزه الفضائية ووسائل الأعلام الأخرى في تأثيرها على الإنسانية وتقبل أفكار ما بعد الحداثة .. وعولمة العالم ..صحيح إن هذه الوسائل لها اثر كبير كما أسلفنا..ولكن هذا الأمر يحتاج إلى دقة متناهية، ويجب أن لا ننظر إلى المجتمعات المختلفة نظره واحده .. لو أخذنا الأديان السماوية على سبيل المثال، اليهودية والمسيحية والإسلام إنها عقائد ...

ومثلما يستفيد مفكري ما بعد الحداثة ..مؤيدي العولمة..من وسائل الأعلام المرئية..والمسموعة..والمكتوبة..والانترنيت..كذلك تستفيد الحداثة بمختلف أفكارها.. وفلسفاتها.. وايدلوجياتها ..كما تستفيد السرديات الكبرى.. من هذه ألتقنيات....

ففي أمريكا الكثير من الكنائس المرئية.والتوجه العام في هذه الكنائس نحو الأصولية الدينية.

كذلك عند المسلمين العديد من محطات التلفزة الفضائية المتخصصة بنشر التوعية الدينية...كذلك الكثير من الإذاعات..

 وفي مثل هذه الحالات.. لا يسعنا القول أكثر من القول المأثور "البقاء للأصلح".

 

.......................

الهوامش:

1-كتاب فسلجة النفس للدكتور علي الأمير /ص188

2-كتاب علم الاجتماع أنتوني غد نز/ص703

3-كتاب علم النفس الحديث ه.ج.أيزنك/ص86

4-كتاب علم الاجتماع أنتوني غد نز/ص177

5- نفس المصدر /ص214

6-كتاب قراءة ما بعد الحداثة ترجمة حارث محمد حسن و الدكتور باسم علي/ص8

7-كتاب علم النفس الحديث ه.ج.أيزنك/ ص84

8-كتاب علم الاجتماع أنتوني غد نز/ص566

9- نفس المصدر /ص704

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1279 الاربعاء 06/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم