تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

علاء اللامي: مسلسل "الحشاشين".. شيطنة الخصوم لخدمة أنظمة الاستبداد (3-3)

الخارج من بئر الظلام: من مشاهد شيطنة حسن الصباح الصريحة مشهد سقوطه في بئر حين كان طفلاً، وظهور شبح المرأة الغامضة وهي تخيّرهُ بين إنقاذه مقابل أن يخضع لمشيئتها، مشيئة "الشيطان الأنثوي المسلح بالإغواء" في الأدب الذكوري الرجعي غالباً، أو أن تتركه بظلمة البئر. وحين تسأله المرأة الشبح أن يختار بين النور والظلام يختار الظلام فتنقذه، وتوصيه: "لو خيروك تقتل حسن على شان تعيش اقتلْ حسن"!

 أي أن حسن الصباح كان شيطاناً ظلامياً منذ طفولته وما تبقى تفاصيل! أليست هذه هي الفكرة التي أراد المسلسل إيصالها للمشاهد، وربطها بـ "الشياطين المعاصرين" في حركات المعارضة الذين تم مسخهم وغسل أدمغتهم كما يقول الإعلام الحكومي الذي يحتكر لنفسه "الأدمغة النظيفة والمعقمة جيدا"؟.

أما الروايات التي تتحدث عن زهد وورع وتدين هذه الشخصية التاريخية إلى درجة اعتبره بعضهم متدينا متشددا وعالما مرموقا في الحساب والفلك وكونه لم يخرج من قلعته طوال 35 عاما إلا مرة او مرتين وبعض المصادر تنكر حتى هذه المرة أو المرتين، وكونه أبعد أسرته زوجته وأطفاله إلى ليعيشوا من عمل أيديهم في الحياكة في قلعة أخرى، كل هذه الروايات والتي رود بعضها في مصادر مخالفين له مذهبيا فقد أهملت أو حرفت أو قلبت رأسا على عقب من قبل كتبة السلاطين المعادين له ولحركته وأخيرا من قبل مؤلف مسلسل الحشاشين الذي فاق الجميع في الخلط والتحريف والتبشيع بطريقة لا أخلاقية مفعمة بالإسقاط الأيديولوجي المعاصر خدمة لخطاب حكومي استبدادي أولا، ولتبرئة الوهابية كما قال البعض من مسؤولية جرائم منظمات إجرامية تكفيرية معاصرة مثل داعش والقاعدة ثانيا، والقول أن جذور هذه الحركات وغيرها كالإخوان المسلمين إنما تقع في الحركة الإسماعيلية النزارية التي أطلقوا عليها اسما تشنيعيا هو "الحشاشين"!

وبعد أن اكتملت عملية شيطنة الصباح يقترب المؤلف من تكفيره حين ينفي عنه حتى إيمانه بعقيدته الإسماعيلية ويتهمه بتأسيس شريعة جديدة لا حلال وحرام فيها (الحلقة 12)، ويربط سلوكه وأفعاله الدموية بمصلحته الشخصية ومجده الفردي وحبه للسلطة ويضع كلاماً بهذا المعنى على لسانه "ما فيش، إيمان، هو إيمان واحد بس.. إيمان بأيه؟ بحسن الصباح".

إنَّ فكرة إلصاق الكفر والعدمية بحسن الصباح والاسماعيلية عموما ليست جديدة بل هي مكررة كثيرا في الإعلام الحكومي المعاصر، وربما وجد عبد الرحيم كمال توثيقها التأريخي في رواية اليوغسلافي بارتول الذي نقل عن شخصية غامضة ولا وجود ترجمة لها في كتب الأعلام العربية الإسلامية وبلا توثيق هو "الداعية الإسماعيلي أبو نجم السراج" قوله: "إن قصة الإمام علي والمهدي المنتظر ما هي إلا سراب نستهدف به المؤمنين الذين يبجلون صهر النبي ويكرهون الخلافة ببغداد... العقيدة ناقصة بالضرورة وليس بوسع أحد معرفة الحقيقة، ونحن لا نؤمن بشيء ونستطيع أن نفعل أي شيء.. ص 186"، وربما كان يقصد الداعية أبو نصر السراج وهو أول داعية إسماعيلي بسيط تعرف إليه الشاب حسن الصباح – كما يذكر دفتري في دراسة له ومرَّ في حياته مروراً خاطفاً.

في هذا السياق، يضع كمال كلاماً مماثلاً على لسان الوزير نظام المُلك حين يقول لسيده ملكشاه إن "ولاء حسن الصباح لحسن الصباح يا مولاي"! وهو معنى يكرره الإعلام الحكومي في عصرنا ضد المعارضين بصيغة "إنَّ هدفهم هو الوصول إلى الحكم وليس الإسلام أو الوطنية أو فلسطين"!

إسقاطات هوليودية وأخرى حكومية

ثمة إسقاط لمقولات معاصرة مما نراه في الأفلام الهوليودية كمقولة "يجب أن نغير العالم" وهتاف "عاش مولانا السلطان عاش"، و"عاش حامل مفتاح الجنة". ولو كان المؤلف موضوعياً ومنصفاً لساوى بين نظام المُلك الذي خاطب جيشه بقوله "أنتم سيف الإسلام وجنود الله ضد الفرقة الباطلة/ الحلقة 9" وبين خطاب الصباح لمقاتليه بأنهم حملة الإيمان القويم والحق والعدل، فكلا الخطابين يمثل رأياً أيديولوجياً تبريرياً، لا أن ينحاز - المؤلف - لخطاب الحكم ويشيطن خطاب معارضيه!

إن الاستشراق الاستعماري يعتبر "العنف الدموي الشرقي" لعنة ميتافيزيقية موجودة بطبيعة الإنسان الشرقي، وأن الشرق أصيب بها لأنه حيز جغرافي ديني ورث هذا العنف من كتابه المقدس، وهذه ترهات عنصرية ولا علمية تنضح بالإسلاموفوبيا وقد فندها مستشرقون غربيون منصفون كالمستشرقة البريطانية كارين آرمسترونغ في كتابها "حقول الدم: الدين وتاريخ العنف". أما الدراما العربية الخارجة من عباءة الإعلام والحكومي فتعلل هذا العنف المعارض بطموحات شخصية فردية لزعماء عدميين لا يؤمنون إلا بأنفسهم كـ "زعيم الحشاشين مخترع الاغتيال السياسي"، مكررةً اتهامات الحكومات الاستبدادية واستخباراتها لكل من يتمرد على ظلمها وفسادها؛ فمَن هم في السلطة اليوم يريدون احتكارها إلى الأبد، ويعتبرون كلَّ مَن يهدد سلطانهم مارقاً، متآمراً، حشاشاً، قاتلاً، عبثياً، كافراً خرج من بئر الظلام ولا يؤمن بحلال أو حرام بل بنفسه وبأطماعه في الحكم!

وأخيرا دعونا نتساءل بكل حيادية: ترى ماذا يتبقى من مسلسل الحشاشين الذي أراد له صُناعه ومؤلفه وممولوه أن يكون ضربة قاضية وعلامة فارقة في تأريخ الدراما المصرية؛ ماذا يبقى منه إذا:

* إذا تأكد للمشاهد أن ربط الفرقة الإسماعيلية النزارية بالاغتيالات السياسية وكأنها هي التي اخترعتها كذبة سمجة وأن الاغتيال السياسي وجد وبشكل متواصل منذ صدر الإسلام وحتى قيام هذه الفرقة ومارسه جميع المتصارعين فرقاً ودولاً وإمارات كما وثقنا بالأسماء والتواريخ؟

* وإذا ما ظهر أن قصة الربط بين الثلاثي الخيام والصباح ونظام الملك مجرد حكاية لا صحة وقيمة لها وقد ابتكرها مترجم رباعيات الخيام إلى الإنكليزية الشاعر والمترجم البريطاني إدوارد فيتزجيرالد (Edward FitzGerald)‏: (1809 - 1883)، وأنها خرافة غير قابلة للتصديق لأن نظام الملك أكبر من الصباح بعقدين من السنوات ومن الخيام بثلاثة عقود، والصباح أكبر من الخيام بعقد، فهل يعقل أن يكونوا أصدقاء طفولة وزملاء دراسة؟

* وإذا ما ظهر أن حكاية تعاطي الحشيشة والأجواء الإباحية مع الجواري في الجنات الاصطناعية هي مجرد فنتازيا من خيالات الرحالة الإيطالي الملفق ماركو بولو ورجال دين وسياسة أفرنجيين "صليبيين" كانوا في حالة حرب مع النزاريين وعموم المسلمين في المشرق؟

* وإن التشنيعات التي ألصقها صناع المسلسل بالنزاريين في قلعة آلموت وزعيمهم حسن الصباح هي تشنيعات بائسة ولا تأريخية لم ترد في مصادر محايدة أو حتى شبه محايدة أو حتى مصادر عربية إسلامية ناقمة على الباطنية ومنهم هذه الفرقة؟

* ألا يظهر مسلسل الحشاشين في نهاية المطاف مجرد فقاعة ملونة تختزن روائح فاسدة ولا أخلاقية من الشيطنة والتشنيع والتضليل وقد ألحقت العار بصناعها وأوقعتهم في مشكلة كبيرة جديدة مفادها أن قطاعات واسعة من الجمهور المشاهد صار يتعاطف مع حسن الصباح وتجربته، فيصابون بالذعر والارتباك ويرجعون هذا التعاطف إلى سبب مضحك هو الجاذبية "الكارزما" التي يتمتع بها الممثل كريم عبد العزيز الذي قام بدور الصباح!

* لقد شهدنا في هذا المسلسل وبأسف شديد كيف يتحول كاتب ومؤلف مرموق، صوفي المنهج والتفكير والاهتمامات بدليل بعض أعماله الجميلة هو السيد عبد الرحيم كمال من أديب عرفاني صوفي إلى كاتب يشتغل في خدمة خطاب السائدين في الحكم الاستبدادي وكيف صار جزءا من البروباغندا الحكومية ضد معارضيها. أو إن شئنا الدقة كيف تكرس تحوله الذي بدأ - كما يلاحظ رشيد وحتي بصواب - في مسلسل "جزيرة غمام -2022" والذي حاول فيه وضع الرؤية الصوفية الدراويشية (تمييزا لها عن الصوفية القطبانية الثورية) في خدمة مشروع أنور السادات الانفتاحي الاستسلامي.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم