آراء

سمير البكفاني: فيصل والحكومة العربية في دمشق.. والفرصة الضائعة!

اليوم، ونحن نعيش ذكرى الجلاء في سورية؛ علينا أن نعود بالذاكرة إلى أزيد من مئة عام، لنتذكَّر ونُذكِّر بأول استقلال لسورية في العصر الحديث في 8 آذار 1920، وربما يكون هو الأول بتاريخ سورية منذ أن عُرفت بهذا الاسم! والذي يستحق التوقف عنده. والتعرف على تلك المرحلة الفاصلة؛ بين تاريخ من الجور والظلم والجهل والامتهان، في نفق الدولة العثمانية المظلم! ومرحلة جديدة تَعِد بعهدٍ جديد عُقدت عليه الآمال، بعد طول انتظار. ونريد أن نُذكِّر بقائد ذلك الاستقلال، الأمير فيصل ابن الحسين، والذي خرج من مكة على رأس جيش كبير، متعقباً فلول العثمانيين الذين أُخرجوا من بلادنا بعد أربعة قرون! فيصل الذي اختار سورية لإقامة أول "حكومة عربية في دمشق" تكون أساساً لبناء عقد اجتماعي لسورية الكبرى، يكون صالحاً لتعميمه على مختلف أقطار العرب وشعوبها.

ويُظهر الأمير فيصل أبن الحسين شريف مكة، في كل مناسبة، تأكيده على المبدأ القومي ففي خطابه أمام مؤتمر السلم في فبراير (شباط) 1919 حين قال: "ان هناك فرقاً كبيراً بين حكومة تركية وأخرى عربية تقام في هذه المنطقة". يقول جورج أنطونيوس في كتابه: يقظة العرب.. "ومن العدل أن نذكِّر نقاد الفكرة العربية الذين يأخذون على الأكثرية العربية أنها لا تستطيع أن تفرق بينها وبين الفكرة الإسلامية، أنه كما لا يحق لنا ان ننتظر من الأقلية العربية ان تتخلى عن نصرانيتها حتى تصبح قومية، كذلك لا يحق لنا ان ننتظر من الأكثرية ان تتخلى عن اسلامها حتى تصبح اهلاً لحمل لواء الفكرة القومية. وللمغفور له فيصل الأول الكبير القول الفصل في ذلك عندما قال: "الدين لله والوطن للجميع". هذا الشعار المُوحد لأبناء الشعب، الذي أطلقه فيصل، وعمل على تحويله إلى برنامج عمل ملموس على أرض الواقع؛ منذ أن وطأت قدميه أرض سورية، على مبدأ الوطنية، والمواطنة الحقة، الذي يتساوى الجميع من خلاله، لا فضل لأبناء منطقة ما، أو طائفة، أو مذهب؛ على غيرهم إلا بما يقدمونه من خدمات لرفعة شأن أمتهم، وازدهار دولتهم ورفاه شعبهم، من خلال ما يمتلكونه من خبرة، وعلم ومعرفة.

واستغل فيصل كل مناسبة سواء في لقاءاته الداخلية مع الفعاليات الوطنية بمختلف مكوناتها، أو بالمحافل الدولية؛ للتأكيد على مساواة العرب في الحقوق والالتزامات، بقوله: العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد. وهذا ما يُظهر تأكيده على فصل الدين عن السياسة، في مذكرته الى داوننج ستريت في سبتمبر (أيلول) 1919 التي ذكر فيها "رغم أني من أعرق الأسر الإسلامية فقد حملت السلاح ضد الخلافة إلى جانب الحلفاء لتحقيق أمل الوحدة".

وعرف الزعماء السياسيون ان الفروق الدينية يجب ازالتها قبل اتخاذ أي خطوة نحو الوحدة. ولو كان الوضع في سورية قد ترك لتطور طبيعي لاختفى الانقسام الديني والإقليمي تماماً على مسرح السياسة السورية.

دخلت جيوش الثورة العربية وقوات الحلفاء دمشق في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1918، بعد خروج الجيش التركي منها في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر. وفي اليوم التالي لدخوله دمشق، أصدر الأمير فيصل بلاغاً إلى الشعب باسم والده الشريف حسين، يعلن فيه تأسيس حكومة عربية في دمشق، وبدأ من فوره العمل مع فريقه، بالاتصال بالعلماء ورؤساء الدين والوجهاء العاملين في الحقل الوطني، وكان أول اجتماع من هذا القبيل عُقد في منزل الوجيه الدمشقي الكبير محمود بك البارودي، الذي تجلت فيه وحدة الفكرة العربية بين الأمير وتلك النخبة التي تعتبر ممثلة الشعب في الإفصاح عن رغبته في الوحدة والاستقلال.

وتابع فيصل تواصله مع الهيئات الفاعلة من أبناء الوطن بزيارة قام بها إلى مدن الشمال حمص وحماة وحلب، واستقبل بها بمنتهى الحفاوة والترحيب، التقى فيها بمختلف فعاليات المدن الثلاث، وفي حلب محطته الأخيرة، ألقى على الأهلين خطاباً أَبَان فيه جهود والده الحسين وحلفائه توصلاً لإنقاذ العرب من النير التركي وجمع كلمتهم وضمان حريتهم واستقلالهم. وحث الأمير في ختام خطابه الأهلين على اختلاف مذاهبهم على السعي بكل عزم وهدوء لتحقيق أمنيتهم الغالية بواسطة حكومة وطنية حائزة على ثقتهم، في سبيل خدمة الشعب وترقيته واستقلاله ورفع شأنه في نظر الحلفاء والعالم أجمع.

لم يكن الأمير فيصل والحاكم العسكري الركابي واخوانه العاملون في الحقل الوطني ولا زعماء الفكرة العربية والجمعيات السياسية، راضين عن تقسيم البلاد العربية إلى مناطق نفوذ للاستعمار الأوربي الفرنسي والبريطاني. فعمدوا على مقاومته باتباع سياسة الأمر الواقع بجميع الطرق السلمية. لذلك ضمت حكومة الفريق الركابي، المعيَّن من قبل القائد العام للقوات الحليفة الجنرال "اللنبي"، رجالاً من سورية ولبنان وفلسطين والعراق والأردن والحجاز دون أي التفات إلى المناطق التي ينتسب إليها كل منهم، ولا تبعاً لمذهبه وأسرته وعشيرته. فكان الأمير عادل أرسلان (جبل لبنان) معاوناً للحاكم العسكري، ونوري باشا السعيد وجعفر باشا العسكري وياسين باشا الهاشمي، من القادة العراقيين، في أهم المناصب، أولهم مستشاراً سياسياً للأمير فيصل والثاني مستشاراً عسكرياً والثالث رئيساً لميرة الجيش، وسعيد باشا شقير (بيروت) مديراً للمالية، واسكندر بك عمون (جبل لبنان) مديراً للعدلية، ورشيد بك طليع (جبل لبنان) مديراً للداخلية، وسليم باشا موصلي (دمشق) الجنرال السابق في الجيش البريطاني مديراً للشؤون الصحية، وساطع بك الحصري (حلب) مديراً للمعارف (التربية والتعليم).

 واتبعت نفس الخطة في مجلس الشورى ومحكمة التمييز (النقض) وفي ديوان الأمير، وباقي الإدارات التي لا يتسع المكان لذكر تفاصيلها.  

حسب يوسف الحكيم، صاحب كتاب: سورية والعهد الفيصلي، بقوله: „يدعونا الانصاف إلى التصريح بأن المسيحيين ناولوا من الوظائف الهامة في الجامعة كما في سائر دوائر الحكومة أكثر مما تفرضه النسبة العددية بينهم وبين إخوانهم المسلمين، مما دل على أن هدف الجميع الأسمى هو الوطن العربي وأن الاخاء العربي يسود جميع أبنائه ويحول دون كل تفرقة يتمناها ويسعى اليها الطامعون في استعمار البلاد".

في جلسة للمؤتمر السوري عُقدت في الثالث من حزيران سنة 1919 وانتخب هاشم الأتاسي نائب حمص رئيساً له، ومرعي باشا الملاح نائب حلب، ويوسف الحكيم نائب طرابلس نائبي للرئيس.

وفي ختام الجلسة، وجه الرئيس كلمة شكر إلى النواب على ثقتهم.. وطلب بأن يرفع المؤتمر واجب الشكر لسمو الأمير فيصل على ما قام به في سبيل سورية.. وانتخب المؤتمر لجنة من بين أعضائه لتنظيم عريضة الشكر والتأييد.

وفي الجلسة التالية، حين تليت عريضة الشكر على المجلس من أجل إقرارها، اعترض السادة المشايخ من النواب على خلوها من البسملة التي يجب أن يُبدأ بها. فقابلهم النواب التقدميون، وكلهم من الأدباء، خريجي المعاهد الحقوقية والعلمية العالية، بأن الأمة تتطلع إلى فجر جديد تتجلى فيه فكرة تأسيس حكومة تتفق وروح العصر، لا دخل فيها للدين، فتبقى الأديان السماوية في حرمتها وقداستها وتسير السياسة في انطلاقها حسبما تقتضيه مصلحة الوطن، أسوة بالأمم الراقية في أوربا وأميركا. فعاد المشايخ إلى المعارضة واحتدم الجدال بين الفريقين ووصل حداً ينذر باحتمال انقسام الأمة وراء نوابها شطرين، تقدمي ومحافظ مما يهلل له الاستعمار ويضر باستقلال البلاد.

يقول يوسف الحكيم: لذلك نهضت معلناً رأيي، بأن التقدمية التي يرغب فيها الشعب ولا سيما الطبقة الواعية لا تتناقض مع الاعتقاد بالله العلي العظيم، وأمامنا الأمة البريطانية العريقة في الحكم النيابي تُظهر في كل مناسبة تمسكها بالدين دون أن تدخله في السياسة وإدارة شؤون المملكة ودون أن يكون سبباً للتفرقة بين أبنائها في الحقوق والواجبات الوطنية. واقترحتُ في ختام كلامي، للتوفيق بين فريقي النواب، أن تتوج العريضة بكلمتين فقط هما "باسم الله" فصفق النواب جميعاً ووافقوا على العريضة.

هنا يمكننا القول؛ ونحن نقلب صفحات مضيئة من تاريخنا، أن سورية كانت قاب قوسين أو أدنى من فصل الدين عن السياسة قبل أزيد من مئة عام؛ لو تسنى لتلك الفرصة النجاح! كانت تجربة علمانية، من دون أن توضع العلمانية كعنوان لها.. تجربة، كانت العلمانية تُقرأ في كل سطرٍ من وثائقها، وخاصةً في قانونها الأساسي الذي لم تُتَح الفرصة لتطبيقه.. كانت تجربة ثمينة.. وفرصة ضائعة! فهل نستطيع التعلم منها؟

***

سمير البكفاني - كاتب سوري 

 

في المثقف اليوم