آراء

عبد السلام فاروق: القضية الفلسطينية إلى أين؟

نحن على مشارف انتهاء هذه الدورة من معركة بدأت منذ السابع من أكتوبر واستمرت نحو مائة وخمسين يوماً.. وقاربت على الانتهاء بهزيمة غير معلنة لإسرائيل. والتفكير القائم في كل أروقة السياسة في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية يدور الآن حول اليوم التالي للحرب..

  ومهما كان ما قرروه وما يتآمرون لتحقيقه، فهو لن يستطيع إغفال حقيقة الهزيمة الإسرائيلية، ومن المعلوم أن المهزوم لا يستطيع إرغام المنتصر على شروطه مهما حاول!

مؤامرات مكشوفة

  رغم كل الخلافات التي تعصف بمجلس الحرب الإسرائيلي، والانقسامات الحادة بين كل أعضاء الكابينت من جهة، وبين رئيس وزراء يريد إنقاذ رقبته وتبييض سمعته السوداء الحالكة الملطخة بدماء ضحايا بالآلاف أولهم جنوده الذين ألقي بهم في أتون حرب خسروها خسرانا مبيناً في كل مواجهاتهم المباشرة.

 رغم كل الخلافات العاصفة والانقسامات المنذرة بالأسوأ، فإنهم لم يتوقفوا يوماً عن التآمر والخداع ورسم الخطط للنيل من فلسطين والعرب والعروبة. آخر تلك المؤامرات هي تلك التي من أجلها سحبوا قواتهم في الشمال والوسط الغزاوي وأنظارهم تتجه صوب مدينة رفح يريدون اجتياحها لتنفيذ مخطط التهجير القسري لمليونين من فلسطينيي غزة. وهو ما وقفت مصر ضده بالمرصاد. بل ووقفت ضده أمريكا، بل وسائر الدول العربية أمام محكمة العدل الدولية للتحذير من تنفيذ ذلك المخطط الذي ستنتج عنه مذبحة أشد وأقسى من كل مذابح إسرائيل على مدار تاريخها المظلم.

  وفى مجلس الأمن موقف غير مفهوم وغير مقبول من أمريكا راعية الحريات! عندما أشهرت سلاح الفيتو للمرة الرابعة أمام الجميع، ورفضت قراراً بوقف إطلاق النار، رغم أنها أعلنت في تصريحات صدرت عن البيت الأبيض أملها في الهدنة ورغبتها في إدخال المساعدات الإنسانية لتلك البقعة المنكوبة بسفاحي الحرب الذين انتهكوها أمام عالم غض الطرف عن مأساتها. وأما أمريكا فقد خلعت عن وجهها قناع الحريات الزائف لتكشر عن أنياب أشد مضاءً وفتكاً من ضبع الشرق الأوسط الطليق برعاية أمريكية بلا حدود!

نتيجة حرب أم مصير أمة؟

 انتهي الكلام في منابر الإعلام الغربية والإسرائيلية عن خسائر إسرائيل التي لم تعد تخطئها عين. وبات الكلام اليوم عن مصير إسرائيل!

 حتى حاخامات أورشليم خرجوا صارخين محذرين بأن نتائج الحرب الأخيرة تتعدي الضرر الأمني إلى تهديد وجودي يحدق بالكيان الإسرائيلي الغاصب.

    الإعلام العبري يتحدث الآن عن آلاف الإسرائيليين الذين تساقطوا في الحرب بين قتيل وجريح ومعاق. وأن العدد ارتفع لما يقارب الثلاثين ألفاً. وأن نحو نصف القوة الضاربة من تعداد الجيش يرزحون تحت وطأة العبء النفسي الجاثم على صدور جنود لم يعودوا مقتنعين أنهم يقاتلون في سبيل وطن، بل في سبيل رئيس وزراء يسعر نيران الحرب ويطيل أمدها فرارا من محاكمة قد تنهي حياته السياسية للأبد.

  والسؤال: لماذا تخشي إسرائيل انطفاء جذوة حرب تعلم أنها لن تربحها؟!

الحق أنها ترزح تحت ضغوط وخيارات أحلاها أشد مرارة من الحنظل. إذ لو توقفت الحرب فإن هناك سلسلة من الأحداث ستحدث بشكل تلقائي: أولها إجراء تحقيق حول حصيلة الخسائر التي مُنِيَ بها الجيش الإسرائيلي. وهي خسائر فادحة تتجاوز كثيراً ما يتم إعلانه أو تسريبه، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى إدانة مجلس الحرب وقادته وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو. وقد يؤدى هذا لتنفيذ أحكام قضائية ضدهم وإلى حل الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة سيكسبها اليسار الإسرائيلي حتماً، وهو ما يرفضه ويخشاه اليمين المتطرف.

  ثم يأتي دور الداخل الإسرائيلي الذي سيفيق على كارثة مخيفة: كارثة الأسري، ثم كارثة النازحين من المستوطنين، وأغلبهم يخشون العودة لمستوطنات ستظل مهددة على الدوام بنيران وصواريخ المقاومة رغم الهدنة وتوقف الحرب. ثم هناك كارثة ثالثة، هي أن الجنود الذين هربوا من نيران الحرب لن يكون بمقدور أحد إقناعهم العودة للقتال في حالة تأججه من جديد؛ بسبب الصدمات النفسية لتي تفشت بين الجنود والضباط على السواء!

 معنى هذا أن توقف الحرب الإسرائيلية الغاشمة الظالمة لن يؤدي فقط لإعلان هزيمتها. بل لتفتتها وتشتتها على كل الأصعدة: حكومتها وشعبها وقوتها العسكرية والاقتصادية. إنها اللحظة التي تتحاشاها إسرائيل وتؤخر أمريكا قدومها بكل ما تستطيع..

مآلات المعركة

 لا يستطيع أحد الجزم بما سيحدث في قادم الأيام..

 الشعب والكنيست الإسرائيليين يضغطان من أجل توقف الحرب واسترداد الأسري. بينما يصر بنيامين نتنياهو ومعه سائر وزراء اليمين المتطرف، وعلى رأسهم بن غفير، لاستمرارها خشية انهيار حكومتهم ومن ورائها أكاذيبهم التي سيفضحها توقف الحرب..

  التهديد ضد مدينة رفح لتحقيق التهجير القسري ما زال قائماً، وإن وقفت في وجهه مصر ومعها كل دول المنطقة. وتوسيع مجال الحرب في البحر الأحمر وفى جنوب لبنان قد يؤدي لدخول أطراف أخري للميدان، وهو ما تحاول أمريكا الدفع لتجنبه وعدم حدوثه. وبين الشد والجذب قد تشتعل الأمور بين ليلة وضحاها. أو قد تهدأ تماماً إذا أفلحت أمريكا في السيطرة على ضبعها الهائج الطليق بتحييد اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو.

 الكرة الآن ليست في ملعب إسرائيل ولا حتى في ملعب المقاومة الفلسطينية، بل في ملعب الولايات المتحدة الأمريكية. وأمريكا في مأزق لا تحسد عليه: إنها مقبلة على انتخابات وشيكة وسط تدني شعبية بايدن وحزبه الديموقراطي. والصين تكشر عن أنيابها بعد ظهور نتائج انتخابات تايوان وفوز المرشح الموالي للغرب. وروسيا تستعد للتصعيد ضد أوكرانيا. والحلف الأمريكي بدأ عقده في الانفراط، والكراهية العالمية ضدها في تصاعد مستمر لدعمها لمذابح إسرائيل في غزة.

 أغلب الظن أن هدنة طويلة ستحدث من أجل إجراء صفقة تبادل أسري على مدار عدة شهور. وقد تطول الهدنة أو تقصر طبقاً لمدي التزام إسرائيل بشروطها. وإذا حدث هذا فلسوف نتنفس الصعداء استبشاراً بالقادم. وأهم ما فيه أن قضية فلسطين باتت قضية العالم أجمع لا قضية العرب وحدهم. وهو ما يعني أن حلم تحرير المسجد الأقصى بات أقرب مما كنا نتخيل.

فلسطين هي الباقية

 لو أن حرب السابع من أكتوبر باتت تهدد الوجود الإسرائيلي كما يزعم بعض حاخامات اليهود، فهي البشري بأن الوجود الفلسطيني الأصيل سيعود ليسترد أرضه في المستقبل القريب..

  لقد انكسرت شوكة إسرائيل للأبد، ولم يعد باستطاعتها تزييف الحقائق التي انكشفت أمام الكافة.. وأولها حقيقة أن الجيش الإسرائيلي أضعف كثيراً مما كان يبدو. وأن هزيمته ممكنة. وأن الموساد الإسرائيلي ليس أقوى جهاز مخابرات في المنطقة كما كان يشاع. وأن صورة إسرائيل في الغرب باعتبارها نموذج التمدين والرقي انهارت أمام ساديتها ووحشيتها ضد المدنيين العزل من الشيوخ والأطفال والنساء. كل هذا معناه أن إسرائيل لم تعد هي هي. وأن وجودها صار مهدداً بالزوال أكثر من ذي قبل.

 إن عقارب الساعة لا تعود للوراء. وليس بإمكان إسرائيل ولا أمريكا استعادة هيبة جيش انهزم هزيمة مخزية لن تكون الهزيمة الأخيرة. لقد عادت القضية الفلسطينية للحياة من جديد في صدور كافة الشعوب العربية، ولم يعد بإمكان أحد صغر شأنه أو كبر أن يطفئ جذوتها المشتعلة مهما كانت إجراءات ما بعد الحرب. فقد ترسخ مفهوم المقاومة في قلوب الجيل القادم من فتيان فلسطين الذين سيأتي على أيديهم النصر المؤزر. وما دامت إسرائيل تصر على عدم حل الدولتين. فلسوف يأتي اليوم الذي ينتهي فيه الصراع ببقاء دولة واحدة اسمها فلسطين.

  كانت فلسطين منذ البداية وسوف تبقي وتظل رغم أنف كل أعدائها.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم