قضايا وآراء

قراءة في رواية "الرسم على الماء" (1) للناصر التومي

الذي حول من رواياته إلى شهادات على العصر، قد عودنا على استقاء نماذج ووضعيات واقعية حقيقية وصهرها في نسيج العمل الروائي .

 

المتن الروائي

 تتحدث الرواية عن قصة حب بين "نجوى الحسيني"- سليلة العائلة الحسينية التي ولدت يوم عيد الجمهورية في تونس (25 جويلية 1957)، فكانت ولادتها انسلاخا عن تاريخها الذي كان حافلا بمجد السلطة، والإفاقة على واقع جديد احتجب فيه دور حكم البايات وزال نفوذهم وغابوا عن الصورة - وبين " اسكندر الكوكي" الذي دخل والده السجن بتهمة محاولة الانقلاب على النظام، ومات في السجن بعد خمس سنوات، ومات جده حسرة على أملاكه أثناء تجربة التعاضد (تأميم الأملاك). اسكندر الذي عاش انشطارا بين ثقافة مادية تمثلها الأم الفرنسية وثقافة عربية تمثلها جذوره العائلية، كان يجنح للتحليق ليصبح طيارا ويتجاوز واقعه نحو واقع يسمو فيه على وضعه، ولكن حبه للمغامرة ما جعله يحلق بطائرة التدريب فوق المعبد وهو كناية عن القصر الرآسي للسيد الذي كان يقصد به الكاتب الرئيس التونسي السابق دون أن يسميه، فوقع طرده من مدرسة الطيران ليسافر إلى فرنسا ويواصل دراسته هناك: " رغم صغر سني عشت صراعا أقوى من طاقتي، بين جد يمثل الأرض والتاريخ والانتماء، وبين أم غريبة عن الديار، مرت عليها ظروف صعبة أثناء محاكمة والدي وسجنه وموته، وهي تهفو لنقلي إلى حيث برالأمان " ص26 . فالعلاقة بين طرفي هذه العلاقة العاطفية تبدو مادة ثرية لتشكيل رواية تشير إلى واقع سياسي معين دون أن تنفصل الرواية عن الجوانب التخييلية .

وتبدأ الرواية من خلال لقاء الراوي مع "اسكندر الكوكي" أمام الشاطئ بعدما غاب عنه عشرين سنة، يجهل الراوي تفاصيل ذلك الغياب باحثا في هذا اللقاء عن تفاصيل الحكاية التي كانت تجمع بين اسكندر ونجوى ومعرفة المآل الذي آلت إليه . فتنفتح الرواية على فترة زمنية تمتد لمدة عشرين سنة، تبدأ من مرحلة التعاضد في الستينات إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي، وتلك العودة إلى الماضي تمت أمام الشاطئ الذي كان اسكندر يجد فيه الرحم والملاذ الذي يعود إليه . وفي لقاءه الثاني معه كان اللقاء بين آثار قرطاج حيث يستعرض اسكندر عشق نجوى لمعبد قرطاج وحبه الخاص لتاريخ قرطاج القديم، ومسرحيته التي جسدها في دار الثقافة وجسد فيها دور زعيم المرتزقة "ماطو" وأعطى لنجوى دور صلامبو، ولكن أحد زملائه ألب عليه بعض المسؤولين السياسيين الصغار متهما إياه بإدانة المرتزقة وهم من أصول بربرية حرة .

فقد كان اسكندر يعيش المعاناة مضاعفة  : معاناة تخوين والده ومعاناة تخوينه ومعاناة طرده من مدرسة الطيران حين حلق فوق القصر، فوجد نفسه منبتا عن ماضيه وتاريخه  واتجه إلى فرنسا ليواصل دراسته هناك  : " وتؤمن (الأم)  باستحالة رسم مستقبل يبرئني من يتمي وسط مجتمع  يرى في والدي رمزا لخيانة الوطن . وقد صدق حدسها فقد تعرضت لاختبارات عديدة أهمها حادثة المسرحية وثانيها واقعة التحليق، لذلك كان لا بد من الرحيل، بعد أن فقدت رابطة الانتماء، والطيران بأجنحة أرض الأجداد " ص26.

 

وبما أن الرواية حافلة بالأحداث قبل رحيل اسكندر إلى فرنسا فإن تلك الأحداث أصلها ومنشأها نجوى فهي طرف أساسي في الحكاية . ومن ثمة فقد أفرد الكاتب الفصل الأول من الرواية لإبراز أحداث مفصلية، رواها انطلاقا من استرجاعه الخاص لها، ليكرر تفاصيلها فيما بعد انطلاقا من سيرة اسكندر مع نجوى، وانطلاقا من ملاقاة الكاتب لنجوى في القسم الأخير من الرواية، وأهمها : حين سافر اسكندر لقضاء العطلة الصيفية في فرنسا، طلبت نجوى من زملائها في دار الثقافة رسمها عارية عوضا عن تمثال فينوس المبتور الذراعين . وبعد ذلك  دخلت  نجوى إلى المعبد (القصر) راقصة، لتفحص جنبات المعبد الذي تحلم بعودته لعائلتها عبر تصميمها للوحة فينوس، وإقناع المشرف على الحفل بذلك .

 

وكان موقف اسكندر الاستنكار لرقص نجوى في عيد ميلاد السيد " صعقني الخبر، وتهت في دوامة التخمينات، طوحت بي بعيدا . فما كان هذا موقفها من السلطة، أين التحسر على الإمارة التي ضاعت منها يوم ولدت  وأصبحت العائلة الحسينية من العوام بعد أن كانت تاج المملكة، كيف قبلت أن ترقص في حضرة مغتصب ملكها " ص59 .

 

ولكن السبب الوجيه تعترف فيه نجوى لاسكندر بعد عشرين سنة من تلك الواقعة : " حضرت صدفة بدار الثقافة تمارين على لوحات راقصة من قبل فتايات الضاحية، هن بنات عائلات عريقة، وذوات جمال، لتأديتها في عيد ميلاد السيد . نط إلى ذهني خاطر، رفضته في البداية، لكنه ألح علي، حاصرني في صحوي وأرقني، تركز على القصر وفضائه وبنائه وهندسته، حرمت أن أكون فيه أميرة، ألا يمكن أن ألجه راقصة ؟ . بدا الأمر هينا لي والعائلة، حتى ولو كان حاجة للارتواء من ماض كنا فيه أسيادا . ووقفت أنت بيني وبين تحقيق الخاطر، كنت صامتا، طفلا صغيرا، لا تكاد تعي كامل الحقيقة .... اقترحت على رئيس الفرقة رقصة فينوس، شرحت عناصر اللوحات ومقوماتها ودلالاتها، فينوس تنسج حبائل الحب بين عليسة وأنياس الأمير الطروادي ... بعد شهرين قدمنا عرضا أمام منسق الاحتفال وشخصيات من السلط الجهوية . انبهر الجميع باللوحات الراقصة، كانت عينا المنسق لا تفارق محياي .. وما إن انتهى العرض حتى تقدم مني مهنئا، ممتدحا الفرقة على ما بذلته من جهود للمشاركة في هذه التظاهرة العزيزة على الجميع ." ص 113 . وإثر دخول نجوى قصر السيد تم تجنيدها لجمع المعلومات عن المعارضة خارج الوطن نظرا لأصلها الحسيني الذي لا يثير الشبهة، فسعت إلى عدم إخبار اسكندر الكوكي بتلك الواقعة، محاولة إقناعه بأنها صارت تعمل في المعهد العربي الفلكلوري وتقوم برحلات مكوكية بين أرجاء العالم، ورغم أنها أخفت عليه الكثير من الحقائق فلوحاتها الحائرة كانت تسترجع  صدى لحظة تاريخية وهي الحكم الحسيني، وحيرة الحاضر . انتهت العلاقة بالفراق  وزواج اسكندر من سيدة فرنسية ماتت في حادث بعدما أنجبت له بنتا شبيهة بنجوى الحسيني وكأنها مولودة من رحمها . وإثر اللقاء بين اسكندر ونجوى والراوي بعد عشرين عاما تموت نجوى بعدما نخرها داء السرطان، وقد أقر الطبيب أنها ظلت عذراء ....

 

عتبة العنوان:

الرسم على الماء ليس رسما بالماء الذي يعطي للألوان شفافية على الورق، والرسم على الماء هو ليس غياب اللوحة الصلبة وتعويضها بسائل شفاف لترمز للتجدد والتطهر، فالتسمية أو العنونة تشير حسب فهمي الخاص إلى فن تركي أراد الأتراك أن يعيدوه ويبعثوه بعدما أقيم له أول مؤتمر عالمي في أسطنبول عام 1997، والأكيد أن الكاتب قد وظف هذا الحدث لرسم شخصية روايته " نجوى الحسيني" سليلة العائلة الحسينية (التركية) والتي ولدت في عيد الجمهورية  وعرفناها بين طيات هذه الرواية رسامة تجنح نحو إعادة الحكم الحسيني ولو على سبيل الحلم الفني . وذلك من خلال رحلتها مع الرسم . على أن العنوان الذي قد يتنافذ مع دلالات الرواية قد يكون الرسم على الجسد، عبر الإشارة  إلى التعري والتجسيم الفني، والرؤية الرومنسية للجسد التي تجعل من الجسد صورة تحيل إلى الخلق والحلول،  والرقص وقداسة العري من جهة أخرى، لينتهي هذا التقاطع والتناقض والتنافذ بين الرؤية المادية والرؤية الرومنسية إلى رسم حائر تنفذ منه فجوات الحيرة ......

 

الرسم على الجسد

1 - التعري والتجسيم الفني

ينقل الكاتب عدم نضج نجوى في بداياتها وهي ترسم لوحاتها " إن داخل هذه الفتاة روحا ثائرة متأججة، تتجاذبها نوازع وتشدها موانع، ولكنها وهي تحاول إبراز هذه الصراعات فنيا تخونها الأدوات أحيانا . إضافة لاعتزازها بالنفس إلى حد الصلف، وتسرعها بإنهاء اللوحة قبل اكتمال ملامحها وعناصرها الفنية " ص17 .

 

 وعند واقعة التعري: "وكان اقتراح نجوى التي كانت الأنثى الوحيدة، أن يقع اختيار نحت رسم فينوس منقوص الذراعين وعليهم إضافتهما في الرسم . فاستحسن الجميع الرأي، لكنها استطردت، بأن تكفيهم معاناة اختيار شكل الذراعين باختيار ذراعيها هي . وقبل أن يبدأ أي منهم موافقة أو اعتراضا فاجأتهم بأن تكون هي المثال، الصورة الحية في شكلها الطبيعي النابض حياة، لا صورة نحت جامد من القرن الثاني قبل الميلاد . ولما ساد صمت الجميع أضافت بأنه يمكن عرض نحت فينوس وجسدها كمثالين وعلى كل منهم اختيار الشكل الأقرب إلى نفسه"ص31 .

 

ولو نظرنا إلى هذه المسألة من زاوية فنية - أخلاقية لا لاحظنا تطور تجربة نجوى الفنية وامتلاكها للبعد الثالث من خلال " التجسيم الفني " إذ تنحو شخصية الرواية نجوى الحسيني نحو " التجسيم الفني " أو "النحت التشكيلي" الذي هو في معناه العام " تجسيد بالصورة لكل ذي روح أو جماد أو نبات أو مناظر طبيعية .. سواء كان النمط الفني التشكيلي لوحة مرسومة أو محفورة، أو تمثالا هيكليا مجسما لشيء ما .. ولكن الرسم كامل التصوير محرم .. يباح منه الجسم ناقصا .. وليس كاملا مع استبعاد العورات بالطبع " (2)،  فالتجسيم التشكيلي محرم في حكم الدين الإسلامي، لكن نجوى الحسيني التي كانت تنحو نحو التمرد على القوالب الثقافية كانت تجنح نحو رسم صورتها عارية على غرار التمثال من الرخام، وبما أن تمثال "فينوس" كان مبتور الذراعين فقد اقترحت على زملائها الشباب أن تتعرى في دار الثقافة، مع إضاءة خافتة لنصفها الأسفل لكي يرسم جسدها النابض بالحياة والجمال، وبما أن هذه الوضعية تتطلب جرأة وتجاوز حاجز الخوف لإدراك "البعد الثالث" في فن الرسم عبر "التجسيم الفني" فإننا نلاحظ تطور تجربة نجوى الفنية بعدما كانت ترسم لوحاتها بتسرع وفي غياب اكتساب تقنيات الرسم، فهذه الحركة أدت إلى بداية النضج الفني عند نجوى وعند زملائها الذين تطوروا وأصبحوا معروفين في ما بعد : " وتذكر بين الحين والآخر التطور الجلي في رسوماتها " ص43 . " وبعد مضي عشرين سنة على هذه الحادثة، فإن بعض هؤلاء الرسامين لا يزالوا يعترفون أن تلك الواقعة وراء تحولهم من مرحلة الهواية إلى فنانين مشهورين " ص35 .

 

فتمثال فينوس هو اللوحة التي فقدت روحها، هو التمثال المتحجر المبتور الذراعين والمنقوص في آن، في حين أن نجوى التي كانت ترى بأن وجودها الثقافي صار ناقصا بعد ميلادها بانحلال الحكم الملكي الحسيني، كانت تبحث عن الروح المحتجبة، والعري هو الذي يسترجع قدسية هذه الروح الغائبة، فتنبعث وتتكشف .  فالرسام هو نواة الرسم لذلك كانت نجوى هي الرسامة وموضوع الرسم  .

 

هذا ما قرأناه ضمنيا في بداية الرواية لكن استعادة تلك الواقعة من طرف نجوى وهي تعيد سرد تفاصيلها وأهدافها وأسبابها ما يجعلنا نفهم منها رسالة التمرد والرغبة في إعادة الحياة للتمثال الحسيني الذي فقد الحياة والحركة : " واقعة الرسم كانت جزءا من الانتقام، يدفعني الجرم الغريب إلى ذلك السلوك العدائي . أعيش في دوامة، أسحب إلى تيه دون إرادتي، ولعل تاريخ ميلادي رأى فيه البعض نكبة على العائلة الحسينية، ما جعل بعضهم يتشاءمون مني، وأرى في الأميرة المخلوعة التي لو طال زمن حكم العائلة لكانت أميرة الأميرات . ويتداخل الكبرياء بالعداء، ويضيق في فضاء البيت، فأهرع إلى الرسم فالتمثيل فالرياضة، .. لا تتصور ما يعتريني وأنا أحاول النوم، تتدافع علي الهواجس، ترسبات واقع وتهيؤات، فإذا سادني الكرى أقع في مخالب وأنياب ودبابيس وهاويات الكوابيس، فإذا استيقظت فزعة تراءت لي صورة فينوس التمثال المبتور الذراعين . تهيأ لي أن هناك رسالة ما، حكمة ما من سبي جدة والدتي وميلادي وشغفي بصورها التي كست حيطان غرفتي . لم يكن من السهل الاهتداء إلى الرسالة وتطلب مني تفكيرا لمدة سنوات حتى اكتملت الصورة الرسالة ومضمونها .. إنني لم أبعث سدا .. فأنا سليلة فينوس .. جمالا وبهاء وسحرا .. وعلي أن أحافظ على هذا الجمال مهما كانت التضحيات " ص179-180 .

 

فدافع واقعة التعرية له أبعاد سياسية وهي إعادة الحياة لتمثال فينوس الذي تتطابق ملامحه مع صورة الجدة، والواقعة امتداد لكوابيس الموت ومحاولة الاستعاضة عن الكوابيس بالحلم، ولكننا ضمنيا نفهم أن ذلك الحلم عصي عن التحقق لأن الواقع السياسي الجديد (وقتها) مرجع واضح لتلك اللاعودة للماضي . ولكن التأشير الرمزي في الرواية يشير إلى ضيق الرؤية انطلاقا من تصفح صورة أم نجوى العاجزة والتي شل نصفها الأسفل وانصراف والدها للهو . فالتعلق بصورة الأم، والجدة تعلق بالموروث الثقافي للحضارة العثمانية، وتعلق بسلطة الأنساق المتحجرة التي لم تعد قادرة على الحركة تماما كالأم الذي شل نصفها الأسفل، وإقرار برؤية جزئية لهذا الماضي الذي تعطل عن الحركة . " القاعة المحتضنة للورشة مغلقة، ونصف مضاءة بشكل يجعل الرسامين في دائرة الضوء، بينما نجوى اكتفت بإضاءة جزئية لشعاع الشمس المنبثق عن نصفها السفلي " ص32 .

 

2 - الرؤيا الرومنسية في تشكيل اللوحة

على خلاف الرسامين الذين وطؤوا عالم الشهرة إثر واقعة تعري نجوى فإن زميلها فوزي الشربطي  اختلت مداركه العقلية إثر تلك الواقعة  " من يومها أصبح لا يرسم إلا أشكالا أنثوية مجزأة، جسدا بلا ذراعين، أو بلا رجلين، أو بلا رأس، او رجلين عوض اليدين، أو يدين عوض الرجلين ..." ص 35 .

 

وبعد عشرين سنة من تلك الواقعة وحين التقى اسكندر بمعية نجوى الحسيني مع ذلك الرسام كانت الرؤية للجسد رومنسية، نستشف منها رؤيا الفنان نحو عالم الجمال : " واصلنا سيرنا إلى أن بلغنا شاطئ قرطاج . كان هناك يعتلي مرتفعا صخريا ممتدا في العمق، أشعث الشعر، كث اللحية، يجلس على حجر ويضع لوحة رسم عذراء على ركبتيه . اقتربنا منه دون قصد، انتصبنا أمامه، لم يكترث في البداية، لكن لما تمعن فينا قال دون أن يصدر عن ملامحه أي تعبير .

 

- أخيرا جاءت فينوس، لماذا أنت بهذا المسوح، عودي إلى عريك المقدس .

قالت نجوى وهي تجلس أمامه وقد بدا في عينيها استياء :

- أنا نجوى أنا الأميرة يا فوزي.

- بل فينوس إياك أن تخوني عشاقك، فتهبي جسدك لأحدهم، أنت رمز العذرية، ليس من حقك التفريط في عذريتك لأي كائن دنيوي .

قالت نجوى : لكنني إنسانة .

- بل معبودة منذ آلاف السنين، ألا ترين أنني منذ عشرين عاما لا أرسم غيرك، ذلك هو الوفاء، كنت أنتظر قدومك من أعماق البحر، تتوسطين صدفه ومرجانه، وتحوط بك هالة الزبد، تظللك أسراب البجع، والعري المقدس يجللك، لكنك خيبت الأمل " ص160-161 .

 

فوزي الشربطي ينفلت عن وعي اللحظة الزائفة، فهي في تجليها تنعتق عن الفضاءات الواقعية والرمزية نحو الأماكن الطبيعية الرومنسية، وتنأى عن التصاميم المعمارية ذات الملامح الثقافية التي أنتجتها الذات الثقافية الاصطناعية لتنعتق إلى فضاء أنطولوجي يحيل إلى السمو والاطلاقية .

 

إن الرؤيا الرومنسية، هنا، مرتبطة باللوحة الآلبرتية التي تصور حلول الإلاه في جسد المسيح، و اللوحة العذراء هنا تؤشر للوحة الآلبرتية فالبجع "يشير إلى المسيح لأنه يأكل  من لحمه ليطعم  أطفاله" (3) : " تظللك أسراب البجع "،  من هنا تقاطع وجود الرسام فوزي الشربطي مع وجود الراوي وهو كاتب قصصي وروائي، وهو الذي وجد في تفاصيل حكاية نجوى واسكندر الكوكي وابنته مريم ما يغري بكتابة رواية .

 

3 - قداسة العري :

 وعبر العري يرسم الكاتب المرأة في صورتها النارية، فنجوى التي سافر حبيبها اسكندر الكوكي لباريس ليعيش علاقة مع إبنة خالته ايفان، لحقت به هناك، وتعرت أمام ايفان وسحبت اسكندر إلى الغرفة ، و هي صورة تتنافى مع رؤية الرومنسي فوزي الشربطي "المرأة المشتهاة تبقى في حالة عري دون ضجيعة"، فهي صورة للمرأة الباحثة عن روحها القدسية الخالدة .  ففي العري يكشف الرسام عن عناصر الضياء والتوهج في الجسد، ولكن قداسة العري قد تعود بها إلى اللحظة التاريخية التي كانت تقدس العري المقترن بالجنس . ولكننا نفهم من هذه الواقعة  أن اسكندر كان يجد في جسد نجوى الروح على خلاف ايفان، وحين تمتد الروح الخاصة في الجسم وتحيل إلى الوجود الدائم حيث تستوي الذات المبدعة مع الخلاق في الديمومة، يحدث هذا في وضعيات طقسية معينة مرتبطة بعاطفة نجوى تجاه إرثها الحسيني، وما التعبير عن هذه العاطفة إلا تأكيد لاستمرارها وتدفقها، والنأي عن التصلب والتحجر إلى حالة الذوبان . ومن ثمة فهذا التزاوج الحسي هو توق للتحرر من جمود اللحظة الآنية نحو الحلم بواقع مختلف، قد يكون البديل السياسي في ذهني الطرفين .

فهو أشبه بطقس العري الذي هو من سمات الإنسان في حالته البدئية، تشي من خلال المعنى المعلن رفض التراكمات الفكرية والسياسية للفترة التاريخية التي عاشاها، بحثا عن روح البدء، واسترجاع لتلك الفترة الموغلة في احتجابها، فتعلقها بموروث العائلة الحسينية كتعلقها بالآلهة، وتعلق اسكندر بها كتعلقه برحم البحر وآثار قرطاج، فعبر العري يسترجعا  أحداث الماضي التي صنعها أجدادهما، لتعطيهما تفسيراعن أسرار وجودهما وأسرار بعثهما لإعادة مجد الاجداد .

 

4 - قداسة الرقص

 لا يقتصر فعل التعري على التجسيم الفني، وكنه رؤيا الحياة، واكتشاف قداسة اللحظة التاريخية فحسب بل هو فعل، والرقصة كما عهدناها في الرواية من خلال وصف نجوى لحالة تجليها هي عبادة للقوة التي تسكنها تحيلنا إلى طقس طهوري بجانبيه الجسدي والفكري، فهو طقس حركي - فكري يؤدي إلى صهر الروح المصقولة في الجسد والتوحد بينهما، هو طقس روحي عميق تتصلب عبرها  وتؤكد ذاتها . " اندمجت في الرقص التعبيري إلى حد جعلني أنسلخ من المكان والزمان، وأعود عبر اللوحات إلى ميلاد فينوس من لجج البحر وزبده، اختيارها من الأمير الطروادي باريس كأجمل الآلهة، رعايتها لأنياس بعد خراب أليون عاصمة طروادة، وحلوله بقرطاج وزواجه من عليسة بمشيئتها . كنت أنا هي وهي أنا ... ولم أكن متطفلة على المكان، ولا أقوم بدور للتسلية، بل إني في قصري، أرقص له وله وحده بعد غياب" ص183

 

نلاحظ في هذه الرقصة حركات جسد الأنثى، الحاضرة في حالتها البدية المتقدة بالشهوة، بحثا عن معنى لا يحيل إلى الشهوة بل طلب ما لا يرى، الغائب، والمسكوت عنه . ورقصة الجسد قد تشير إلى تمثلات ديونوسية عبر إزالة الحواجز والقيود الحسية والنفاذ إلى عالم من الفيض الروحي، وقد تكشف عن تمثلات أبولونية تتميز بالتجلي ولكن دون إزالة القيود والبقاء في دائرة الوعي . فتنفلت رغبة نجوى في تفحص المعبد، خارج سلطة المقدس، تصدر عنها حركة آثمة في نظر السيد تكشف عن صورة أخرى للحياة التي تراها تهتك الصورة الآنية وقد تربع السيد في عرش المعبد، وقد دعاها للعشاء معه وسألها عن أصلها وفصلها وتاريخ عائلتها المتسم بالاستبداد وهنأها بالرقصة التي كانت تدور فيها حول مركز ذاتها .

 

5 - الرسم الحائر

 في المقابل تنقل لنا اللوحة وعيها باللحظة التاريخية المبهمة  : " هناك شيء لا أفهمه في بعض اللوحات، يبدو كأن هناك حيرة متسلطة على الأميرة، تنفلت منها لتتجسم في هذه الرسومات رغما عن التوجه العام لمضمون الصورة، ومهما تحاول غمطها، فإنها تتمرد عليها، فتبرز من خلال الأشكال أو الخطوط أو الألوان " ص62 فإذا باللوحة حائرة : " الحبيب يلاحظ بعينه الفنية النافذة أن عددا من اللوحات تلوح منها حيرة خارجة عن إطار المضمون، لن يتفطن إليها إلا المتمكن من هذا الفن، أشكاله، خطوطه، دلالاته حيرة متسلطة عليك فلا تقدرين على التخلص منها . "ص 64 .

