آراء

جواد غلوم: كيف حارب السنغافوريون الفساد؟

"شيء من تجارب الشعوب"

ان المعركة ضد الفساد تحتاج إلى "النضال الطويل والمكلف والمؤلم من أجل النجاح"، هكذا يرى برتراند دو سبيفيل صاحب كتاب "OVERCOMING CORRUPTION" الذي يعد مرجعا أساسيا في مجال محاربة الفساد؛ بمعنى آنه لا يمكن الحصول على نتائج ذات أهمية ناجعة ومثمرة دون " تحمّل وصبر" من مختلف المتدخلين خاصة المواطنين الذين يشكلون الضحية الأولى للفساد.

ويشبّه (دو سبيفيل) الفساد بالداء المزمن والمستفحل الذي يحتاج علاجه إلى تضحيات جسام ليس أقلها الصبر للعلاج الكيميائي، ويضيف بأن مكافحة الفساد تحتاج إلى ستراتيجية وطنية ذات أهداف واضحة وقابلة للتحقيق تتأسس على ثلاثة مرتكزات تسند بعضها بعضا هي " التحقيق والملاحقة، والوقاية " بشكل جاد جدا عبر تطوير المساطر والأنظمة، ثم تليها التربية والتوعية باعتبارهما ضروريتين لمحاربة الفساد لدى الأجيال الناشئة، وتغيير النظرة المجتمعية المتسامحة معه أو التي تجعل منه شرّا لا بد منه أو واقع حال يستحيل او يصعب زواله . 

ولدينا مثال عملي نقدمه للمعالجة هو دولة سنغافورة التي تعد انموذج الدولة الخالية من الفساد باعتمادها اجراءات بدأتها باستهداف قيادة الدولة حدد اهمها السيد "سوه كيى هيين" مدير مكتب التحقيق السنغافوري أيام حكم " لي كوان " لحالات الفساد، نورد اهمها في الاتي:

1- عدم السماح للمفسدين بالتمتع بما حصلوا عليه من مكاسب غير مشروعة أو تبييض أموالهم بأي شكل من الاشكال، وفضْحهم إعلامياً وشعبياً ونشر غسيلهم القذر من خلال جعل الناس تنظر لهم بوصفهم وصمة عارٍ على المجتمع .

2 - يفضي التعامل بجدية مع التقارير الخاصة بحالات الفساد الى جعل الناس يرصدونه بأنفسهم ويكشفون عنه إعلاميا وشعبيا وليس السلطة وحدها، ويفتح الطريق الى نجاحات متتالية في القضاء على الفساد والمفسدين .

3- لا توجد ممارسات الفساد معزولة عن غيرها، انما تتداخل مع نشاطات وممارسات مشبوهة اخرى .

4- ان الهدف من الاجراءات والوسائل الخاصة بمنع الفساد هو النظر اليه بانه ممارسة قذرة مدمرة للمجتمع تحفّ بها مخاطر كبيرة دون أي مكسب حتى ولو كان ضئيلا .

5- تهدف محاربة الفساد في الحكومة الى المحافظة على ان تكون الجهات المحاربة للفساد والمفسدين نظيفة تماما منه .

 6- تعدّ محاربة الفساد في القطاع الخاص ضرورة كبرى كما في القطاعات العامة لتأمين نظافة النشاطات الاقتصادية المتنوعة في الدولة.

7- الاسراع بتشكيل محكمة من قضاة مستقلين نزيهين تماما وتبدأ بمحاسبة الحيتان الكبيرة دون خوف او حرج، ويأخذ فيها كل فاسد ومفسد جزاءه بالعدل، وتسترد أمــوال الناس والوطن بكاملها دون تجزئتها أو تأجيل ردّها .

إضافة الى ما ذكرناه أعلاه فالمسؤولون السنغافوريون قد وضعوا خطةً محكمة لجلب المستثمرين وحمايتهم من خلال تسوية كافة الاجراءات التي يحتاجها المستثمر في مكان واحد فقط أي بمعنى ان تكون صيغ واجراءات الاستثمار تكتمل في بناية واحدة بدءا من تسجيل وإعداد خطط المشروع المزمع تنفيذه وتسجيله واحتساب ضرائبه وكل ما يتعلق به بدءا من تنفيذه وحتى اكتماله في مكان واحد وبناية معيّنة واحدة حتى تنجز الاجراءات تماما ويوجد به ممثل الشركات وممثلو كافة الوزارات والبنوك ومختلف المؤسسات ذات العلاقة باستثمار وانجاز المعاملات الكترونيا بحيث لا يضطر المستثمر بالانتقال من مكان الى اخر في اماكن متباعدة فيتعرض للابتزاز والاحتيال والمساومة ؛ بل تتم كافة معاملاته في نفس الموقع او البناية وتنجز كافة الخدمات في سقف زمني قصير وهذه تجربة رائدة حقا منذ تسعينات القرن الماضي... عسى ان يستفيد منها الساسة المعنيون ان خلصت نواياهم في بناء موطنهم .

ان اعتماد ما ورد في التجربة السنغافورية وما تقدمنا بها من معالجات سابقة يمكن صياغتها في برنامج عمل تتفق عليه القوى السياسية وممثلو المتظاهرين ومنظمات المجتمع المدني ..وبدونها تبقى التظاهرات لا تجدي نفعا،لأن الحكومة والبرلمان لن يستجيبا لمطالب المتظاهرين لسببين وهما : لشعورهم بالأمان في منطقة محصنة ومحمية بأكبر قوة من الدرك والقوات المسلحة التي قد تكون حامية للمفسدين .

 وثانيا لأن الغاء الرواتب التقاعدية غير السليمة واللامنصفة لا يتم الا بتشريع قضائي صارم مثل قانون رفحاء ومباذله عندنا في العراق وضخامة رواتب الساسة المسؤولين ممن كانوا في رأس السلطة وتقاعدوا الان حيث يجازون حاليا برواتب تقاعدية ذات أرقام فلكية.

وللتذكير أقول ؛ هناك حالةً سيكولوجية سائدة عندنا قد يغفل عنها البعض وهي: أن الفقير في غالب الاحيان اذا استغنى واستمكن واستوزر ونال جاهاً وحظوة ومركزا مرموقا انعدم ضميره وسال لعابه طمعا وجشعا وهذه سمة الكثير من ساستنا الان .

***

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم