آراء

كيف سقطت بلاد الشام في مستنقع الفناء الكبير والطاعون الأعظم

محمود محمد عليشهد التاريخ الإسلامي، العديد من الأوبئة التى ضربت الممالك الإسلامية وحصدت الكثير من الأرواح، وكان لكل وباء قصة وأثر كبير فى الأمة الإسلامية، سواء على المستوى الاجتماعى أو السياسى، ومع تفشى فيروس كورونا "كوفيد 19"، أصبحت النظرة للماضى وكيف عانى العالم من انتشار الوباء، وكيف حاربوه، وعدد الضحايا الذين ماتوا بسببه، وسيلة البعض لمحاولة فهم كورونا ذلك الفيروس الغامض القاتل، ومن بين الأوبئة التي ضربت الأمة كان وباء الفناء الكبير والطاعون الأعظم.

وتعرضت بلاد الشام في عصر دولة المماليك الأولى عام 748هـ/1347م لطاعون اجتاح معظم مناطق بلاد الشام ومصر وأوروبا ولشدة فتكه وسعة انتشاره أطلق عليه اسم " الفناء الكبير" أو " الطاعون الأعظم"، وأفنى سكان مدن دمشق وحلب وصفد والقدس والكرك وعجلون وبيت المقدس ونابلس والسواحل وجنين والرملة وعربان البوادي، استمرت الطواعين تفتك في منطقة بلاد الشام  ومصر خلال فترة المماليك الجراكسة منذ قيامها عام 784هـ /1382 م وحتى قبل بثلاثة سنوات، وذلك بحسب دراسة بعنوان "الأوبئة (الطواعين) وأثارها فى بلاد الشام فى عصر المماليك الجراكسة"  لمبارك محمد الطراونة.

وبحسب الدراسة كما يقول مبارك محمد الطراونة ؛ أنه منذ اعتلى السلطان "برقوق" عرش السلطنة المملوكية عام 784هـ/1382 م وبدأ حكم دولة المماليك الجراكسة أصيبت مدينة دمشق بالطاعون الذي حصد العديد من سكانها. وأعقبه عام 787هـ/1385م وباء عم مدينة حلب وضواحيها أهلك الكثير من البنات والنساء حتى ربت أعداد الموتى على ما يزيد على الألف . وبعد مرور ثلاثة أعوام على خلو بلاد الشام من الأوبئة أصيبت المنطقة عام 490هـ / 1388 م بأوبئة وأمراض كثيرة تفشت في غزة والقدس وحلب، . وقدرت أعداد الوفيات في مدينة دمشق وحدها باستثناء الضواحي بخمسـة آلاف شخص.

وانتشر في حلب عام 795هـ/1392 م ما أطلق عليه لعظم تأثيره اسم الفناء العظيم كما يقول مبارك محمد الطراونة ؛ حيث كان يحصد يوميا من الرجال والنساء والأطفال ما يقدر بخمسمائة إنسان، وبحصيلة نهائية من أول انتشار الوباء وحتى نهايته بـ 150 ألف شخص داخل مدينة حلب، ومائتين وعشرة آلاف شخص من نواحي حلب وقراها، واستمر الوباء يفتك ببلاد الشام حتى عام 796 هـ /1394م فأصاب بيروت وشمال الأردن والأغوار وغزة وأدى إلى هلاك أعداد كبيرة من الأطفال والصبيان وكبار السن.

وبعد انقطاع مدة تسع سنوات عاد " الفناء العظيم " ليفتك بالمنطقة في عام 805 هـ/1402م وافني أعدادا كبيرة من السكان في معظم بلاد الشام. وبعد انحسار الوباء مدة سبع سنوات " 812 هـ/1409  م تفشى الطاعون في كل من حمص وحماة وطرابلس، وأمات أعدادا كبيرة من، وقد أحصى المقريزي في كتابه "درر العقود" من توفي في مدينة حماة من الصبيان مدة  الناس ثلاثة أشهر بسبعة آلاف صبي. واستمر الوباء يفتك ببلاد الشام؛ حيث عم طرابلس وحوران، ودمشق وضواحيها، كما انتشر في بداية عام 813 هـ / 1410م ببلاد فلسطين وعجلون ونابلس، ولم ينقض العام حتى مات "خلق كثير جدا، وانتهى تأثيره في مدينة دمشق عام 814هـ /  1411م بعد أن قضى على ما يقرب من خمسين ألفا "غير مما لم يعرف ويحصى ".

وفي عام 816 هـ /1413 م تفشت الأمراض الكثيرة في دمشق، وانتشر الوباء الذي وصف بالعظيم في كل من حلب وحماة وما كاد يتعافى السكان من آثاره وويلاته مدة ثلاثة أعوام حتى وصلت جراثيمه إلى مدينة دمشق عام 819هـ / 1416م، وكانت الوفيات كثيرة قدرت  بحوالي مائتين شخص يوميا، وانتقلت عدوى الوباء إلى كل من مدن القدس وصفد وطرابلس  وقدر ابن الصيرفي أعداد المتوفين في بلاد الشام بستة وثلاثين ألفا وبلغ من توفي في مدينة  طرابلس وحدها في عدة أيام حوالي عشرة الآف فرد.

أٌطلق على الطاعون الذي أهلك أعدادا كبيرة من الشباب عام 825 هـ / 1422م اسم طاعون الشباب، وقد كان ابتداؤه من مدينة حلب على شكل وباء انتشر في كل من حمص وحماة، ومن كثرة عدد الوفيات كادت بلاد الشام أن تخلو من أهلها،وازدادت أعداد الوفيات في العام التالي 826هـ/1423م، وبخاصة في مدينة حلب؛ إذ بلغت أكثر من خمسمائة شخص في اليوم الواحد معظمهم من الأطفال، وبمرور عدة أشهر على ابتدائه انتشرت عدوى المرض في مدينة حماة ومات فيها خلائق لا تعد، وانتقلت العدوى بعدها إلى دمشق وأماتت من أفراد عائلاتها إعدادا كبيرة جدا؛ فقد ذكر المقريزي أن أعداد من توفي بصالحية دمشق وحدها يزيد على خمسة عشر ألف إنسان، وأحصى من كان يسجل في ديوان دمشق من الموتى فكانوا ثمانين ألفا منهم ست الآف بنت عذراء، وبمعدل مائة شخص يوميا طيلة انتشار الوباء . كما استمر الوباء في الانتشار في معظم مدن بلاد الشام، فوصل غزة التي كان يموت فيها يوميا أكثر من مائة إنسان معظمهم من الأطفال والخدم والنساء حتى خلت الدور منهم، وأما الرملة فكان يموت منها يوميا خمسون فردا، وبلغ عدد الموتى في مدينة القدس ثلاثين شخصا، ووصل بلاد الخليل والكرك كما يقول المقريزي حتى "تلاشى أمر مدينة الكرك وخربت قراها.

وفي الأعوام 831هـ /1428م، و823هـ /1429م، و833هـ /1430م تفشت الأمراض والأوبئة بين أهل بلاد الشام وبخاصة مدن دمشق وحمص وحماة .وكانت شديدة التأثير والفتك في كل من غزة والرملة والقدس وصفد، ومات بسببها خلائق شتى أغلبهم من الأطفال والشباب، ووصف المقريزي وباء عام 833هـ /1430م بأنه يشبه النزلات التي تنحدر من الدماغ إلى الصدر، وتكون أكثر فتكا بالأطفال والشباب ويموت المصاب في أقل من ساعة من غير ظهور أعراض المرض علية.

عاد الوباء ليعم معظم منطقة بلاد الشام في عام ٨٣٨هـ/١٤٣٤م واستمر السكان يعانون من نتائجه السيئة عليهم حتى عام 841 هـ /1437 م؛ إذ اشتد تأثيره وعظم فتكه مبتدئا من مدينة حلب؛ حيث حصد ما يقارب ثمانمائة إنسان، ثم انتقل إلى حماة وكان يميت يوميا مائتي شخص، وأما في حمص فكان عدد الجنائز الخارجة منها يوميا ما بين عشرين إلى ثلاثين جنازة، وخاصة من الوافدين إليها من العراق، وانتشر في مدينة دمشق وطرابلس الرطبة وصفد والغور والرملة وغزة، ولكثرة الأموات في غزة التي بلغت اثني عشر الفا، فر نائبها إلى ظاهر البلد وبنا له مخيما إلا أنه توفي فيه، ويذكر المقريزي أن الوباء فتك بسكان بلاد الشام وبخاصة من الأطفال والبنات والرقيق الإماء حتى كادت البيوت تخلو منهم في جميع بلاد الشام بأسره.

ثم عاد الطاعون من جديد عام841 هـ /1437م ليفتك بمدينة حلب، ووصف بأنه طاعون عظيم لم تعلم وفياته اليومية , ففي عام 852 هـ /1447م اشتد تأثير الطاعون في مدينة حلب وتوابعها وانتشرت جراثيم الوباء البكتيرية في مياه خندق القلعة بحلب، مما أسرع في انتشار المرض في كل من  الكلاسة وبانقوسا، وفي أغلب قرى مدينة حلب، وبلغت الوفيات في القرى القريبة من حاضرة المدينة وضواحيها نحو الخمسمائة نسمة وبقي تأثيره في منطقة حلب وقراها وتوابعها حتى عام 853 هـ/ 1448م، وقدرت المصادر التاريخية أعداد الوفيات اليومية بما ينوف على الألف فرد.

وما أن استهل عام 863 هـ /1459م حتى فشا الطاعون في بلاد الشام مبتدئا بمدينة حلب وضواحيها وأهلك فيهما ما يزيد على مائتي ألف إنسان، وأخذت العدوى تنتقل إلى المدن والقرى المجاورة حتى شمل البلاء معظم مناطق بلاد الشام مدنها وقراها وبواديها، وكان تأثيره كبيرا في مدينة غزة حتى وصف بأنه أباد معظم أهلها، وتجاوزت أعداد الموتى فيها في اليوم الواحد سبعمائة إنسان .. وواصل انتشاره في بقية المدن الشامية وتركز تأثيره عام 864 هـ/1459 م  في القدس، وتوفي بمدينة دمشق "ما لا يحصي.

ولم يمض عقد من رفع البلاء الذي حل بسكان بلاد الشام من الطاعون السابق حتى عاد من جديد ليهلك معظم البلدان الشامية وبخاصة مدينة دمشق التي زادت جنازاتها على ألف جنازة، وأما القدس وما حولها فلكثرة الوفيات تركت الجثث في العراء مدة ثلاثة أيام ولم يتمكن حفارو القبور القيام بواجب الدفن، وتطوع الناس لحمل الجثث على السلالم والأبواب لتوارى التراب. وما كاد الناس يأمنون الوباء حتى يعود على فترات متقطعة في الأعوام 881هـ /1476م، و882هـ/ 1477م حتى بلغت الوفيات اليومية في مدينة دمشق دون ضواحيها ما بين ألف إلى ألف وخمسمائة.

وبعد أن خلت حلب من الأوبئة والطواعين منذ عام 863هـ / 1459م فتك بسكانها طاعون 897هـ / 1491م أباد العديد من أهلها، ثم عم بقية بلاد الشام بخاصة دمشق التي قدرت عدد الجنائز التي خرجت منها ألف جنازة ومنها تفشى بضواحيها وقراها، ولشدة فتكه بالضواحي، والقرى كان يخرج من القرية التي تعداد سكانها العشرون رجلا تسع جنائز في اليوم الواحد واستمر الطاعون إلى عام 898هـ/ 1492 م بعد أن أصاب غزة والقدس والرملة والخليل، وكانت الوفيات في مدينة غزة أربعمائة فرد يوميا.

وفي بداية القرن العاشر الهجري / أواخر القرن الخامس عشر الميلادي هلع أهل الشام لكثرة المتوفين من طاعون 902 - 903هـ /1496 - 1497 م حتى هرب أهل دمشق من المدينة إلى الضواحي، وتوفي ببيروت خلق كثير، ولم ينقطع إلا بعد أن أفنى العديد من الأطفال والعبيد والجواري.

وبعد انتهاء آثار الطاعون تفشت العديد من الأمراض المعدية بين السكان، وهي نوع من أنواع الحميات أو الجدري أو الجرب في عامي 904 هـ/1498م، و 909 هـ /1503م وخاصة في بيروت، وفي عام 917هـ / 1511م أصاب الناس مرض الجدري ومن ثم الجرب ومن أعراضه شدة الحكة التي كانت تمنع الناس من النوم والجلوس، واستمرت الأوبئة منتشرة بمنطقة بلاد الشام حتى رفعها الله عن الناس عام 919هـ/1513م.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

........................

المراجع

1-  محمد عبد الرحمن " الفناء العظيم" وباء فتاك ضرب دولة المماليك الجراكسة.. هل سمعت عنه؟ (مقال منشور باليوم السابع المصرية).

2- مبارك محمد الطراونة : الأوبئة (الطواعين) وآثارها الاجتماعية في بلاد الشام في عصر المماليك الجراكسة  (784-922هـ) /1382-1516م)، المجلة الأردنية للتاريخ والآثار، المجلد 4، العدد 3، 2010م.

 

في المثقف اليوم