 

تكشف اللوحة عن الانفصال والاتصال بين الوجود والعدم، بين الماضي والحاضر، فإذا باللوحة تقوض الظلال الروحية لأسطورة "فينوس" وهي تسترجع مكانها في المعبد، وإذا بالقلق يستبد باللوحة، وإذا بالمعنى يغيب في هذه اللوحة المثقوبة بالمآسي . اللوحة لا تكشف، ولكن الصور الفنية المرسومة تضيء اللحظة الغائبة المحتجبة بالصورة : " رسمت معالم المدينة العتيقة، والطبيعة والصناعات التقليدية، وعلى غيري من عاش في غير هذه الأماكن أن يرسم البداوة والحرف وغيرها . وفعلا هو حنين إلى ماض يسكن ذاتي " ص63  . فالاقتراب من المعبد لم يزد نجوى إلا وحشة، في المرحلة التي طمست وحجبت روح نجوى .

 

رؤية الكاتب

اللافت في تجربة الكاتب الناصر التومي في رواية "الرسم على الماء" استلهامه للتراث، فهو يمزج الأحداث الحاضرة بروح الماضي حيث تستبطن الشخصيات روح الشخصيات التاريخية بدءا من تاريخ قرطاج وصولا إلى تراث الحكم الحسيني حيث " الرسم على الفن " هو فن تركي من أصل ايراني، كما يستقدم الكاتب أجواء الحكايات الأسطورية وتعويضها بالرمز، فكتاباته محملة بالعشق للتاريخ القديم والحديث باحثا فيه عن إشراقات الروح سواء تم ذلك من خلال استلهام حكاية تاريخية أو أسطورة أو عملا فنيا، وتلك اللحظات المشرقة غير منفصمة عن يقين البدايات، إلا أنه لا ينجرف إلى مرافئ اللامعقول لكنه ينطلق من وقائع قصة أو حكاية باحثا لها عن أبعادها الذاتية التي تشدها إلى نواة وجودها كذات لها تاريخ، تحفر في حيثياته لتعيد بناء منطقها .  ولكنه يكشف عن رؤية واقعية في كتابة الرواية حتى لا تجنح نحو الخيال الصرف، وحتى لا يغفل على تفاصيل الواقع وتفاصيل المرحلة التاريخية التي كتب عنها والتي تمد من تجربة التعاضد إلى منتصف الثمانينات من القرن الماضي .

 

 بما أن الواقع وحده ما عاد قادرا على تفسير التاريخ فإن للأسطورة دور مركزي  في نحت كتابة  تنطوي على جوانب كبيرة من التخييل والتخيل . وهو يستعرض تفاصيل الماضي كان اسكندر يشير إلى عشق نجوى لتاريخ عائلتها ورغبتها في معاودة الدخول إلى المعبد الذي لم يعد مفتوحا لسلالتها . وفي العودة إلى حكاية المسرحية والعودة إلى قصة "صلامبو" مع المرتزقة، فهو يعود إلى حكاية تاريخية كان الناصر التومي قد أعاد كتابتها في مجموعته القصصية " حكايات من زمن الأسطورة " (4):

 

وعبر رقصة فينوس يسترجع الكاتب الناصر التومي تدخل الآلهة فينوس وهي تحيك قصة الحب بين شاب طروادي فقد موطنه وعليسة، لتجمع نجوى تفاصيل الماضي، وتحوله إلى حلم يراودها لاسترجاع قداسة العشق الجسدي في قصر عليسة بقرطاج، فالترميز لإعادة نسج تفاصيل الماضي ما أدى بنجوى لرغبتها في إعادة تمثل المكان المقدس . وحكاية عليسة منحوتة أيضا في المجموعة القصصية للناصر التومي " حكايات من زمن الاسطورة "

ويبني الكاتب ناصر التومي روايته اعتمادا على فن القص، فهو وإن تأمل كراو مشارك ومتلق لأحداث الرواية فلم ينخرط في الوصف فحسب، بل إنه حول من اللوحة العذراء إلى نواة للقص والوصف في آن، حيث أن بطلته نجوى الحسيني توفيت وهي عذراء في آخر الرواية وحيث أن اسكندر الكوكي الذي لم تتزوجه وتزوج بغيرها أنجب فتاة تتطابق معها في الصورة والملامح، فالصورة أو الرسم أو اللوحة هي رجع الصدى لللوحة الآلبارتية، التي يؤشر الكاتب لها في حديث مريم : " كبرت مريم، هالني الشبه الكبير بي، شيء لا يصدق، لم تكن تربطني باسكندر الكوكي قرابة ما، فما الذي وراء هذا الشبه الخرافي . في ليلة أرقت مفكرة في المسألة التي لا أجد لها تفسيرا، وخاصة شغفها بالرسم منذ الصغر . ولما غلبني الكرى لمحت طيفا غير واضح الملامح، لكن حجبا كانت ترفع الواحد بعد الآخر، إلى أن تجلت تمتطي صدفتها البحرية، تحوط بها فقاقيع الزبد، وتظللها بجعات ناصعة البياض " ص194،  وهذه الصورة مرآة لتكشف فوزي الشربطي على الذي لا يرى، فهو يسمو على البشر العاديين الذين عرفوا الرسم، ولكنهم لم يعرفوا الصراع بين الواقع والمثال وانخرطوا في نسيج التجربة الاجتماعية بسطحيتها .

 فنجوى التي تصورت خالية من الروح  بعد عشرين سنة من واقعة التعري يصورها الرسام فوزي الشربطي إلى مثال ليعيد إليها الحياة (الرؤيا والتأمل أمام البحر)، فالكاتب يسرد حكاية فوزي الشربطي ويجعله يعود إلى صفحات الرواية في قسمها الأخير بعدما ظهر في بدايتها إذ ارتج نتيجة حادثة التعري،  فماء البحر في إعادة ترتيب حروفه  . هو الأم القادرة على الولادة، و ترميز لنجوى العذراء التي لم تلد من رحمها بل من رحم اللوحة صورة للإعجاز، فاللوحة ترسم هنا بماء الولادة، ماء الكائنات المؤنثة والمذكرة تصاحب تباشير الألم والسعادة ومن ثمة كانت ملحمة ولادة " مريم " ملحمة دموع وفرح في آن .

فالكاتب الناصر التومي يتقاطع كراو للقصة بما أن راوي القصة هو روائي وقاص ويجنح نحو الكتابة الواقعية : " كانت الأخبار تصلني عن نجوى واسكندر متناثرة، متضاربة من سنة إلى أخرى، لكن تشكلها أوحى لي بالرواية، قصة حب بين شابين، بدأت بالضاحية وانتهت بها، رغم استقراراها بأوروبا طيلة عشرين سنة . لم أكن عجولا، انتظر النهاية كيفما كانت، ولعلي ذهبت في البداية إلى منحى رومنسي بحت في زمن غريب عنها . ولكن واسكندر يطلعني على الأحداث تقوض ذلك المنحى، وهيمنت الواقعية الجديدة القادرة على استيعاب كل التيارات وهضمها " ص168، والرومنسية جلية في هذه الرواية من خلال شخصية الرسام فوزي الشربطي في البحث عن العلاقة بين المرئي واللامرئي انطلاقا من الرسم على الماء، وانطلاقا من الانفتاح على فضاءات طبيعية وعلى أماكن تاريخية وأسطورية هي فضاء للرؤية، ومن خلال انكشاف حلم نجوى من خلال شبيهتها مريم . والأهم من ذلك من خلال إفصاح الراوي عن حبه الدفين لنجوى الذي لم يتجل سابقا نتيجة إحساسه بالفوارق الاجتماعية ونتيجة احترامه لعلاقتها مع اسكندر الكوكي، وتبرز رومنسية الراوي في استجلاء أحاسيس القلب . فهذه العاطفة بمثابة المساحة الفاصلة بين الحلم والواقع، وذلك ما سيخلق لحظة التحول الحقيقية في حكاية الراوي في الرواية، ويبعث على قدرته الفنية على الخلق والتشكيل من خلال الرواية .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1287 الخميس 14/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم