قضايا

ملف: نازك الملائكة إحدى ركائز شعراء الرفض

فقد سمّوهم ابتداءً بجيل الثورة، وبهذا الجيل دار الزمن دورته، واكتملت في العالم العربي مدرسة خطيرة من الشعراء الثوار على عمود الشعر العربي التقليدي شكلاً ومضموناً.. وأصبحت تجمع هذه المدرسة من الشعراء صفة واحدة، وهي أنها رافضة ومرفوضة معاً، فهم رافضون ومرفوضون من أصحاب القديم، فمن ناحية الشكل هم يلتقون على رفض تقاليد الشعر العربي الموروثة عن القُدامى والمُقنّنة في الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهي التقاليد القائمة على وحدة البيت ووحدة القافية ووحدة الصوت، ويلتقون على قبول وحدة القصيدة التي تموج بالرؤى المختلفة وبالأصوات المختلفة وبالأسباب والأوتاد المختلفة، وتجعل من هذا الاختلاف سبيلاً إلى التعبير الهارموني. فالفرق بين العروض القديم في قمة روعته والعروض الجديد في قمة روعته هو كالفرق بين موسيقى السيمفونية وأغاني البوب أو بين الميلودي والهارموني. ومن ناحية المضمون فهي كالفرق بين الفرد والمجتمع، وبين الذات والموضوع.

ولم أجد في شعر هؤلاء من ينظم قلائد المديح في شيءٍ، لأن أكثر شعرهم حزين أو غاضب أو عبوس، حتى في زهو الانتصار. في قمة المد الثوري القومي أو الاشتراكي الوطني، وفي اعتقادي أن أحزانهم وغضبهم وعبوسهم كانت من أحزان شعبهم وأمتهم.

ومن بين هؤلاء الثلاثة برزت شاعرتنا نازك الملائكة، الأنثى التي انتزعت لها مكاناً مرموقاً في حركة الرواد من الشعراء، ووقفت نداً للرجال، لأنها لم تكتفي بكتابة الشعر الحر وإنما أصدرت كتاباً تُدافع به عن هذه الحركة بعنوان "قضايا الشعر المعاصر"، وبعدما صرّحت بأن حركة الشعر الحر هذه قد بدأت في عام 1947م من بغداد وزحفت وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله. وكانت تذكر بأن أول قصيدة نُشرت بهذا الأسلوب هي قصيدتها "الكوليرا" وهي من الوزن المتدارك (الجنب).

من يقرأ قصائد نازك، يجد أنها طرزتها بدموع عينيها وبمشاعرها المرهفة ونثرتها على المواجع، فاستطاعت أن تُفلت من عقال القوافي القديمة، وراحت تدندن حتى قبل سنوات موتها، ورغم ما يذكره الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي في إحدى المقابلات معه(*)، إذ يقول: "أنا أعتقد أن ما أنجزته نازك الملائكة في بدايتها كان من أروع الإنجازات في الشعر العربي الحديث، وخاصةً في دواوينها الثلاثة الأولى، ولكنها مع الأسف توقّفت، وأهم ما حقّقته هو إنتاجها الأول، إلا أنها توقفت، ولكني لا أستطيع إلغاءها لأنها تشكّل معلماً كبيراً مع معالم حركة التجديد".

ولكنها نشرت حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي ثمان دواوين شعرية وأربعة كتب تُعالج قضايا وسيكولوجية الشعر، وكتبت عنها دراسات عديدة ورسائل جامعية متعددة في الكثير من الجامعات العربية والغربية: وكان أول دواوينها عاشقة الليل في عام 1947 وكانت حداثوية وواعية لحركة الزمن والحياة وهي تجريبية أيضاً. ولكن تجريبها بقى متأصلاً في الجذور، ولم يتأرجح في تقليد المدارس الغربية.

لقد أحبّت الشاعرة التجريب في الشعر، انطلاقاً من تأثرها بالفكر الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وسمي بـ"الفكر التجريبي" أو (التجريب الفكري)، وذلك بالمحاولة عبر الكتابة إلى الوصول إلى أفكار (ربما تكون جديدة أو على الأقل إضافية)، ما كان الكاتب أو الأديب يتعمد مسبقاً الوصول إليها، لكي لا تظهر هذه الأفكار متعسفة عبر القصد.. إنها إذاً كتابة غير مقصودة تُصبح عندما تصل إلى أية نتيجة مهما كانت قد أنجزت عملها وأما تلك النتيجة فإنها لا تمثل عند القارئ سوى قصداً من المقاصد صار فجأة من المنال.. هكذا فإن القصيدة لا تُسمّى بهذا الإسم عند الأوروبيين فالشعر يكون شعراً فقط حتى لا يقصد شيئاً معيناً ذلك لأن القصد المسبق يحذف حزم الشاعر عبر مسار الشعر حزمة تلو الحزمة، ومع ذلك فإن الشعر الحقيقي ينتج المؤثرات إن لم يُنجز التأثير. وهكذا أدى هذا التجريب إلى نظم قصائد جميلة ومن أجملها قصيدة "عاشق الليل".

والتي تستهلها بالآتي:

يا ظلامَ الليــلِ يا طــاويَ أحزانِ القلوبِ

أُنْظُرِ الآنَ فهذا شَبَحٌ بادي الشُحـــــوبِ

جاء يَسْعَى ، تحتَ أستاركَ ، كالطيفِ الغريبِ

حاملاً في كفِّه العــودَ يُغنّــــي للغُيوبِ

ليس يَعْنيهِ سُكونُ الليــلِ في الوادي الكئيبِ

 

وفي مقطع آخر منها تقول:

إِيهِ يا عاشقةَ الليلِ وواديـــهِ الأَغــنِّ

هوذا الليلُ صَدَى وحيٍ ورؤيـــا مُتَمنٍّ

تَضْحكُ الدُنْيا وما أنتِ سوى آهةِ حُــزْنِ

فخُذي العودَ عن العُشْبِ وضُمّيهِ وغنّــي

وصِفي ما في المساءِ الحُلْوِ من سِحْر وفنِّ

حتى تأتي إلى نهايتها وهي محبطة في كل تطلعاتها لتقول:

أَنْصتي هذا صُراخُ الرعْدِ ، هذي العاصفاتُ

فارجِعي لن تُدْركي سرّاً طوتْهُ الكائنــاتُ

قد جَهِلْناهُ وضنَــتْ بخفايــاهُ الحيــاةُ

ليس يَدْري العاصـفُ المجنونُ شيئاً يا فتاةُ

فارحمي قلبَكِ ، لــن تَنْطِقُ هذي الظُلُماتُ .

ولنشاهد كيف تعاملت الشاعرة مع الواقع المتردي لأمتها.. وهي لا تهجو الواقع العربي وإنما توظّف القصيدة في مشروع رؤيا للنهوض والتقدم في هذه القصيدة الطويلة كملحمة شعرية تُشير إلى النفس الطويل الذي تمتلكه الشاعرة ورغم أنها جاءت تقريرية منطلقة من قصدٍ مسبق، ففي قصيدة (للصلاة والثورة)، بعد أن تلقّت الشاعرة بطاقة تهنئة بعيد الفطر، عليها صورة لمسجد قبة الصخرة بالقدس، تقول:

يا قبةَ الصخرهْ

يا وردُ، يا ابتهال، يا حضرهْ

ويا هدى تسبيحة علوية النبرهْ

يا صلوات عذبة الأصداءْ

جاشت بها الأبهاءْ

يا حرقة المجهول، يا تطلُّعَ الإنسان للسماءْ

يا وَلهَ الركوع"؛ يا طُهْرَهْ

يا وردة الخشوع، يا نداه، يا عطرهْ

يا مسجداً أسْكَتَ تسبيحاته صهيونْ

من أجل حلْم وقحٍ مجنونْ

كبَّلَ في أرجائه الصلاة والخضرهْ

ولوّث التاريخ والفكرهْ

 

حتى تأتي إلى هذا المقطع:

يا قبة الصخرهْ

يا حقُّ، يا إيمان، يا ثورهْ

شمس حزيران طوتها غيمة في الفجر فانطوتْ

وأسدل الستار، والرواية انتهتْ

أقمارها هوتْ

أنجمها قد أغمضتْ عيونها، آفاقها خوتْ

ورودها تحت ثلوج الظلمة انحنتْ

ودولة اللصوص والقرودْ

ترشّفتْ دماءنا الحمراء وارتوتْ

ومزّقت أظفارُها ليونةَ الخدودْ

وأنشبت مخالب الحقودْ

في لحمنا، في كبرياء الأرض" في مراقد الجدودْ

غداً، غداً، تنفجر السجون واللحودْ

فلتسقطي يا دولة اليهودْ!

نعم.. نعم.. القصيدة في زمن المر والرؤى والآفاق الثورية.

وفي مقطع آخر تستنهض فيه القوى والمعنويات وتزرع الأمل لدى الأمة فتقول:

يا قبة الصخرهْ

يا لغم، يا إعصار، يا سجينة خطْرهْ

على الذي يسجنها؛ غداً يصير سجنها قبرهْ

يا قبة الصخرهْ

حاشاكِ أن ترضَيْ هوانَ الأمة الحرهْ

سيهبط النصر على مرتّلِي القرآنْ

على المُصلِّين؛ وفي صوامع الرهبانْ

على الفدائيين في أودية النيرانْ

غداً، غداً، ينفجر البركانْ

ويبدأ الطوفانْ

ينتفض الشهيد في الأكفانْ

ويكسر القضبانْ

يقاتل الآسر والسّجانْ

ينتصر الإنسانْ

يرتفع الأذانْ

وفي قصيدة (صلاة الأشباح) أجد تشابهاً في الصياغة الأسلوبية مع الشاعر بدر شاكر السياب، ربما تكون المصادر التي ارتشفا منها إلهامهما الشعري هي واحدة، خاصةً وأنهما نهلا من الشعر الإنكليزي الكلاسيكي الكثير.

تململت الساعةُ الباردهْ 

على البرج، في الظلمة الخامدهْ 

ومدّتْ يدا من نُحاسْ 

يدًا كالأساطير بوذا يحرّكُها في احتراسْ 

يدَ الرَّجل المنتصبْ 

على ساعة البرج، في صمته السرمديّ 

يحدّقُ في وجْمة المكتئبْ 

وتقذفُ عيناهُ سيلَ الظلامِ الدَّجِيّ 

على القلعة الراقدهْ 

على الميّتين الذينَ عيونُهُمُ لا تموت 

تظَلّ تحدَّقُ، ينطقُ فيها السكوتْ 

وقالتْ يد الرَّجُلِ المنتصِب: 

"صلاةٌ، صلاهْ!" 

 

وهكذا فالنماذج تترى في هذه القصيدة. وتضطلع القراءة المتمعنة بالكشف عن أشكال جديدة في المغايرة والتناقض بين المفروض والمفترض. تلك المغايرة التي تتكأ على أحد أشكال الانزياح المُفضي إلى "الاستدلال الدلالي"، حتى تأتي إلى هذا المقطع الذي تُكثّف فيه الصور.

وفي آخر الموكب الشَّبَحيّ المُخيفْ 

رأى حارس شَبَحَيْن 

يسيرانِ لا يُدْركان متى كان ذاك وأيْن? 

تحُزّ الرّياح ذراعيهما في الظلام الكثيفْ 

وما زال في الشَّبَحينِ بقايا حياهْ 

ولكنّ عينيهما في انطفاءْ 

ولفظُ "صلاة صلاهْ" 

يضِجّ بسَمْعَيْهما في ظلام المساءْ 

 

وفي قصيدتها ذات الإيقاع الهارموني (أغنية حب للكلمات) تحاول بعث الصور الحسية والبصرية على تجربتها، لتخريجها من دلالاتها القديمة وتوظيفها توظيفاً جديداًً ومتطوراً يجعلها تتواشح في فضاء شعري متميز، بوصفها وسيلة من وسائل استغلال كل الطاقات اللغة المعجمية والصوتية والدلالية والتركيبية لبعث البنيات الشعرية والجمالية والرؤية في القصيدة على نحو ما تبدّى لنا حين تقول:

فيمَ نخشَى الكلماتْ

وهي أحياناً أكُفٌّ من ورودِ

بارداتِ العِطْرِ مرّتْ عذْبةً فوق خدودِ

وهي أحياناً كؤوسٌ من رحيقٍ مُنْعِشِ

رشَفَتْها، ذاتَ صيفٍ، شَفةٌ في عَطَشِ

* * *

 

فيم نخشى الكلماتْ ؟

إنّ منها كلماتٍ هي أجراسٌ خفيّهْ

رَجعُها يُعلِنُ من أعمارنا المنفعلاتْ

فترةً مسحورةَ الفجرِ سخيّهْ

قَطَرَتْ حسّا وحبّاً وحياةْ

فلماذا نحنُ نخشى الكلماتْ؟

 

ونرى أن الشاعرة قد عمدت إلى التركيز على كلمة شعرية، جعلت من تكرارها مفتاح الدلالة الكامنة في القصيدة، فعبّرت من خلالها على عاطفتها المشبوبة ونوزاعها الروحية فمن ذلك تكرار كلمة "الكلمات"، وسنرى في مقطع آخر من نفس القصيدة، حيث يتوالى الإيقاع، فتقول:

فيم نخشى الكلماتْ؟ 

إنها بابُ هَوىً خلفيّةٌ ينْفُذُ منها

غَدُنا المُبهَمُ فلنرفعْ ستارَ الصمتِ عنها

إنها نافذةٌ ضوئيّةٌ منها يُطِلّ

ما كتمناهُ وغلّفناهُ في أعماقنا

مِن أمانينا ومن أشواقنا

فمتى يكتشفُ الصمتُ المملُّ

أنّنا عُدْنا نُحبّ الكلماتْ؟

ثم تلحّ بالسؤال:

فيمَ نخشى الكلماتْ؟ 

إن تكنْ أشواكها بالأمسِ يوماً جرَحتْنا

فلقد لفّتْ ذراعَيْها على أعناقنا

وأراقتْ عِطْرَها الحُلوَ على أشواقنا

إن تكن أحرفُها قد وَخَزَتْنا

وَلَوَتْ أعناقَها عنّا ولم تَعْطِفْ علينا

فلكم أبقت وعوداً في يَدَينا

وغداً تغمُرُنا عِطْراً وورداً وحياةْ

آهِ فاملأ كأسَتيْنا كلِماتْ

 

حتى تتصاعد القصيدة في شعورها، لتذوب الشاعرة في اشتهاء الكلمات وتقول:

في غدٍ نبني لنا عُشّ رؤىً من كلماتْ

سامقاً يعترش اللبلابُ في أحرُفِهِ

سنُذيبُ الشِّعْرَ في زُخْرُفِهِ

وسنَرْوي زهرَهُ بالكلماتْ

وسنَبْني شُرْفةً للعطْرِ والوردِ الخجولِ

ولها أعمدةٌ من كلماتْ

وممرّاً بارداً يسْبَحُ في ظلٍّ ظليلِ

حَرَسَتْهُ الكلماتْ

* * *

 

عُمْرُنا نحنُ نذرناهُ صلاةْ

فلمن سوف نُصلِّيها ... لغير الكلماتْ ؟

لا تكفي هذه المقالة العابرة التي نستذكر بها الشاعرة أن تفي بحقها من الدراسة.. فقد كتبت لنا مواويلاً وقصائد كثيرة لسنواتٍ طويلة. تُمجّد الحب والإنسان، وتُجذّر العشق في الوجدان، ولكن الغصّة ظلّت تخنقنا، كيف أنّها في سنواتها الأخيرة عانت ما عانت من المرض، وهي صامتة، لم يُسعفها أحدٌ إلا بعد رحيلها بكلمات النعي والحزن والبكاء.. رحلت في عام 2006 في زمنٍ لا يليق بها، لتلحق بالجواهري والبياتي وبلند الحيدري، ممن ماتوا في الغربة.

رحم الله نازك الملائكة، وكل مبدعينا، الذين تركوا لنا تُراثاً أدبياً وفكرياً نستظلّ به.

وجلّ وعلا مقام من يُقيم لهم الذكرى

د. هاشم عبود الموسوي

 

 .............................

(*) ص 193 من كتاب: جهاد فاضل/ أسئلة الشعر/ الدار العربية للكتاب/ مطبوع بدون ذكر سنة النشر: رقم الإيداع 949.

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: عاشقة الليل ابتداء من: 16 / 6 / 2010)

 

 

في المثقف اليوم