قضايا وآراء

"بلا مدينة" لعبد الحميد المنتصر .. نصوص واحتمالات شتى

ولكنها مسطورة في الذاكرة تتحول عبر الكتابة إلى الشعور والتمعن في مساءلة الماضي، ذلك الماضي الذي ظل يتأجج، ولم تخمد شرارته، وظل يعبر عن تردد الصوت الباطني في مساحات الوعي .

 

ففي قصة "الطفل والمؤدب" يمرر نقمته على عصا المؤدب " كان كلما ضربه بعصاه التي تطال القريب منه والبعيد عنه، على الرأس، على الظهر، على اليد، على الفخذين العاريين . شكا الأمر لأمه لتقول له: عصا المؤدب تحمل إلى الجنة، فيكرر في سره عصا المؤدب تحمل إلى المستشفى لا إلى الجنة، إلى أن كبر وعقله لم يتحمل تلك الفترة " ص66 .

 

ويجابه الكاتب تسلط الأب الغائب بعبارات الكراهية، فقد اقترن غياب الأب بغياب الجانب الإنساني في قصة "أشباح في الشارع" : " نظرت وحيدة إلى أمها بعينين غائمتين وأحاطت وجهها المكدود بيديها الصغيرتين، وقالت لها: أمازال غيابه يطول - وإلى الأبد - لماذا ؟ - لقد طلقني - لماذا ؟ - وجد غيري فرماني بعيدا - إني أكرهه - لا هو أبوك - لم أسمع حيوان طلق " ص70

 

 لا يطفو الماضي من خلال الأحداث القاسية العالقة في ذاكرة طفولية فحسب، بل من خلال استقاء صور لنماذج بشرية تتسم بالغلظة والخشونة، ففي قصة " رجل خذل نفسه" ثمة تركيز على الانتقام من الشيخ "ضو" الذي كان يستقوي بأولاده وأحفاده، انتقام تمثل في إشعال النار في زريبته وأغنامه، تلاه انتقام من فرسه بذبحها، تلاه انتقام منه بقتله بدس أفعى رقطاء في جبته .

 

إن الخشونة سمة مذكرة في الغالب، لكنها إنسانية، تنسحب على المرأة أيضا، ففي داخلها عنف الذكر حتى داخل المجتمعات الريفية البسيطة، ففي قصة " صاحبة المعطف الرجالي " لم ينجح صالح الملقب بالعفريت في الانتقام من صاحبة المعطف الرجالي بل ثمة تركيز على الحذر عند تضخم سمة الذكورة لدى المرأة : " كانت تعمل في حضيرة لغرس الأشجار قرب الجبل المطل على القرية، وإذا صادف أحد الرجال أن طلب منها أخذ نصيب من الراحة إذ الشمس اشتدت لهيبها وأحالت المكان إلى سعير لا يطاق ترمقه بعينين .. فيقابلها بابتسامة باهتة مصحوبة بانكماش بارز على قسمات وجهه " ص93 .

 

العودة إلى صور اللاشعور وقد طفت من سكونها الخامد إلى اعتمالاتها المتأججة ما جعل وصف الشخصيات وحركاتها، أقرب إلى عكس الصور سينمائيا، فلا تمطيط في الوصف، ولا فنتازيا تنعتق عن الواقع، بل ثمة صور تعتمد على تفاصيل الحدث بصوره المرأوية: " اقترب منها، وضع قبلة على جبينها، البارد المتجعد، أخذته رجفة وشعر بجسمه ينهار فتحامل على نفسه ووقف قبالتها في ارتخاء، رفعت رأسها في ارتخاء، رفعت رأسها ونظرت إليه بعينين واسعتين وأطالت النظر ثم رجعت إلى هيأتها الأولى، وأمسكت حفنة من التراب عصرتها ثم طرحتها، حركت السبحة التي في يدها اليسرى، وباصبعين كانت تلف الخرزة تلو الأخرى، تفحصته من جديد، شعره، وجهه، حقيبته، ملبسه، قدماه، أطلقت تنهيدة ..." ص17 .

 

الصور المعكوسة سينمائيا لم تنعكس في هذا المقطع من قصة " صلاة الغائب " فحسب، بل هي ميزة كل قصص المجموعة التي تحفل بتفاصيل الصورة وتجميعها في حقل دلالي يعكس ما يعتمل في عمق الشخصية، مع بث تعابير توحي بالمعاني الكامنة وراء الصور عبر المونولوج: " شعرت بالدم يفور في كامل جسمي لكن حاولت السيطرة على أعصابي، وبقيت أردد ما في داخلي لعلها على حق، لعلنا أقل من ذلك، لعلها رأفت بنا، ص 31، قصة " هل نحن مساكين؟ " .

 

الكاتب متفرس جيد لصور العالم الخارجي، له قدرة بارعة على تجميع الصور بما ينسجم مع رؤيته الفكرية ولكنه لا يعكس الصوت إلا في مساحات ضيقة عبر اعتماد المونولوج والاسترجاع والحوار بين صوت الذاكرة وصوت العقل .

 

"بلا مدينة " هي قصص تتأمل تفاصيل الماضي كتبت برؤية أقرب إلى اعتماد لغة الصورة، فخيال الكاتب لا يبتكر عوالم الحلم وإن عاد إلى الذاكرة، لا يبعثر صور الماضي وينفث فيها الخيال، وإنما يعكس براعته ككاتب للقصة القصيرة في رصد ملامح قصصه، في جعلها آدمية بصورها الظاهرة وفي الأصوات المنبعثة منها، أصوات تختلف حسب تمثل الحالة النفسية في تقلبها وثباتها وفي جعلها قريبة من الواقع الاجتماعي الذي قد يعدله الكاتب، وقد يزيد عليه من ذاكرته : " كان الشارع يخلو من الأطفال، يأتون إليه أيام الأحد أو بعد أن يقذفوا إلى أمهاتهم حقائب القماش التي كانوا يستعملوها لحفظ بعص أدواتهم المدرسية منطلقين من جري حثيث كأن شيئا مهما لا يريدون تفويته " قصة "تفرقت الأجساد" ص117 .

 

"بلا مدينة " عنوان مفتوح يحمل بين طياته احتمالات القراءات المتعددة، تنضوي دالخله قصص تحفل بالإنسان، بتكوينه النفسي والحركي، وبتصويره حسيا وتصوريا، فالشخصيات الحاضرة في هذه القصص ليست كائنات ورقية او كائنات تعكس واقعيا ثقافيا ما، بل ثمة شخصيات ترى وتسمع وتشم وتتذوق وتلمس وتفكر في وضعياتها الإنسانية المختلفة : " كنت أسمع أيضا شهيقا أو ما شبهه وكلما شعر بتعب إلا وغير وضعه إلى أن يصل نعله أنفي فأشم رائحة كريهة تنبعث ويتصبب العرق من جبيني " ص 19 .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1282 السبت 09/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم