آراء

ثامر عباس: عن الديمقراطية مرة أخرى..

هل تستقيم الديمقراطية مع نزعة المغالبة القبلية؟!

قلما نصادف إنسان عراقي، فردا"أو جماعة، يتقبل فكرة الخسارة أو الهزيمة أمام خصم / منافس له، سواء ضمن الفعاليات ذات الطابع الشعبي الترفيهي، أو في إطار الأنشطة ذات الطابع النخبوي الثقافي، وذلك بدافع نزعة (المغالبة) التي تستوطن وعيه وتستملك كيانه . ولعمري إن هذه النزعة لا تعدو أن تكون ظاهرة من جملة ظواهر مواريثه (البدوية) القديمة، التي تحدّرت إليه من أسلافه الأوائل عبر ديناميات المجايلة التاريخية والاجتماعية والثقافية التي لا يزال رصيدها في رأسمالنا الثقافي كبير ومهيمن، لاسيما وأن تلك النزعة لم تبرح تعلن عن نفسها – بفجاجة وضجيج في بعض الأحيان – خلال الممارسات اليومية والمناسبات الظرفية، متحدية بذلك كل ما تحصلنا عليه من مكاسب المدنية الحديثة ومناقب التطور الحضاري . ولذلك لا تغرّنك ادعاءات المدعين ومزاعم الزاعمين من أن مظاهر تلك النزعة أصبحت من الماضي، ولن يعد لها وجود - أو حتى أثر - في وعينا وسلوكنا، إذ تكفي حادثة بسيطة أو سوء فهم غير مقصود حتى تكشّر عن أنيابها بوحشية وتسفر عن مخالبها بضراوة ! .

ولعلنا لا نأتي بجديد حينما نقول ؛ إن تجليات نزعة (المغالبة) سالفة الذكر، لا تقتصر فقط على  شرائح العامة (الدنيا) من المجتمع التي عادة ما تتميز بتدني وعيها وضعف إدراكها، نظرا" لكونها لا تزال تحتكم إلى جملة من العادات والتقاليد والقيم المؤسسة على تغليب منطق (القوة) على منطق (الحق)، وتفضيل نزعة (التفرّد) على نزعة (التتعدّد) فحسب، وإنما – وهنا تكمن الطامة الكبرى – إن تمظهرات تلك النزعة (المغالبة) تكاد تطغى على سلوك فئات الخاصة (العليا) من ذلك المجتمع . لا بل إن الواقع يثبت لنا إن هذه الأخيرة تعتبر من هذه الناحية، أكثر استجابة وأشد ميلا"من الأولى للانخراط في مثل هذا الضرب النكوصي حضاريا"وأخلاقيا"، رغم كون غالبية عناصر هذه الفئة يتوفرون على رصيد معقول من الوعي وخزين لا بأس به من الإدراك، يفترض به أن يكون لهم بمثابة العاصم من الانزلاق صوب هذه الهاوية، والمانع من السقوط في مثل هذا المستنقع ! .

ولعل ضراوة الصراعات وشراستها بين ما يسمى بجماعة (المثقفين) أو (النخبة) أو (الانتلجنسيا) التي لا تفتأ تحركها نوازع إثبات تميّز (الذات) على حساب (الآخر) في المجالات كافة، حتى ولو كان الوزن المعرفي أو العلمي للأول أقل شأنا"من الثاني على صعيد الإبداع والانجاز . مثلما نلفى هذه الظاهرة مستشرية داخل أروقة مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني ك (الأحزاب) السياسية، و(المنظمات) المهنية، و(الجمعيات) الثقافية، و(النوادي) الرياضية . تلك التي دأبت على التصارع فيما بينها على صعيد علمنة العناوين وأنسنة المسميات وعقلنة الخطابات، ليس من منطلق الإيمان بما تحمله هذه المفاهيم والمصطلحات من مثل عليا ومبادئ سامية وقيم نبيلة، وإنما بدافع ترويج بضاعتها الإيديولوجية، وتسويق شعاراتها الديماغوجية، وتسليع مطامعها السياسية . نقول إن كل هذه الضروب من المنافكات والكراهيات والصراعات المضمرة تارة والظاهرة تارة أخرى، والتي لا تخطئها عين مراقب أو تتجاهلها نباهة مدقق، كفيلة للتدليل على صحة ما نقول واثبات صدقية ما ندعي، مع إقرارنا - طبعا"- بان هناك حالات أو نماذج استثنائية لا يمكن إدراجها ضمن هذا المعيار .

والحال إن الديمقراطية – كما قرأنا عنها ولمسنا بعض تجاربها – تقوم على مجموعة من الثوابت، ليس أبرزها فقط فكرة (المواطنة) الموسومة بالطابع السياسي / الحقوقي التي تحدد العلاقة ما بين الدولة ومواطنيها - أفرادا"وجماعات - على صعيد الموازنة بين الحقوق والواجبات فحسب، وإنما هناك ثوابت أخرى (اجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية) لا تقل من حيث الأهمية ولا تتدنى من حيث الضرورة مقارنة بثابت المواطنة الأثيرة، إذا ما أريد لتجربة الديمقراطية أن تكون قوية الأسس وسليمة البنيان . وخصوصا"تلك المتعلقة بقدرة الفاعل الاجتماعي على التخلص من بقايا نوازعه البدائية والإفلات من رواسب دوافعه الأصولية التي تتغذى على قيم (التغالب) على المواقع السياسية و(التكالب) على المنافع الاقتصادية، دون اعتبار لأية تواضعات اجتماعية أو ضوابط عرفية أو مرجعيات أخلاقية . أي بمعنى الانتفاء لكل ما يمت بصلة لجعل المجتمع المعني ينعم بقيم الديمقراطية الفعلية التي لا يمكن تحقيقها إلاّ باجتياف وتمثل ثوابت (العدالة) الاجتماعية و(المساواة) الاقتصادية، و(الحرية) الفكرية، و(المشاركة) السياسية، عقليا"ونفسيا"وسلوكيا".

ولأن نزعة (المغالبة) القبلية هي الآن من يحكم قبضته – كما كانت في الماضي ولعلها ستكون في المستقبل أيضا"، طالما سنبقى عاجزين عن فك ارتباطنا بخلفياتنا ومرجعياتنا العصبية – على عقلية الإنسان العراقي ويتحكم بسيكولوجيته، فان المسافة بين فكرة الديمقراطية وواقع تطبيقها في المجتمع العراقي، لا تني فقط تتسع وتتعمق بحيث يستحيلان كلاهما – الفكرة والواقع – إلى قطبان متعارضان ومتنافران فحسب، وإنما ستبقى حلما"مؤجلا"يداعب الأخيلة كما بقية الأحلام الأخرى، التي طالما تحولت على أيدي الطغاة والبغاة إلى كوابيس مفزعة أقضت المضاجع وأكثرت المواجع !!

 

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم