آراء

بيار بيستلوتي: هل الشعبوية ديمقراطية؟

نص بيار بيستلوتي

ترجمة: رمضان بن رمضان

***

الديمقراطية في أصلها الاغريقي تعني"سلطة الشعب". وفي كلمتي "ديمقراطية" و"شعبوية"توجد لفظة الشعب le peuple ا المستمدة من الإغريقية ثم من اللاتينية. فالشعبوية هي أيضا، تطالب بسلطة الشعب. الديمقراطية والشعبوية كلمتان من المفروض أنهما مترادفتان لاشتراكهما في الأصل الايتيمولوجي ألا أن الأمر غير ذلك، فالشعبوية هي بالاحرى شكل كاريكاتوري إن لم نقل انحراف الديمقراطية كما عبر عن ذلك مارسال غوشيه، Marcel Gauchet حين كتب: " الشعبوية هي شكل الديمقراطية فائدة تحاول أن توهمنا بطريقة خادعة بوحدة الشعب الطيب الذي تخلص من طفيلياته والذي تدافع عنه سلطة جيدة"(1) تزدهر الشعبوية في الاراضي البور الديمقراطية منهكة. فالحاجة إلى الامن والرغبة في سلطة حامية تبدو اليوم لها الاولوية على أشواق الحرية فازاء التهديدات الارهابية والمخاوف المتوهمة في معظمها من هجرة كثيفة تزيح ثقافتنا. ففي فرنسا بلد الحريات أجري بحث استقصاءي أنجزه معهد ابسوس Ipsos لفاىءدة جريدة لوموند نشر في 7 نوفمبر 2016. كشف أن فرنسيا على خمسة مستعد لاختيار نظام تسلطي بدلا من نمط ديمقراطي حالي وخلال الانتخابات التشريعية الأخيرة كان الامتناع عن التصويت هو الغالب فمن هو في عالمنا الغربي القديم مازال مستعدا للموت في سبيل الحرية؟ كثيرون يفضلون الانزواء بكل أمان في فقاعتهم، يحتمون خلف شاذتهم حيث يصبحون فراىءس للتجار الطامعين الذين يتلاعبون بهم. إنهم يشبهون السجناء المصفدين داخل كهف أفلاطون بصدد التأمل في لعبة الظل المبرمجة منها قبل عراءسيين مهرة (2)

* إن مسألة شراء هذا النوع أو ذاك من آخر صيحة في مجال التكنولوجيا تحجب العقول إلى درجة أنها تنسيها خطورة الحرية التي تشع في الهواء النقي خارج الكهف. باختصار يمكننا أن نتحدث عن " ترهل الديمقراطية" (Dominique Reynie) أو على " ديمقراطية في حالة تبخر").

* Gilles Finchelstein ثمرة مرة لحالة عميقة من فقدان السحر un désenchantement. لقد انصرفت ديمقراطيتنا الليبرالية إلى مواجهة ذئاب الليبرالية الجديدة، عبدة الثور الذهبي. من يتحكم ؟ الدولة أم المال العابر للدول ومتعدد القوميات؟. إن الشعبوية تنتعش من الاحساس بالاستلاب وبالعجز ولا يمكن مواجهتها بنجاعة إلا إذا اعدنا المعنى المكتمل لفكرة " الديمقراطية الليبرالية والتمثيلية". سنحلل الاعمدة الاربعة للشعبوية وهي: إطلاقية مفهوم الشعب، الهوية المقصية، اختفاء السلط المضادة والانزياح العاطفي

1- عبقرية الشعوب؟

* بالنسبة إلى الشعبويين يمثل الشعب هوية واحدة، إنهم يمتدحون " فكر الأمة" أو " عبقرية الشعب". الفولكسجات volksgeist ا الالماني ذاىع الصيت هذا النص لفيذت Fichteيعود إلى بداية القرنالتاسع عشر يوضح جيدا هذا المفهوم:" بالنسبة إلى قدماء الجرمان، تتمثل الحرية في أن تبقى ألمانيا (....) إنها لهم وللغتهم ولجريقتهم في التفكير، نحن مدينون لكل ماضينا القومي طالما بقيت في عروقنا قطرة من دمائهم ولهم الفضل في ما سنؤول إليه في المستقبل" (3) نحن نعرف الاستغلال الفاحش لمثل هذا التصور من قبل النازيين ورغم ذلك لا ينبغي حينىءذ الخلط بين الشعبوية والنازية التي هي انحراف متطرف وإجرامي.

