آراء

بكر السباتين: هل تمتلك تكساس إرادة الانفصال؟

وهل لديها المقومات التاريخية الاقتصادية السياسية في ذلك؟

قد يتساءل البعض عن سر النزعة الإنفصالية لحكام ولاية تكساس التي يحكمها الجمهوريون عن الولايات المتحدة ومآلاتها بعد احتدام الصراع مع الحكومة الفيدرالية في واشنطن والمتمثلة بالرئيس الأمريكي من الحزب الديمقراطي، جو بايدن.

لقد تولد لدى حكام هذه الولاية -الأقوى اقتصادياً- شعورٌ بالغبن والخضوع للاستغلال الجائر، من قبل القيادة الفيدرالية، حتى جاءت الذريعة القوية لخوض معركة انفصال جديدة، حينما قررت المحكمة الأمريكية العليا إزالة الأسلاك الشائكة بين الولاية والحدود مع المكسيك، الأمر الذي سمح بتدفق المهاجرين المكسيكيّين إلى الولاية دون رادع، وبالتالي إعاقة التعامل مع الظاهرة وفق معايير أمنية ضابطة.

لذلك عدّ حاكم الولاية، القاضي السابق غريغ أبوت، هذه الظاهرة المتنامية احتلالاً مكسيكياً يسير ببطء شديد، ومكمن خطورتها أنها تعتمد على تأثير التقلبات الديمغرافية في نتائج أي استفتاءات يكون من شأنها التحكم بمصير الولاية عند الأزمات الوجودية.

هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تكساس تقوم ديمغرافياً على المكونيْن المكسيكي والسكان الأصليين قبل أن يتدفق إليها المكوّن الأوروبي الذي تناما بكثافة بعد قرار الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمر الذي عزز من مخاوف حكام الولاية الجمهوريين .

وهذا ممكن لو تمحصنا في إسقاطات التاريخ على المكوِّن الديمغرافي المكسيكي، الأمر الذي استلزم من "أبوت" التصدي لقرار المحكمة الفيدرالية العليا الذي أعطى الولاية مهلة حتى 26 يناير 2024 لنزع السياج الأمني الذي أقيم على حدود تكساس مع المكسيك.

ولكن بعد انتهاء المهلة المقررة قام حاكم الولاية بمخالفة قرار المحكمة العليا ممعناً في تحدي الحكومة الفيدرالية، وذلك من خلال الزيادة في تحصين الحدود، وعدم تمكين حرس الحدود التابع للحكومة الفيدرالية من القيام بمهامه المنوطة به بتنفيذ قرار المحكمة العليا، من خلال التصدي له من قِبَلِ الحرس الوطني التابع للولاية، مدعوماً بقوات الحرس الوطني لعشرة ولايات جمهورية من بين 25 ولاية أبدت تأييدها لموقف "أبوت" من الهجرة غير الشرعية.

وفي خطوة وصفت بأنها أنانية تم إلقاء أزمة المهاجرين إلى الولايات المجاورة بتحويل أكثر من 100 مهاجر إليها بهدف تأزيم المواقف في وجه الحكومة المركزية، وهذا تصعيد خطير.

ولعل تأثير هذه النزعة على مستوى جماهيري تجلى أكثر من خلال جذب جيش الرب (AOG)‏ الذي زحف من ولاية فرجينيا نحو تكساس؛ للمساهمة في التصدي للهجرة غير الشرعية من المكسيك.

وقد تبنى الحزب الجمهوري هذا التوجه الذي رفع من معنويات المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية المحتمل، دوناند ترامب كونه الأشد تأييداً لموقف حاكم الولاية الاستثنائي غريغ أبوت.

من جهته برر "أبوت" إجراءاته المخالفة للقانون قائلاً في مؤتمر صحفي: "الدستور يعطي الحق للولايات للدفاع عن نفسها.. وهذا بالضبط ما نفعله"

لذلك أمر "أبوت" بنشر قوات الأمن الوطني التابعة له، في أرجاء الولاية وعزز من تواجدها على الحدود مع المكسيك في تحدٍّ سافر لجو بايدن.

وهذا يمثل تصعيداً خطيراً من شأنه أن يضع الولايات المتحدة أمام خيارات مفصلية كارثية، وخاصة أن هذه الإجراءات وضعت قوات الأمن الوطني لتكساس في صدام مع قوات حرس الحدود الفيلدرالية.

فيما يرى مراقبون بأن النتائج ستظل محصورة في حدود التداعيات التي ترافق عادة الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ لكن المستحيل في وقتنا الراهن تحطمت حواجزه في أكثر من تجربة في العالم ولعل طوفان الأقصى خير مثال على ذلك.

والجدير بالذكر أن للنزعة الانفصالية في تكساس جذوراً تاريخية ومحفزات نفسية تقوم على رهاب الديمغرافيا، التي تميل إلى الثقافة المكسيكية والولاء المعنوي للجنوب، والشعور بالغبن والاستغلال من قبل حكومة المركز لثروات الولاية الهائلة.

