آراء

ترامب ليس السبب في الإنحطاط الأمريكي

الطيب بيت العلويبل هو عرض للمرض الإمبريالي

كانت القوانين الدورية العادية في حياة وموت الدول،  العظيمة في البداية، عبارة عن طغيان القوي الإستبدادية  التي يحطمها التمرد، ورغبة الشعوب في التمتع بالحرية وإساءة استخدامها – ثم العودة إلى الاستبداد مرة أخرى. كما أراها في هذا البلد -أمريكا- أرض المثالية الأكثر برقعة وثباتًا، والأكثر بهتانا وسخافة في آن واحد - فإن السباق-هنا- هو بين انحطاط هذا البلد وحيويته. "- السياسي والمؤرخ الأمريكي  أليستير كوك

 ترامب أذكى وأخطروأكثردهاء من أن يُقزم أوأن يُحتقرأوأن يُختزل إلى أمي مجنون، أومجرد تاجر سمسار، أو مهرج أحمق معتوه  !وإن الناظر إلى أمثال هذه الشوارد،  ليجد أن الغالب عليها  التسطيح والإنحياز، وليست بحقيق الفكرخليقة، أو بالتحليل السياسي جديرة.

وبعد،  فمن جهة أولى، فإن تحميل ترامب وزرالإنحطاط الأمريكي، فتعجيل في القول وترجمة للظنون، وما الرجل سوي عرض للإنحطاط الأمريكي وليس السبب فيه أو في نشأته،  بل كان الوريث الطبيعي لمسارطويل لأقصرحضارة الأكثرغرابة  في التاريخ، بدأت بالهمجية لتنتهي بالإنحطاط.-على حد تعبير الشاعرالإنجليزي اللورد بيرون.-

 ومن جهة ثانية، فإن ترامب لم يسقط من النيازك العليا،  فهومنتوج عضوي للإستثناءات الأمريكية:  التاريخية والثقافية والدينية والبيئية والجغرافية، حيث تقاسم فيها الحزبان الرئيسيان* قائمة الأكلات* والطباخ والمطبخ واحد. 

فيستحسن،  من هذا المنظور،  إعادة النظر في الظاهرة ترامب، عبر محاولة تفكيك شخصيته وعقليته وثقافته وميوله الدينية التي إستقاها من التربة الأمريكية كمثل سابقيه .

 والسؤال الهام المطروح اليوم:  لماذا يحاول ترامب التشبث بكرسي الإمبراطورية، ومجابهة المخاطر المرتقبة جراء تحديه لأعدائه وللدولة العميقة؟ 

والإجابة: لن نجدها - معرفيا وعمليا- في النبش في  الترهات المذاعة والمكتوبة حول ترامب منذ خمسة سنوات، أو في التنقيب الغير المجدي في المناوشات الحزبية المسرحية للديموقراطيين والجمهوريين – والمسألة في الأصل أعقد من ذلك بكثير، كما أن أنواع هذه المقاربات التسطيحية، هي نهج مضلل يُعمي أبصارنا عن التفكيك العلمي والمنهجي*للغزترامب*1- ويمنعنا من إستيعاب صلب المعضلات الأمريكية الحقيقية ذات الوجه الواحد في المضمون والإختلاف في التمظهرات،  التي خربت دولا وأمما في المعمورة منذ الستينات حتى اليوم، أكثرمما خربته الحربان العالميتان ، والتي قد تؤدي إلى دمار البشرية كلها.

 

 

 

 فمن ناحية أولى، وعند بغية إكتناه مسوغات الساسة الأمريكيين في غزوالعالم وتدميرالحضارات، يجب أولا   القيام بتفكيك *التركيبة الخيماوية* المعقدة للإستثناءات الأمريكية وهي:   

- مذهب السيادة الرومانية Imperium، .تقاليد العهدين القديم والجديد. أمريكا أرض الميعاد وإسرائيل الجديدة والدولة الصليبية. صليبية القرون الأوسطية .ماسونية المؤسسين الخمسة الأوائل للدولة -وهم أباء الأمة الذين أثروابشكل مباشرفي الثورتين الفرنسية والإمريكية:  وخاصة جورج واشنطن أبوالأمة والملقب في أدبيات السياسة والثقافة الأمريكية ب* النصف إله*/وهومن أهم رموزالحزب الجمهموري* وبينجامان فرانكلين: العبقري الفذ في كل المجالات المعرفية -المادية والروحية- والملقب ب* المواطن الكوني الأول*المؤثرفي فلاسفة التنوير الفرنسي،  وخاصة فولتير ومونتيسكيو،  /وهو من أهم رموزالحزب الديموقراطي /مذهب مونرو.نفعاية وبراغماتية وليم جيمس وجون ديوي. مبدأ ويلسون أوالليبرالية العالمية.مذهب الإحتواء: أومذهب فرانكلين روزفلت -الديموقراطي وترومان-الجمهوري. مهمة الرجل الأبيض المتدين الماسيحاني الفحل الذكوري . أمريكا *الطيبة والشريرة* المنقسمة على نفسها بين المثالية والنفعية،  وبين التدينية والتقدمية الإمبريالية والواقعية السياسية .

وهذه العناوين تصب كلها في خانة *الإستثناءات الأمريكية *وهي القاسم المشترك والنصيب الجزئي لكل رئيس أمريكي منها -جمهوريا كان أم ديموقراطيا-وهي عناوين لن نجدها في أية حضارة أخري-قديمة أم حديثة-

ومن ناحية ثانية،  ومن أجل فهم الترامبية خارج مهاترات الشتم واللعن،  فيجب النظر في*العالم الموازي* والرؤية المعرفية الكونية لترامب عن طريق محاولة دراسة مراحل حياته الأولى في فترة المراهقة والشباب، ثم مراحله منذ أن أصبح في الثلاثينات وهي مرحلة السبعينات من القرن الماضي وهي المرحلة المفصلية التي أسست لشخصية ترامب الحالي:  

- دراسة الأطروحات /التربوية-العقدية- الإيديولوجية/  لمربي ترامب الروحيين والإيديولوجيين،  مثل ديل كارنيغي  في الخمسينات والقس البروتستانتي* نورمان فنسنت بيل*-في الستينات-مؤسس عقيدة *لا هوت النجاح*-التي كان ترامب يحفظها غيبا -مثل حفظة القرآن عندنا -.

 وكان هذا القس هو المؤثرالروحي-  العقدي،  والعملاتي -التجاري،  في نفسية وعقلية فريد أبو ترامب في الستينات،  الذي كان الراعي للكنيسة الإصلاحية البروتستانتية،  التي تأسست في عام 1628.وكانت ترتادها عائلة ترامب لما يزيد عن خمسين عاما، وتزوج فيها ترامب دينيا بزوجتيه الأولي والثانية.

- يعتبر كتاب هذا القس المعنون ب"قوة التفكيرالإيجابي" والأكثرمبيعًا في الخمسينات،  وكان اللبنة الأولي لتكوين  شخصية ترامب  في مراهقته وفي باكورة شبابه حيث زرع نورمان فينسنت بيل في عقلية ترامب فسلة التفاؤل والنجاح المادي والروحي. ومعاداة *المارقين عن الدين* الديموقراطيين،  وكيفية الإستدارة على المحرمات مثل الربا والإستغلال والتحايل على سرقة الدولة والتهرب من أداء الضرائب،  وكان هذا القس المربي الروحي أيضا لريتشارد نيكسون،  وريغان، ومعاديًا بشدة لجون كينيدي الكاثوليكي  والديموقراطي،  وكان معجبًا برجال الأعمال الأثرياء ولو كانوا سفلة ولصوص ومنحرفين.  

وعن طريق هذا القس تمثلت ذهنية ترامب  كيفيىة إستيعاب التأثير* الإنجيلي المُؤَمْرَك* أوالتأثر بما يسمى بموجة المحافظين الجدد، المؤصلة لمشاريع تشكيل وصياغة /الجيو– السياسية الدولية / على المقاس التوراتي -/وخاصة مع الرئيسين الجمهوريين رولاند ريغان وبوش الإبن، / 

وعلى ضوء هذه المسلمات  يمكن إستيعاب الرؤية الخصوصية الترامبية للشرق الأوسط، وفهم كرهه الشديد للفلسطينيين،  وحقده على ما تبقي من الأنظمة العربية القلية المناهضة  لإسرائيل،  وإحتقاره للخليجيين،  بسعيه لجعلهم قردة خاسئين/وهم لا يعلمون- ومجرد *غوييم* مطيعين لأصفياء بني إسرائيل، بجعل القدس العاصمة الأبدية للكيان العبري، وصفقة القرن– ومنح الجولان  السوري المحتل إلى ناتانيهو، وكراهيته اللاعقلانية   لطهران، وإغتياله لقاسم السليماني وأبومهدي المهندس،   

- أعيد القول بأن فترة أوائل السبعينات كانت مرحلة نضج  في حياة ترامب، وأهم مرحلة إنتقالية توضحت فيها لترامب الآفاق اللامحدودة لطموحاته اللانهائية، عندما إرتبط ترامب منذ عامه الثاني والثلاثين بمافيات نيويورك-مثل والده وجده-عن طريق منظره ومربيه ومستشاره الشخصي*روي كوهن*:  ذلك المحامي  اللامع المستهتروالفاسد،  الأكثرإثارة للرعب في أمريكا   في الستينات وأوائل السبعينات المستشار-زمنها- للسيناتورمكارثي في أزمنة المكارثية الفظيعة، وواحد من أقوى الشخصيات وأكثرها رهبة في نيويورك،  المتوفي بمرض الإيدز في عام 1986 .

وقد شكّل هذا الرجل-المثيرللشكوك والتساؤلات-تلك الورقة الرابحة بين أيدي ترامب -كمقاول ورجل أعمال شاب، -حيث تُوج  كملك غيرمتوج في نيويورك  داخل *النادي النيويوركي المغلق للنخبة النيويوركية*الذي كان   معظم أعضائه من الصفوة اليهودية ومن خُلَص الأثرياء-  يعاملون النخب السياسية والثقافية والفنية الأمريكية مثل حثالات وصعاليك متسكعين،   

إستوعب ترامب منذ عام 1973 أنه لا مكان للأخلاق  والمبادئ  والمثل والثقافة والقيم العليا في بلاد العم سام، في أي مجال من المجالات،  فحقق ما لم يحققه أحد من أقرانه وجيله ومعاصريه.وما يزال المتخصصون في الترامبية  يتساءلون عن السر الكامن وراء صمت القضاء الأمريكي عن تجاوزه للخروقات القانونية طيلة حياته، ولم يتم قط الحكم عليه 

وبإختصارشديد، فإذا فازجو بايدن -رسميا-فمن المستحيل تجاهل 71.9 مليون أمريكي أعربوا عن دعمهم  اللامشروط لدونالد ترامب-ولو كان مجرما- 

وفي الواقع، لقد فعل ترامب شيئا أكثرتأثيرا داخل المقاومة الترامبية،  حيث نجح في توسيع قاعدته الجماهيرية، أكثرفأكثر، لتكون أكثرتعصبًا وتلاحما ضد الديموقراطيين /يفتقد الديموقراطيين المنقسمين على أنفسهم و المتعددي الإتجاهات  في داخل الحزب/- حيث أن معظم الذين صوتوا لصالح بايدن،  فلأجل قطع الطريق على ترامب وإنهاء  كابوس الترامبية.

فكيف نفهم إذن، هذه الظاهرة التي تقسم أمريكا بشدة؟ماذا تغطي؟ وماذا يخبؤه ا لمستقبل للولايات المتحدة ؟ ولمستقبل البشرية؟الأجوبة لن نجدها في  ثرثرات *ما بعد الأمركة- التي تعيشها وتعاني منها الأنظومة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة، وظهوردول طموحة صاعدة لا تقبل بالقطبية الواحدة لأن العالم-خارج الرؤية الأمريكية المتكلسة العتيقة- هومن السعة الجيوغرافية، والغنى الاقتصادي والتنوع العرقي،  والثراء الأصيل الثقافي والحضاري،  بحيث يستحيل أن تنفرد الولايات المتحدة على الإستفراد بالسيطرة عليه.

فإلى متي ستحارب أمريكا من أجل صيانة الكيان العبري؟/: عنوان بحث/ تاريخي-جيو-سياسي/   للمفكر المحاضر الفرنسي François Roby في مجال العلوم الفيزيائية بجامعة *بو* 

للبحث صلة

 

د. الطيب بيتي

 

في المثقف اليوم