* هل للشعوب روح؟ ربما، ولكن ليست متراصةmonolothique وخصوصاً أنها لا تلغي روحا أخرى. في التنظيرات الشعبوية يميل الفرد إلى تعريف نفسه في علاقة ب"الكل القومي" le tout nationlا الذي ينتمي إليه. قبل أن تكون بيار أو جاك أو جان أنت فرد واحد وحرألماني، فرنسيأو بولوني. الآخر هو أيضا محدد وموصوف انطلاقا من " كل إثني" un tout ethniqueأ أو ديني. وفي كثير من الأحيان يوصم بصفة ادق بأنه عربي أو يهودي أو مسلم. فتبعية الفرد لكل ما تنمحي فيه خصوصيته هي مندد بها بشدة من قبل الفيلسوف إيمانويل لو فيناس Emmanuel Levinas في رسالته الراىءعة: الكلية واللامتناهي Totalité et Infini حيث يسعى لفهم جذور " الرعب النازي" في عالم في عالم تسيطر عليه الكلية La Totalité. مثلما هو الحال عند الشعبويين. الشخص لا يوجد إلا في علاقة بمجموعة س) الفرد) لا يصبح له معنى إلا من خلال (س) (الكل) بحيث توجد كيانات أخرى فريدة (س،، س،،،....) والتى تتحدد بالعلاقة مع (س) مثال على ذلك: بيار فرنسي وأيضاً ماري ومارك هم أيضاً فرنسيون وكأن وحدة ذاتي أنا (الطابع الوحيد) ليست إلا ب" اسم" (س). كأن خصوصيتي – التي تميزني عن غيري - لم تمنح لي إلا على أن لها الأسبقية طبقا لخلفية مشتركة ومحددة سلفا. فالفرد ليس له من معنى بنفسه. فالمعنى يكتسبه من علاقته بالكل le Tout الذي يسبقه ويحتويه (س): الفردية (الشخص) لا توجد إذن بما هي en tant que tel يستتبع ذلك أن الوجوه تختفي " الكائن المفكر يبدو أنه يحظى بنظرة تتصوره كمندمج في كل intégré dans un tout ا. " يكتب لوفيناس Levinas. في الحقيقة إنه لا يندمج إلا عندما يموت، الحياة تترك له راحة أو تأجيلا والذي هو تحديدا داخليته son intériorité " (4) نفهم حينىءذ أن " عالم الكلية" le monde de la totalité يحضر الأرضية للكليانية سواء عند اليسار أو عند اليمين. هذه المقاربة المرفوضة من قبل لوفيناس Levinas. تقع على النقيض تماماً من الرؤية اليهودية والمسيحية للشخص والتي هي أيضاً الأساس الذي بنيت عليه الأنوارLes Lumières. (روسو، فولتير، كانط،...) والتي تولدت منها الديمقراطية. قبل أن تكون عضوا في أمة أو شعب، الكائن البشري شخص فريد خلق " على صورة الاله وعلى شبه به " (سفر التكوبن، 1, 26). العبقرية الخاصة بالإنسان متأتية مباشرة من الاله الأعلى وهي تسبق عبقرية الشعب والتي، إضافة إلى ذلك، لا توجد من دون عبقرية الأفراد التي تكونها وثم تتالف فيما ببنها لتبني حضارة. الكنيسة كانت دوما تؤكد على أسبقية الفرد والذي له قيمة في ذاته، كما يردد ذلك البابا فرنسوا: "الصالح العام يفترض احترام الذات الإنسانبة، كما هي، بحفوقها الأساسية وغير القابلة للتصرف والمرتبة لتطورها الشامل" (5). بالنسبة إلى إبمانويل كانط الذات إلإنسانبة ينبغي" النظر إليها دوما على أنها غاية في حد ذاتها وليست مجرد وسيلة" (6). أما بالنسبة إلى إيمانويل مونيي Emmanuel Mounier فإنه يلخص فلسفته الشخصانية la philosophie personnaliste. في هذه الصياغة:" الفرد هو المطلق إزاء كل حقيقة مادية"(7). الديمقراطية قائمة على هذا المطلق المتصل بالإنسان وعلى احترام حريته. نحن إزاء تصورين سياسيين متقابلين: الشعبوية والديمقراطية الليبرالية. ااأولى تدافع على مقاربة تصميمية organiciste للمجتمع مشبهة إياه بجسم كبير تكون فيه الخلايا خاضعة للسلطة المركزية كما يقول عالم السياسة جان ايف كانو Jean Yves Camus : " الأمة لم تعد قمؤسسة على عقد un contrat ولكن على قانون الطبيعة وعلى جماعة الإرث والمصير اللتين لا مهرب منهما" (8). ااديمقراطيات الليبرالية تتأسس على العكس من ذلك على مفهوم العقد بين ذوات مستقلة كما نراه عند روسو أو كانط. ٱنها منظمات des associations. لكاىءنات مستقلة. فيما يتمثل هذا العقد الاجتماعي؟ إنه يعني أن أتخلى عن " حريتي المجنونة " التي لها نزوع لتطأ حرية الاخر ولكن أيضا تكون مهددة بمن هو أقوى مني لنكون على تخوم " تعايش الحريات " المحمي من الدولة. إن دور الدولة هو ضمان الحد الأقصى من الحرية للجميع. فحريتي تنتهي حيث تبدأ حرية الاخر. ها نحن إذن على نقيض الليبرالية الجديدة حيث القوي يسحق الضعيف وحيث الدولة محمولة على أن لا تتدخل إلا في الحد الأدنى. وهي النقيض أيضاً للشعبوية حيث الرجل القوي، الأب الصغير الشعب يريد أن يفرض على الجميع هذه الأديولوجيا للسعادة أو تلك باسم الإرادة الشعبية المنحوتة في رخام التقاليد التي يزعم أنه يجسدها. إن مثال الديمقراطية الأصيلة ومنوالها يجد نفسه وقد وصف برؤية رائعة عهد الغايات Règne des fins عند كانط، إنها جماعة إنسانية تتالف فيما بينها في ظل نظام من القوانين المنبثقة من العقل المحض القاىءم على استقلالية الإرادة المتحررة من عبودية الانفعالات. إنه مثال بعيد منال التحقق ولكنه يظل على الأقل البراديغم لكل ديمقراطية كما يوضح جان لوك نانسي Jean-Luc Nancy : " الديمقراطية، هي فكرة الإنسان الذي يعتبر نفسه مستقلا تماما "(9).

2- هوية الإقصاء:

تلعب الشعبوية لعبة السلحفاة فتنطوي على نفسها داخل قوقعتها وهي أيضاً تلعب لعبة القنفذ حين يغضب بشدة ويظهر شوكه متصديا للمخاطر الخارجية. هذه التهديدات مشار إليها بالبنان: العولمة والهجرة المتولدة عنها. إنهما تضعان معا ما بلغناه من رفاهية (الإغراق في الأجور le dumping salarial (ونمط عيشنا – حيث تضعف تقاليدنا - في خطر. إن المسألة الهوياتية تتجه اليوم لتهيمن على كل شيء بما في ذلك الطابع الإقتصادي في علاقة خاصة بالهجمات الإرهابية. إزاء ذلك يرغب الشعبويون في إعادة تأكيد الهوية الوطنية أو الدينية للدفاع عن قيمنا ضد كل ما يعتبرونه اجتياحا مدمرا يؤدي إلى خسارة فادحة لثوابتنا وأيضاً إلى" الإستبدال الكبير" لثقافتنا من قبل الإسلام، بفضل الديمغرافيا المتسارعة للجاليات المهاجرة. لأجل ذلك تكون الدعوة للعودة إلى جذورنا إلى" سويسرا الحقة" إلى" فرنسا الأصيلة" ذات العرق الأبيض وصاحبة الدين المسيحي. لنبرز حينىءذ تفوق الحضارة الأوروببة القادمة من القدس ومن أثينا، مهد الديمقراطية. المشكلة هنا ليست طبعا التجذر في القيم المسيحية أو الإنسانية والتي من الواجب إعادة اكتشافها بل الخطر هو في إعادة التأكبد على تلك القيم ضد قيم أخرى داعية إلى صدام الثقافات والهويات إن لم نقل حربا بين الحضارات، من أجل الترويج لتقليد وحيد يكون هو الوحيد المقبول ويصبح هو قانون المواطنة الوحيد. هذا ااموقف القنفوذي أليس هو تنكر للمسيحية وانحراف عن النزعة الإنسانية للانوار؟ فالثقافة لا تختزل في ثقافة واحدة une monoculture والتجذر لا يستبعد بأي حال من الأحوال الأنفتاح مثلما تجسده صورة الشجرة: كلما كانت جذورها عميقة في تربتها انفتحت على نطاق واسع في الاتجاهات الأربعة ونحو السماء، فالانفتاح إذن يكون بقدر التجذر وثقافة تنغلق على نفسها محكومة بالتلاشي كشجرة تصاب بالضمو. الأسوء من ذلك: هوية تنغلق وتضع نفسها في مواجهة الآخر يمكن أن تصبح قاتلة، في استعادة لعنوان كتاب مشهور لأمين معلوف، زميلي في إعدادية جمهور بلبنان: " يكفي أن يطرح كل فرد بعض الأسىءلة ليكتشف أنه معقد، فريد من نوعه ولا يمكن استبداله، إذا ألححت إلى هذا الحد فذالك بسبب هذه العادة المنتشرة إلى حد كبير وضررها قوي فمن خلالها ومن أجل التأكبد على هويته، ينبغي أن يقول ببساطة:(أنا عربي)، (أنا فرنسي), (أنا أسود),(أنا مسلم) أو (أنا يهودي). " (10). لقد شهدت بنفسي صعود " الهويات القاتلة" في لبنان والتي أفضت إلى حرب مروعة. الانغلاق داخل انتماء ما يصبح مصدر عنف، نشاهده في المشاجرات التي تحصل ما بين الفرق الرياضية. باختصار، قبل أن تكون سويسرا، فرنسيا أو محبا لهذا الفريق أو ذاك أنت فرد مميز، أنت مكون من هويات متعددة، ولكن أيضاً أنت كاىءن بشري ذو عقل، مواطن كوني مرتبط بكل إخوانك وأخواتك في الإنسانية.

تسعى الشعبوية إلى شد وثاقنا إلى انتماء واحد، وهي بهذا إنما تقع أيضاً في تضاد مع المسيحية التي ترفض كل هوية منغلقة وكل قومية متعصبة كما كتب القديس بول عن ذلك بطريقة رائعة:" لا يوجد يهودي أو إغريقي، لا عبد ولا حر، لانكم جميعا واحد في يسوع ". ( Gal,3,28)

3- الإنسان، الشعب: اضمحلال السلطات المضادة

مخكل ديمقراطية جديرة بهذا الإسم تتضمن سلطات مضادة. في القرن التاسع عشر كان توكفيل Tocqueville قد حذر مما سماه " استبداد الأغلبية " La tyrannie de la غmajorité المنبثقة من رأي عام متلاعب به. في ظل نظام ديمقراطي حقيقي السلطة لا ينبغي أن تكون مركزة في أيدي شخص واحد أو عند هيىءة وحيدة. وإن ادعت أنها منبعثة من" الشعب الأصيل ". من ذلك الفكرة التي صاغها لوك Locke (16329-1704) ثم بعد ذلك مونتسكيو Montesquieu (1689-1755. والمتمثلة في الفصل بين السلط للتصدي إلى كل التجاوزات. نفرق حينىءذ بين السلطة التشريعية التي تصادق على القوانين وتقترحها، السلطة التنفيذية التي تحكم والسلطة القضاىءية الممارسة من قبل القضاة. ونضيف إليها اليوم سلطة الإعلام القاىءم على الصحافة والذي من المفروض أنه يقدم نظرة نقدية لعمل الدولة. يعمد الشعبويون، من أجل تدعيم سلطتهم، إلى إفقاد السلطات المضادة مصداقيتها، ولاسيما القضاء والإعلام من أجل إضعافها. إن مبدأ التفريق بين السلطات مهدد. فحالة دونالد ترمب حالة نموذجية: فعلى امتداد حملته الانتخابية وأيضا بعد تسلمه الرىءاسة، لم ينفك عن التهجم على الإعلام وعلى القضاة وأيضاً على المشرعين، كلهم وبدرجات متفاوتة فاسدون! لكن ولحسن الحظ، السلطات المضادة في الولايات المتحدة الأمريكية مازالت موجودة وصامدة، فعلى سبيل المثال، قضاة عاديون نجحوا في إحباط المراسيم الأولى السيد ترمب والمتعلقة بالهجرة. ينبغي الإشارة إلى أن هذه التجاوزات الشعبوية تلوث الآن أغلب الأحزاب، فعلى سبيل المثال في فرنسا قضيتا فيون Fillon وفرانFerrand كلاهما متهم باستغلال موقعه السياسي للإثراء وتكشفان في وضح النهار محاولة انتهاك النظام القضاىءي للاعتماد على تصويت الشعب الشجاع:" الإعلام والقضاة، يريدون خسارتنا والناخبون هم وحدهم من سيحسمون الأمر. " ولكن هل الشعب داىءما على حق ولاسيما هل هو مؤهل لفهم المساىءل القضاىءية ؟ في هذه اللعبة الشعبوية الصغيرة خسر فيون Fillon فلم ينتخب في حين أن فران Ferrand أعيد انتخابه في داىءرته وذلك بركوبه موجة إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron الذي ربح الرهان وخرج منتصرا. أليس ذلك شكلا من أشكال الظلم ؟ نحن، من جديد، إزاء مفهومين ديمقراطيين حيث يكون الثاني شكلا كاريكاتوريا للأول: الديمقراطية الليبرالية أو البرلمانية من ناحية والشعبوية التي تطالب بديمقراطية مباشرة كالتي كانت في العصور القديمة والتي تتحول إلى ديماغوجيا سلطوية. في القديم، وعلى سبيل المثال، الشعب في أثينا كان قليل العدد ولم يكن منشغلا بأعمال متعددة كالتي تشغلنا اليوم، كان لهم متسعا من الوقت يسمح لهم بالإجتماع في الساحة العامة وباختيار قوانينهم وبانتخاب من يحكمهم مباشرة. فعلى هذه الصورة الأسطورية والمثالية يستند بعض الشعبويين، إلا أن الملايين من المواطنين، اليوم، منشغلون جدا لا يجدون الكثير من الوقت للاهتمام بصفة مباشرة بالشؤون العامة، حيث تقتضي الضرورة تفويض السلطة الشعبية إلى مؤسسات تمثيلية كالبرلمانات. منظرو الليبرالية فهموا ذلك جيدا منذ القرن التاسع عشر. و قد أكد ذلك الفيلسوف فلوران قيران François Guenard :" المفكرون الليبراليون يستبدلون النموذج هالقديم للديمقراطية المباشرة بالحكم التمثيلي: المواطنون يركزون على شؤونهم الخاصة ويقبلون بتفويض سلطتهم إلى ممثلين عنهم ينتخبونهم" (13). في غياب مبدأ التفويض سيكون هناك توجه نحو اعتبار الشعب كتلة واحدة في حاجة إلى" ترشيد" ثم إلى استفتاىءهم، يتم ذلك، في كثير من الأحيان، تحت تأثير الشعارات المبسطة.

4 – الانحراف العاطفي: كبش الفداء ونظريات المؤامرة

يستدعي الشعبويون باستمرار، العواطف أكثر من العقل ومفاهيمه الكونية. فبالنسبة إلى الشعبويين يتحدد الكائن البشري، قبل كل شيء، كمجموعة من الرغبات التي ينبغي استغلالها بطريقة أفضل للوصول إلى السلطة. فالمواطنون مدعوون إلى التصويت بحدسهم كرجل واحد. هذه العبارة الأخيرة معبرة لأن الفرد يصهر في نفس المجموعة المندمجة تحت وطأة انفعال ما أو عاطفة ما مثل الغضب على الغرباء أو الحماس لزعيم ما. إنه يتجرد من إنسانيته حين يكف عن التفكير، وينخرط دون تحفظ في تطبيق التعليمات. كيف يتصرف الشعبويون لتمتين اللحمة بين جنودهم/ أتباعهم ؟ إنهم يعينون كبش فداء نزولا عند رغبة الشعب ثم يستثيرون غراىءزنا السيئة كالغيرة، الأنانية أو الكراهية ليوجهوها ضده. كبش الفداء هذا يتخذ وجه المهاجر أو المسلم المصنف إسلاميا أو النظام المالي الدولي، مجهول الهوية والذي يترك الشعب ينزف. إن الذات الإنسانية تختزل في دور الخروف داخل القطيع حيث توجد بعض الخرفان السوداء المدانة من قبل الراعي والذي يشعل كراهية بقية القطيع ضدها. فمن الواضح أن الصورة ستظل كاريكاتورية، صورة الخرفان السوداء التي يجب طردها ظهرت في ملصق لأهم حزب في سويسرا، إنه حزب الوحدة الديمقراطية للوسط (Union Démocratique du Centre) البعض الآخر يتحدث عن مؤامرة مدبرة من قبل وسائل الإعلام، " رجال بروكسل", المسلمين أو اليهود. ففرنسوا فيون نفسه تحدث على " غرفة سوداء" بصدد العمل ضده وضد مناصريه. يجعل الشعبوي من نفسه ومن أتباعه ضحايا لتحشيدهم حوله وذلك من خلال توليد الشعور بالثورة في أنفسهم، يضاف إلى ذلك أن هذه المؤامرة تنسج خيوطها دوما ضد" البلد الحقيقي" مثل فرنسا العميقة المتجذرة في تقاليدها العلمانية.

في الختام، الشعبوية هي الإسم اللاتيني الذي يحيل على الديماغوجيا أكثر من إحالته على الديمقراطية. هي نداء لشعب مثالي/ متخيل وهي ثقافة الزعيم وهي استجداء للعواطف الرخيصة. كل ذلك يبعدنا عن الديمقراطية أشواطا. الشعبوية هي تشويه وانحراف عن الديمقراطية ولمفهوم الذات الإنسانية.

***

......................

الهوامش:

[1] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 9.

[2] Voir notre ouvrage Imagine-toi dans la caverne de Platon, Paris, Payot, 2015.

[3] Fichte: Discours à la nation allemande, 8ediscours, 1807-1808.

[4] Emmanuel Levinas, Totalité et Infini, Martinus Nijhoff, La Haye, 1972, p. 26.

[5] Pape François, Laudato Si, 156

[6] Emmanuel Kant, Fondements de la métaphysique des mœurs, trad. V. Delbos, Paris, Delagrave, 1979, p. 150.

[7] Emmanuel Mounier, L’engagement de la foi, Paris, Seuil, Livre de Vie, 1968, p. 34.

[8] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[10] Amin Maalouf, Les identités meurtrières, Paris, le Livre de Poche, 2001, p. 28.

[11] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[12] Ibidem, p. 54.

[13] Ibidem, p. 46.

* المصدر:

revue-sources. cath. ch

* العنوان الأصلي:

Le populisme est- il démocratique? Par Pierre Pistoletti

في المثقف اليوم