فقبل نحو 118 عاما كانت تكساس جمهورية مستقلة، اعترفت بها الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، قبل أن تصوت على الانضمام إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الـ28 وقتها وذلك بدافع الخوف من المكسيك التي انتُزِعَتْ منها.

وكان الجنرال الأمريكي سام هيوستن قد انتصر على الجنرال المكسيكي سانتا أنا، فاستقلت تكساس عن الولايات المكسيكية الفليدرالية وحملت عاصمتها اسم محررها "هيوستن".

ولكن خشية تكساس من الطموحات المكسيكية نحو استعادتها، دفعتها للانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية-كما أشرنا آنفاً- في 29 ديسمبر 1845 من خلال استفتاء عام.

ويبدو أن طموح الولاية الانفصالي كان متعارضاً بشدة مع مصلحتها في الانضمام إلى الولايات المتحدة حيث وجدَ فيه التكساسيون ملاذاً آمناً ورادعاً للخطر المكسيكي المحدق بهم من الجنوب.. مع أن هذا الخطر قد يكون مبالغاً فيه، بحيث لا يعدو عن كونه وهماً درج قادة الانتخابات الأمريكية في صنعه للتأثير على النتائج.

وكانت لولاية تكساس إبّان الحرب الأهلية الأمريكية تجربة إنفصالية سابقة لأول مرة في أوائل عام 1861 إلى جانب إحدى عشرة ولاية تحت مسمى الولايات الكونفدرالية الأمريكية، حصل ذلك كون عنصر الأمان بات حينها مفقوداً بسبب انتصار الشماليين على الجنوبيين في الحرب الأهلية، لكنها عادت وانضمت رسميا من جديد إلى الولايات الكونفدرالية الأمريكية في 2 مارس من نفس العام. وخضعت لسيادة الحكومة الاتحادية بعد الحرب الأهلية.

وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2021، تقدم أحد أعضاء مجلس نواب ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري بمشروع قانون لإجراء استفتاء غير ملزم على انفصال الولاية عن الاتحاد، ولكن لم يتم التصويت عليه أو تُحدَد له جلسة استماع من قبل المجلس.

في العام ذاته، كتب الصحفي والمؤلف ريتشارد كرايتنر، المتخصص في تاريخ "الانفصالية" في الولايات المتحدة، أنه حان الوقت "لأخذ الحديث عن الانفصال على محمل الجد".

يرى الكاتب أنه في أعقاب محاولة التمرد الفاشلة التي شارك فيها أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، واقتحامهم للكونغرس، فإن ميليشيات اليمين المتطرف، مدفوعة بمزاعم ترامب التي لا أساس لها من الصحة بأن الانتخابات "سُرقت"، أصبحت تطالب بشكل متزايد بالانفصال، ليس فقط في تكساس، ولكن في ولايات أخرى كذلك. وأظهرت دراسة أجراها مجموعة من الباحثين من عدة جامعات أمريكية أن الفكرة يؤيدها ثلث الجمهوريين في مختلف الولايات الأمريكية، وأكثر من نصف الجمهوريين في الولايات الكونفدرالية السابقة.

فولاية قوية ومكتفية ذاتياً مثل تكساس تستطيع اتخاذ قرار الانفصال عن طريق الاستفتاء إذا ما حظيت هذه الخطوة بتأييد الكونغرس.

ولا شك أن العامل الاقتصادي والقدرة على الاستقلال سيهيء لإجراء استفتاء حقيقي يقوم على نتائجه مستقبل تكساس.

إذْ تتمتع ولاية تكساس باقتصاد قوي يحتل المرتبة التاسعة بين الأكبر في العالم، متفوقا على العديد من البلدان مثل روسيا وإسبانيا وأستراليا. فهو يسهم بشكل كبير في قوة أميركا وازدهارها بشكل عام، كما تعد الولاية الحدودية مع المكسيك، مركز الطاقة في أميركا، حيث تنتج وتكرر معظم النفط والغاز في البلاد. كما أنها رائدة في مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية.. وفيها مقر وكالة ناسا للفضاء.

وحتى من الناحية السياسية، فإن تكساس هي لاعب رئيسي في السياسة، حيث تمتلك ثاني أكبر عدد من الأصوات الانتخابية ومقاعد في الكونغرس في الولايات المتحدة. كما أن لها تأثيراً قويا ًعلى قضايا الحدود مع المكسيك، وسياسات الهجرة، والأمن القومي.

وخاتمة القول أن الرهانات على انفصال تكساس ليس سهلاً لكنه سيكون مؤشراً لاحتمالٍ ممكن الحدوث في عالم يتغيرُ بسرعة وأصبح فيه المستحيلُ مستحيلا.

***

بقلم بكر السباتين

6 فبراير 2024

 

في المثقف اليوم