قضايا وآراء

الآن أتكلم ... الأخطاء القاتلة لحركات الإسلام المسلح

ستتناول حركات العنف السياسي على إمتداد خط طنجة – جاكرتا – وهذا سيكون مخالفا قلبا وقالبا للحقيقة، فلقد تناولت السلطة الجزائرية وأدائها أكثر من تناولي لأخطاء الحركات المسلحة والإرهابية، وتأخر هذا التناول أوحى للبعض الذي يصطاد في المياه العكرة أن يحي أبوزكريا يغضّ الطرف عن جماعات الإسلام المسلح أو الإرهابيين أو العنف، وهذا محض خطأ لأنّ يحي أبوزكريا ضدّ مبدأ قتل الإنسان خصوصا في الجزائر التي سقيت أرضها بدماء ملايين الشهداء . طبعا هذا الكلام لا ينسحب على الكيان الصهيوني البادئ بالظلم وإغتصاب فلسطين ".

 

لا خلاف بين علماء الإسلام والفقهاء والعقلاء والحكماء أنّ العنف ظاهرة ناقصة وسيئة ومدمرّة للكيانات الإجتماعية والحضارات ..و هو مرفوض شرعا وعقلا وفطريا وحضاريا ..ولم يبتل العالم الإسلامي بشيئ مثل إبتلائه بالتكفير وتصدي الجهلاء لمقام الفتيا وصناعة الحكم الشرعي الخاطئ الذي يقفز على أهم الثوابت الشرعية وقواعد الشرع الأصيلة من قبيل لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ما أحتاط الإسلام في شيئ مثلما إحتاط في الدماء، وقاعدة حرمة الدماء والأعراض والأموال ..فالمسلم كيّان مقدس أحاطه المشرّع بكل أسباب الحصانة الحياتية ..و لا يجوز غيبته ناهيك عن ذبحه من الوريد إلى الوريد ...

و الحديث عن عنف الجماعات المسلحة في الجزائر لا يبرئ بعض الرسميين الذين تعاملوا بعنف مقابل وكانت النتيجة تصاعد العنف وإطالة عمره ..وفي معادلات حركة التاريخ لا يجابه العنف بالعنف ..لأنّ العنف المضاد هو بمثابة عامل التقوية والتنامي للعنف ..و كل الأزمات الكبرى في التاريخ البشري حلّت عن طريق الحوار والمصالحة والتفاوض السياسي والتنازل المقبول الذي يحافظ على مصالح الجميع ..و إذا كانت المؤسسة الرسمية في الجزائر تنطلق من مبدأ الحفاظ على كيان الدولة الجزائرية ونخاعها الشوكي المؤسسة العسكرية، فإنّ جماعات الإسلام المسلّح كانت تهدف إلى تدمير الدولة والمجتمع والمؤسسة العسكرية سليلة جيش التحرير الوطني ..محررّ الجزائر وشعبها من إرث إستعماري إستمرّ أزيد من قرن و32 سنة ...

وقد لجأ بعض أنصار المشروع الإسلامي في الجزائر إلى حمل السلاح وصعدوا إلى الجبال لمقاومة "الطاغوت العلماني" كما كانوا يسمونه، وقبل اللجوء إلى حمل السلاح ضد الدولة الجزائرية، كانت الجزائر قد شهدت قيام حركة مصطفى بويعلي المسلحة في الثمانينات، ودشنّت مبدأ الإعتداء على عناصر الجيش والدرك وكلهم من أبناء الشعب الجزائري الذين كانوا يؤدون واجبهم الوطني في الحفاظ على الأمن والدولة الجزائرية ... وعقب إلغاء المسار الإنتخابي الذي أوشك الإسلاميون بموجبه أن يصلوا إلى السلطة، بدأ المشهد السياسي الجزائري يشهد تشكلّ جماعات إسلامية مسلحة قوامها عناصر لا تملك لا الأهلية الفقهية، ولا الأهلية الثقافية، ناهيك عن السياسية والإستراتيجية وتوالى على إمرتها قوم جهلاء لا يعرفون إلاّ ذبح المجتمع الكافر في نظرهم، وقد دخلت هذه الجماعات في معركة حقيقية مع الدولة الجزائرية خيمة الجزائريين كل الجزائريين، ثم دخلت في مذبحة مع الشعب الجزائري، وخرجت من محاربة السلطة إلى محاربة المجتمع، ورغم أنّ البعض في الجزائر وخارجها روجّ لنظرية أنّ هذه الجماعة هي صنيعة إستخباراتية سلطوية، لكن في الواقع هذه النظرية صنعتها المخابرات الفرنسية من خلال بعض إمتداداتها في الواقع الثقافي والإعلامي والسياسي الفرنسي، وأحدهم الناشر الفرنسي فرانسوا جاز المتخصص في نشر سلسلة كتب ضد الجيش الجزائري والأداء الميداني لهذه الجماعات التي كانت تجهل كلية مقاصد الشريعة الإسلامية ملفوظ ومكروه من قبل الشارع الجزائري، وهي اليوم تعارض المصالحة الوطنية الشاملة .

والواقع أنّ هذه الجماعات بفقهها التكفيري لا تملك مستقبلا في المشهد الجزائري سواء أكملت نهجها المسلح أو إنخرطت في اللعبة السياسية، ولا هي وفقت عسكريا، ولن توفّق بالتأكيد سياسيا لإفتقادها إلى العناصر المتمرسة سياسيا القادرة على لعبة الكرّ والفرّ في المجال السياسي، بالإضافة إلى كونها ترى جواز قتل الثلثين من أبناء المجتمع إذا كان ذلك يؤدي إلى إصلاح الثلث المتبقي .

و يمكن حصر أخطاء جماعات العنف المسلح في مجموعة مركزيات .

 

أولا: الجهل الكامل بالإسلام وإستيراد فتاوى القتل من خارج الجزائر ..

كل الذين قادوا العمل المسلح والإرهابي في الجزائر ينتمون إلى المستويات الدنيا ثقافيا وإجتماعيا، ولم يتخرّج أحدهم من جامعة إسلامية عريقة، أو تتلمذ على يد مرجع إسلامي منحه الإجازة في الإجتهاد أو ما شابه، وحتى لما إنضمّ بعض المثقفين الإسلاميين إلى حضن الجماعة الإسلامية المسلحة كمحمد سعيد وعبد الرزاق رجام، قتلهم أمير هذه الجماعة ..لأنها جماعات لا تؤمن بالثقافة ولا بالتنوير ولا بالنقاش ..وفوق هذا وذاك فهي تفهم النص المقدس بطريقتها الخاصة دون الأخذ بعين الإعتبار ملابسات وظروف والسياق التاريخي لنزول هذا النص ..فالمرأة المسلمة بغير حجاب كافرة، وأبناء الموظف السامي في الدولة الجزائرية كفرة، والغارة على قرية بائسة ومستضعفة غزوة إسلامية، وكان يحدث أن يأسر العنصر في تلك الجماعات أمه أو أخته فيهديهما لأميره ...خطف السبايا من المدن جائز ..وكانت هذه الجماعات تقتات من فتاوى مدعيّ العلم العميان الذي كانوا يفتون بقطع عنق رجال الجيش والدرك الوطني في الجزائر، كأبي قتادة وفقاء السلف أو التلف الطالح من السعودية، الذين غدّوا النزعة السلفية في الجزائر، وساهموا في تكوين جماعة الأفغان الجزائريين ...وملفات المخالفات الشرعية لهذه الجماعات لا يحصى عدها، وتحتاج إلى مجلدات بكاملها ..

وهذا الفهم الخاطئ للدين، والفتاوى المستوردة، أفرز إستراتجية وتكتيكا خاطئين، ومعادلة خطيرة جدا " دولة إسلامية يشرف عليها جهلاء يورطون الإسلام وعلى أنقاض جماجم الجزائريين حتى لو كانت بمقدار جبال جرجرة والأوراس " .

و صحيح أن الدولة الجزائرية ومن باب الحفاظ على مؤسسات الدولة التي نريد ونحرص ونصر على بقائها كانت تسعى لإختراق هذه الجماعات لمعرفة توجهاتها، وهذا يحدث في أمريكا وفرنسا وكل الدول، لكن الأجهزة الجزائرية لم تؤسسّ جماعات عنف كما روجّ لذلك فرانسوا جاز وحزبه في فرنسا، أو روج له بعض الضباط الجزائريين الذين كانوا يشرفون على التعذيب والقتل في ضواحي "شاطونف " .

إن إعتماد هذه الجماعات مبدأ القتل، وتقزيم مفهوم الجهاد وتوسيخه وحصره في قتل المدنيين والأبرياء ورجال الجيش والدرك، سحب الشرعية الدينية من هؤلاء الذين يريدون دكدكة الدولة الجزائرية لتسليم الجزائر لأعدائها على طبق من ماس وذهب ..

 

ثانيا: الصدام مع الدولة الجزائرية والجيش الجزائري

لا يوجد دولة في التاريخ البشري كانت معصومة عن الأخطاء، وحتى دولة رسول الإسلام التي أقامها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة كان بين ظهرانيها منافقون ونفعيون وحتى يهود أرادوا إختراق دولة المصطفى . ولا يمكن إلحاق الكل بالجزء، وتحميل وزر بعض النافذين للدولة للدولة نفسها .. والدولة كافرة أو مؤمنة هي ضرورة للكائن الإنساني ..طبعا هذا لا يعني شرعية الظلم فهو مردود ومرفوض ..غير أن وجود بعض عبيد فرنسا في الدولة الجزائرية لا يعني خلوها من الكفاءات الوطنية التي عاشت مع الحركة الوطنية الجزائرية، ثم مع ثورة التحرير المقدسة، وكان بالإمكان مجابهة هذا الجزء "الطاغوتي" بالوسائل السياسية، وفي معركة التوازنات داخل منظومة الحكم سينتصر الخيار الشعبي الوطني دائما ..

و قد أصدرت هذه الجماعات حكمها وعقابها في آن .." فالدولة الجزائرية كافرة وإسقاطها بأي طريقة واجب شرعي والإضرار بمصالحها مرضي لله تعالى " . وتناست هذه الجماعات أنه لدى الإضرار بأنابيب النفط والغاز وإحراق المصانع والإضرار بالسكك الحديدية، سيؤدي ذلك إلى حرمان الشعب الجزائري من ثرواته، لأن القلة القليلة المتنفذة داخل الدولة الجزائرية قد سرقت ما سرقت، ونهبت ما نهبت، وكل ما نهبته موجود في جغرافيا غير الجزائر ..

و الأكثر من ذلك دخلت هذه الجماعات في حرب مع الجيش الجزائري ...وهي في الواقع لم تحارب جنرالا واحدا بل قتلت وسفكت دماء أبناء الوطن من مجندين وعسكريين يؤدون الواجب الوطني لخدمة بلدهم ..وقطعت رؤوس العسكريين الذين كانوا يحمون الوطن الجزائري ...

و المؤسسة العسكرية الجزائرية هي غير خالد نزار، وغير محمد العماري، وغير العربي بلخير، هي مؤسسة الشرفاء والوطنيين والأحرار الذين صقلت فكرهم ثورة التحرير المجيدة، وهي مؤسسة تصون وتحافظ على الدولة الجزائرية في وجه الطامعين وما أكثرهم، وفي وجه الراغبين في تدمير الجزائر وما أكثرهم في الجوار المغاربي والعربي والإسلامي والدولي ....

وقد خرج أولئك الجنرالات من المشهد العسكري، فهل يستمر إستنزاف المؤسسة العسكرية والتي هي أهم مؤسسة منظمة ومحكمة التنظيم في الجزائر ...و الجيل الجديد من أبناء المؤسسة العسكرية وطني وعروبي وسيكون حامل راية الجزائر ...

هل فكرّ هؤلاء في أنّ تدمير المؤسسة العسكرية هو تدمير للجغرافيا الجزائرية وتفتيت لترابها الوطني، وتقسيم للشعب الجزائري، وإيقاظ للفتنة الداخلية، وهل تقبل هذه الجماعات أن تدمر الأمة الجزائرية حتى تقيما دولتها العرجاء والعمياء القليلة الفقه والدراية ....

ولعل هذا الخطأ المركزي هو الذي قصم ظهر هذه الجماعات، والتي تقاطعت رغبتها هذه مع دول تريد إنهاء الجزائر ودورها .....

 

ثالثا: الإرتهان لقوى وحركات ودول ومؤسسات خارجية

عندما سئل الأمير السابق للجماعة السلفية للدعوة والقتال عن أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة أجاب بقوله : "ـ الشيخ أسامة بن لادن ـ حفظه الله ـ من الجظاهدين الصّادقين ـ نحسبه كذلك ـ ومن رجال هذا الدّين الذين جعل الله لهم القبول عند الأمّة، وهو معروف بمواقفه في نصرة الدّين ونصرة المسلمين في كل مكان، خصوصا المجاهدون منهم، وما قدّمه للأفغان من إعانة ونصرة لا يعلمه إلاّ الله وكذلك الإخوة العرب الذين دخلوا أفغانستان خلال أو بعد الحرب مع الرّوس، وممّا سمعناه عنه: أنّه ما وجد سبيلا لإعانة أيّ مسلم في العالم إلاّ ولم يتأخّر عنه،جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ". طبعا وإبن لادن نفسه شرعن ما تقوم به الجماعات الإرهابية في العراق والجزائر وأفغانستان والصومال ونيجيريا، وكل قتل هو جهاد حتى لو سحق آلاف النساء والشيوخ،فما دامت الغاية الدولة الإسلامية، فأي درب إليها مقبول حتى لو كان بقتل كل المجتمع ..و قد زاد إرتباط هذه الجماعات المسلحة في الجزائر بالتكفيريين خارج الجزائر إلى تعميق الشرخ في الجدار الوطني الجزائري ..وحبذا لو إستفادت هذه الجماعات من الوسطيين والذين خاضوا تجارب مشابهة مع دولهم، وكيف كفرّوا عن ذنبهم وإستفاقوا من غيهم، وعودتهم إلى الرشد وإدراكهم أن القتل ليس جهادا، ولا إسلاما، بل هو إجرام وقبح وإنحراف خطير عن الإسلام .....

و هذه الأوساط العلمائية والإستخباراتية التي إرتبطت بها هذه الجماعات هي أوساط موبوءة ومريضة ومسيرة أمنيا بجهاز التحكم غير المرئي ....

و سعوا لتحويل أرض الشهداء في الجزائر إلى قاعدة للقاعدة والقواعد، وقاعدة للعناصر غير الجزائرية التي تبحث عن أرض للذبح لا للجهاد ....

وتتلقى هذه الجماعات أوامر أو فتاوى قبيحة من المجرمين خارج الجزائر بضرب مصالح الطاقة الجزائرية أو مقرات الأمم المتحدة، وتنفذّ على الفور بحجة أنه تكليف وحكم شرعي، دون أن تسأل هذه الجماعات عن مصدر هذه الفتاوي، والتي هي بالتأكيد مؤسسات أمنية عريقة في التخريب لصالح الكبار عالميا ....

وبدل أن يكون لها مشروع وطني أصبحت وكيلا للإرادات الدولية الأمنية، والتي وجدت في الإسلام المسلح أخطر وأفتك وسيلة لإدامة التوتر في العالم العربي والإسلامي، والذي بموجبه يبقى عالمنا العربي والإسلامي تابعا ومستهلكا بدل أن يكون صاحب سيادة ومصدر إنتاج، وتحويل الثروات الطبيعة إلى أرقام إقتصادية .....

يتبع –

 

 

يحي أبوزكريا – كاتب ومفكر جزائري / بيروت.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1282 السبت 09/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم