آراء

الإبراهيميَّة: تجَاوِرُ الحِيطانِ لَا يَصهَرُ الأَديَانَ

يرى الدَّاخل إلى مُجَمع العائلة الإبراهيميَّة، بمنطقة السَّعديات مِن أبوظبي، ثلاث دور عبادة متجاورة على شكل مكعبات، متفقة بالعِمارة، منحها البياض الصَّفاء في نوايا التَّجاور الدِّينيّ، وفي داخلهنَّ اختلاف التَّقاليد، بما تميز به المسجد والكنيسة والكنيس. غير أنَّ مَن مرَّ بجزيرة السَّعديات، قبل عشر سنوات، وكانت رملاً وملحاً، ويراها الآن، سيُذهل مِن إتقان العمران، ومِن طبقات البشر السَّائح والقاطن، قاصدها مِن أقاصي الأرض.

احتوى المُجمع على رموز كلّ دين في بيته، عُرف المسجد باسم شيخ الأزهر، ولا يحتكر الصَّلاة فيه مذهب مِن المسلمين، والكنيسة باسم بابا الفاتيكان، لكنها لجميع عقائد المسيحيين، والكنيس باسم الفيلسوف موسى بن ميمون(ت: 1204م)، الذي لا تختلف عليه فِرقة مِن اليهود، وكان صديقاً لابن رُشد(ت: 1198م)، لم يقف اختلاف الدِّيانة حائلاً دون صداقتهما، وهذه نعمة الفلسفة (المسافر بين الفلسفة وعلم الكلام ابن ميمون وابن رشد نموذجاً).

إذا كانت فكرة تشييد البيت الإبراهيمي بأبوظبي ارتبطت بوثيقة الأخوة الإنسانيَّة، التي وُقعت بالعاصمة الإماراتيَّة يوم 4 فبراير 2019، فما الأساس الذي جعل دور الدِّيانات الثلاث تتجاور بقلب العاصمة البلغاريَّة صوفيا، قبل استقلال بلغاريا عن الدَّولة العثمانيَّة(1908)؟

كأن ذلك التَّجاور رسالةٌ مفادها أنَّ سُكان الإمبراطوريَّة مسلمون ومسيحيون ويهود، السُّؤال: هل حصلَ جدلٌ آنذاك، بشعور أنَّه سيقود إلى الانصهار في دينٍ واحدٍ؟! مثلما يجري الجدل اليوم عن ثلاثي العائلة الإبراهيمية بأبوظبي؟ فالفكرة قديمة، نُفذت في ظل الخلافة المرتجاة عند الإسلاميين، المتطاولين على التَّسامح، وقبل ذلك قال الشّاعر الحيريّ عَدي بن زيد(الرَّابع الميلادي): «سعى الأعداءُ لا يألون شراً/ إليكَ وربّ مكةَ والصَّليبِ»(ابن قُتيبة، المعاني الكبير)، فالرَّبُ واحدٌ، ولا أحد استنكر مِن مؤلفي المسلمين على قسم الشَّاعر.

هل أشار الفقهاء إلى الفقيه موسى بن يونس(ت: 639هج) أنه يريد إبداع ديانة جديدة، عندما «عكف على الاشتغال يُدرِّس، بعد وفاة أبيه، في مسجده، وفي مدارس كثيرة، وكان مواظباً على وظائفها، فأقبل عليه النّاس، حتَّى أنه كان يقرئ أهل الذّمة التّوراة والإنجيل»(ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان)؟  بالطبع لا. 

افتتح بيت العائلة الإبراهيميَّة بأبوظبي(18 فبراير2023)، فإبراهيم مشترك، وهذا يُخفف مِن وطأة الكراهيَّة، ويقود إلى المراجعة. عدا هذا، أي ديانة من الدِّيانات الثَّلاث قابلة للانصهار؟! كي يُنظر إلى هذا التَّجاور انصهاراً للإسلام؟! هل بالفعل كان المتربصون حريصين على الإسلام، إلى حدٍ أنَّ وجود الكنيسة والكنيس بجوار المسجد يُهدد الإسلام؟! أمَّ أنّها السِّياسة قبل الدِّيانة والثَّقافة؟!

جمع البيت الإبراهيميّ أكثر الأديان انتشاراً، ولا يكاد يخلو مجتمعٌ مِن التَّجاور بينها، مِن الغرب إلى الشَّرق، فالمسيحيون المنتشرون بأوروبا والأميركيتين وآسيا وأستراليا وأفريقيا بلغ عددهم أكثر مِن مليارين، والمسلمون مليار ونحو ستمئة مليون، منتشرون بالقارات كافة، وأتباع اليهوديَّة أكثر مِن خمسة عشر مليوناً، وما بين هذه الأديان تجد إبراهيم مشتركاً، والوصايا العشر التي حوتها الكتب الثَّلاثة، حسب كلِّ ديانة.

يمكننا التَّذكير بما تداول في تراث إلى واليه على مصر ابن الأشتر، مصر المختلطة بالدِّيانات الثّلاثة: «إنِّهم صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدِّين وإمَّا نظيرٌ لك في الخّلق»(نهج البلاغة). فإذا طبقت اليوم بنود «يثرب»، ووصية الخليفة، لا يستغرب مِن تجاور بيوت العبادة بأبوظبي، فتجاور الحيطان لا يصهر الأديان، نفهمها رمزية للاعتراف المتبادل، واليوم أحوج مِن الأمس.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

8 مارس 2023

 

 

في المثقف اليوم