قضايا وآراء

حين يستغيث الأعزل في غياب بهجته .. تأمل في قصيدة (استغاثة اعزل) للشاعر جواد الحطّاب

الحطاب ضخ مفرادته الشعرية من واقع معاش جذوره فقر وحصار وحروب  ونساء لتكون ثيمات رئيسية .  وبالرغم من تعدد الثيمات الحطابية إن جاز التعبير فلي أن أسجل هنا  قصيدة (استغاثة اعزل) والتي كتبها في رثاء الشهيدة الصحفية اطوار بهجت استحوذت على بقعة واسعة من مساحة تحسسي الشعري.

  تنتمي هذه القصيدة الى السهل الممتنع في النثر، سهل يفتح الأفق بين رغبة اطوار في ان يكتب الشاعر عنها قصيدة وبين ندم الشاعر على تماهله في تحقيق تلك الرغبة، من هذا الأفق المتحرك على الجانبين كجناحي اسطورة  تولد اطوار ــ المرثية حلا وسطا بين خذلان ورغبة فائتة .

 ها انا البّي امنيتك اخيرا؛ واكتب عنك قصيدة 

لكنها؛ ويح اصابعي؛ مرثية

 

يحاول جواد الحطاب بقصيدته هذه ان يترك للنثر حرية التجوال في دخيلته او دخيلة الشاعر المكوية بالندم والحزن لتكشف الاماكن القصية في المجهول بحثا عن تبرير تارة بحضور الموت في العراق عموما واخرى في الكينونة التي اسمها اطوار التي  يفيد الشاعر من صيغة الجمع في الاسم (اطوار)، ليسحبها على  الحياة في العراق التي مرت بعد الاحتلال باطوار عدة وهاهي (اطواره) المراسلة تقف معادلا موضوعيا للعراق المبتلى بكل هذا الظلم، لاسيما عندما يكون القاتل جاهلا يريد المذيعة لكنه ينال من مراسلة

وساعة داهموها صارخين (اين المذيعة) احسّت بالخذلان ..

فالذي لا يفرّق بين (المراسل) و(المذيع) ويحمل رشاشة آلية

هو قاتل بالتاكيد ..

 

انها صرخة الوجدان الجمعي التي يكثفها الحطاب وهو يحتطب الحياة من غابة الموت ليمنحها لاطوار بهجته التي لم تكتمل، ويحاورها في لحظة تكثيف يختلط فيها النثر بالشعرية البسيطة اذ لاوجود لانزياحات مركبة بل هي انزياحات ابتدائية تواكب ايقاع رحلة اطوار بهجت من عالمنا المجنون الى عالم الشهادة .  كما ترى القراءة المتأنية في تكرار السطور مع لعب طفيف في التركيب له وظيفة تركيم المعنى والدلالة، فضلا على لفت الانتباه إلى المتغير حتى في قيم انسانية رئيسة كقيمة الرجولة، إذ نقرأ:

ما انتن الرجولة

            حين تنفرد الرشاشات بامرأة ..

 

ما اتفه الرجولة

           حين تنفرد رشاشاتها ب .. امرأة

 

ما اقذر الرجولة

حين يكون مجدها ؛ صرخات امرأة

 

ويعزز الحطاب معنى القبح في العالم الجديد في القصيدة باعتماد لفظة غاية في الدقة ويضعها بين  قوسين لتوكيدها وتعميق دلالتها، إنها  لفظة (السمكري) التي تأتي في محلها متوافقة بحرف السين فيها ب(سين) الأجساد التي تليها، إشارة صارخة لتحول الانسان من قيمة الى رقم او شئ محض، فلا قيمة لروح ولا لمستقبل، فهو عالم متحوّل لكن إلى القطب السالب، وبتحوله هذا يتحول الانسان فيه الى مادة قاسية لا يصلح لمعالجتها سوى الـ( سمكري):

 

القادمون من العتمة ..

الهواة ب (سمكرة) الاجساد

نصبوا الكمائن للغزالة

وتراهنوا :

             خارطة العراق على صدرها

             ذهب

             ام ..

             شبه ؟!!

 

السمكريون؛ الهواة

اشتغلوا؛ بغطرسة ؛ على جسد الغزالة

واكتشفوا..

ان الخرائط

               : من بهجة

                 واطوار ..

 

يقنع نفسه الحطاب بان استشهاد اطوار ارادة الهية اذ انتخبها الله لتكون عيناها قناديلا تضئ الجنة

 

وماذا في رحيلك يا قدّيسة

: عينان خضراوان

  واحتاجهما الله

  لأضاءة ليل الجنة

 

هذه القصيدة رثائية من عاشق نادم على تأخره في الغزل ربما، غاية الرقة،  غاية الحزن،  غاية الندم، غاية الألم وغاية الانكار والاستنكار،  فموت اطوار يوقظ في الشاعر شاعر آخر خفي له في كوامنه بغض للمفخخات والعبوات والرصاص الغريب، كل شئ قاتل هو وافد الينا وليس نابعا منا .

 

ولاينسى الحطاب كما في معظم قصائده في الاكليل ان يحتطب من الميثولوجيا القرانية سياقات معاناة يوسف من اخوته، كما لو انه يدين العرب جميعا لما حصل لبلده ويرفع اطواره الى مصاف الانبياء

    

ورغم انها بلا اخوة؛ ولم تقصص رؤياها على المرآة

       الاّ انها رأت اكثر من كوكب يسجد

.. لكنه (الغراب) هذه المرّة ؛ وليس (الذئب)

......

يا يوسف ..

الف ذئب من ذئاب اخوتك

ولا غراب واحد؛ من غربان (ساء من راى)

 

ها هنا تحديدا ينطلق إعلان  المفارقة. اذ يتحول اسم (سر من رأى) الى (ساء من رأى) حركة خفيفة لكنها بغاية الذكاء في تحريف الاسم تفتح الدلالة على مصراعيها وتضيف للطبقة طبقات وطبقات.

 

كانت( سر من رأى) رمزا للعراق كله، وفي لحظة اغتيال الغزالة (تسيء). وبرغم ذلك  تبقى  اطوار في إطارها الرمزي، لا تغادره، بل تتجذر في الفجيعة رمزا ايضا للشعب كله، الشعب الذي سلبه اعداؤه وكثير ممن كان قبل الاحتلال اصدقاءه :

وياطور بهجتنا ..

تكاثرت انفلوانزا الاشواك في مزهرية الطيور

فضعي (حجابك المدمّى) على عين العراق

عله يبصر الفاجعة ..

 

 

نعم إنها (استغاثة اعزل )، قصيدة نثر تأخذ شكل خارطة، انى اتجه المتلقي اومأت له اطوار الحطاب من على تضاريس النص،  ليعززها  النداء مرات عدة في سياق تعزيز الاستغاثة (ياطفلة، ايها الشعراء، يايوسف، ياطور بهجتنا) .

 

في عالم يسود فيه الموت والخراب لابد ان ينطق شاعر مثل جواد الحطاب بابجدية الموت والرصاص

ليدون تاريخ شعب بلغته الخاصة . التاريخ  كما يقول العقل الواعي تصنعه الحروب، من هنا يستعير الشاعر صوت الجمهور:

 

وفي نهاية كلّ يوم

ينعب ؛ في خرائب روحنا ؛ البوم

فنمرّ على بنادق القناصة

       ونكتب اسمنا على رصاصة

 

هذا وتنوي القراءة مستقبلا تقصي الاتجاه البوليفوني في هذا النص المنبثق من اصوات متداخلة عدة تحل محل صوت الشخص الاول المفرد (ضمير المتكلم) اذ فجأة نكون أمام صوت في صيغة الجمع (نحن) بهدف  تعميق الفاجعة وتهويلها وتلك وظيفة من وظائف  الشعر التي تنتعش وتنعشه بالمبالغة .

 

في سامراء

لا ننتظر الظهور

في سامراء

نكرر الغيبة

 

هذا  المقطع الاخير، خاتمة الحكاية، قراءة المستقبل؛ من الان فصاعدا كلما زرنا سامراء سنشهد غياب تلك القيمة الحضارية التي طالما تحلت بها ولن نشهد بريقها الذي كان يشهده العالم على مر التاريخ، وانقطع فجأة بفاجعة تفجير المرقدين ومقتل اطوار بهجت، تماما كما حصل القطع المفاجئ بين عراقي ما قبل الاحتلال وما بعده وأحلاهما مر، فضلا على الدلالة العقائدية التي تقول بظهور المهدي المنتظر من سامراء، ولكن الحطاب يختم سياق تاريخه بختم الفاجعة فينفي بالقطع تحقق تلك النبوءة بعد الآن.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1291 الثلاثاء 19/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم