آراء

العسل المر: أزمة العراق الاقتصادية: بوادر انهيار أم بداية انفراج؟ (1)

عبد الجبار عيسىيعتقد الكثير بان العراق في طريقه الى الانهيار الاقتصادي في ضوء انهيار اسعار النفط وخواء الميزانية والتلويح بخفض رواتب الموظفين. ربما على العكس، انا متفائل، رغم إن راتبي الشهري من المحتمل ان ينخفض اكثر من ثلثه تقريبا. ولكن ماهو مصدر هذا التفاؤل؟

إن بقاء الوضع على ماهو عليه هو الكارثة !!

دولة ريعية تعيش على النفط تديرها شبكات زبائنية تتبع لمراكز قوى وعوائل مافيوية تمتد بفسادها من الداخل الى الخارج. هذه القوى خلال 17 عاما مارست عملية استنزاف لموارد الدولة بشكل لم يسبق له مثيل. وفضلا عن ذلك الاستنزاف قامت عن طريق السمسرة، او لاغراض الولاء، او القرابة، بتعيين مئات الآلاف ،إن لم نقل الملايين من الموظفين، في الجسم الإداري للدولة. فاصبحت هذه الأخيرة هكذا وببساطة: (ريع نفطي تحصد مراكز القوى وزبائنها اكثر من ثلاثة ارباعه، وما زاد منه يوزع كرواتب شهرية ومكافآت لموظفين غير منتجين ثلثهم غير موجودين في الواقع من الفضائيين أو لمتقاعدين بعضهم لم يعرف الوظيفة !!) لاصناعة ولازراعة ولا تنمية ولاتعليم .. إن الدخول في تفاصيل ذلك امر مزعج و يحتاج الى مجلدات. لكننا نأتي من الآخر كما هو القول الشعبي.

الحل الوحيد أمام  العراق هو التوقف عن كل ذلك أو الحد منه، وتغيير سياسة الدولة الاقتصادية من مرحلة الدولة ذات الطابع الإشتراكي الى نظام الدولة ذات الطابع الرأسمالي وما يستلزمه ذلك في تغيير نمط الدولة الريعية التي تملك كل شيء. ولذلك فإن من المرحج أن يكون تخطيط السياسة الاقتصادية العراقية تحت رعاية صندوق النقد الدولي الذي سيطبق وصفاته العلاجية (المرة احيانا) لكنها، المفيدة جدا، لنقل العراق من دولة ريعية الى دولة تنموية منتجة، هذا فضلاً عن الدعم الدولي الذي سيكون معياره سلوك الحكومة الجديدة برئاسة الكاظمي وكيف ستتعامل في قضية تثبيت سلطة الدولة.

والواقع إن تلك الوصفات العلاجية، للأسف، امر ضروري، لكنه يستلزم سلسلة من الإجراءآت تقوم بها الدولة ممثلة بالحكومة لتطبيق تلك الوصفات العلاجية:

1- خفض الانفاق وزيادة الضرائب.

2- فتح الباب للاستثمار وبالذات الاستثمار الخارجي.

3- يتبع ذلك خصخصة مؤسسات القطاع العام.

ماهي واجبات الحكومة إزاء ذلك؟ هنا تكمن العلة !!!

لايمكن أن تبدأ الإجراءآت الحكومية دفعة واحدة لاسيما في بد مثل العراق الذي يعيش وضعا أمنيا هشاً، ولكن كل ذلك يعتمد بصورة عامة هو إنهاء سطوة مراكز القوى التي تتصرف خارج سلطة الدولة وتمارس عملية الاستحواذ على الموارد. وهذا يتطلب سلطة حكومة قوية تحصر السلاح والقوة بيد الدولة. ومن المرجح أن ذلك سوف يحصل بدون خسائر، ببساطة، لأن معظم، إن لم يكن كل، مراكز القوى في العراق تتبع النفوذ الخارجي، والخارج هذا يبدو انه توصل الى تفاهم ما حول العراق مؤخرا. وهذا أمرلايتسع المقام هنا لتفصيله.

من الطبيعي أن تكون هناك كلف نفسية واجتماعية علاوة على كلف المعيشة للإجراءات التقشفية تستحق كل التعاطف معها، ولكن لنتخيل الآتي : (منتج وطني صناعي وزراعي، تشغيل أيدي عاطلة عن العمل في قطاعات استثمارية جديدة غير حكومية .... وغيرها كثير). ربما يرى البعض إن ذلك تفاؤل مفرط. نعم ، ولكن عكس ذلك، لنتخيل ما سيحدث إذا استمر الفساد ذاته والريعية والزبائنية ذاتها، وانفلات السلاح ومراكز القوى ذاتها، في الوقت الذي لم تعد فيه موارد الدولة كافية لسد احتياجاتها كالسابق، عندها مالذي سيحصل؟ من المؤكد إن السيناريو الأسوء في تفكك الدولة من زاخو الى الفاو هو الذي سيحصل، وهو أمرلايمكن أن تقبل به البيئة الدولية ولا الإقليمية لأنه وصفة جاهزة لحرب أهلية ليست هذه البيئات في واردها. إذن، من لايرضى بالتوجهات الاقتصادية في ظل اجراءات التقشف واحتمالية تدخل صندوق النقد الدولي عليه أن يجيب عن السؤال التالي: هل كانت 17 عاماً من التدمير والفساد وهدر الموارد افضل حالا؟ بالمقابل، ليس من المنطق القول أيضا أن جميع إجراءآت التقشف والآنطلاق الجديد ستكون ناجحة 100 بالمئة، لكنها بالتأكيد ستكون مفتاحاً أساسيا لنجاح تأريخي قادم بعد سنوات الضياع. إن  العراق يمكن ان ينهض من جديد بشيء من تجرع الدواء المر، او بالأحرى، العسل المر.

في الجزء الثاني ان شاء الله سوف نعرض الى كيف يمكن لهذه الإجراءات ان تحسن الوضع الاقتصادي للبلد والمواطن.

 

أ.د. عبدالجبار عيسى السعيدي

 

في المثقف اليوم