قضايا

ليست دعوة لسبّ (الصحابة) ولكن..

مرة اخرى يعرض لنا تدخل السياسة في الدين من أهل الدين على عادة فقهاء ووعاظ السلاطين منذ اول عهد للحكومة بعد وفاة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله. أن صفة واعظ وفقيه السلطان ليس سبّة من طرفي بحقهم بقدر ما هي حقيقة العلاقة ما بين الطرفين، اذ ان المذاهب السنية بجملتها تعد السلطان ولي امر المسلمين وله ما ليس لغيره من الحصانة السماوية التي تخوله ان يفعل ما يشاء بحيث يتعطل امامها الحديث النبوي السامي "افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، بل اصبح المجاهد بالكلمة متهم بشق عصا المسلمين فهو رأس فتنة يلزم قطعه بالسيف كائناً من كان، وفي طوايا هذه المعادلة استشهد خيار الامة الاسلامية من دعاة العدل ومحاربي الفساد وفاضحي الخيانات دفاعاً عن مجرمين تحصنوا بولاية امر المسلمين ودعوى وحدة الامة الاسلامية من التشظي وإن كان ابناء تلك الامة جياعاً وأذلة ومنتهكين ومقهورين. وغاية ما يأتيه الواعظ او الفقيه (اذا صحّ الاصطلاح على المسمى) هو الدعاء للطاغية بالسداد والرفعة والهداية والمقابل هو راتب مجزٍ وتوقير ووجاهة دنيويان، اما عقبى ابناء الأمة فهي ثواب الآخرة لسكوتهم وصبرهم (ولا احد يضمن انهم سيثابون على خنوعهم وقنوعهم).

كان الدكتور احمد الطيب شيخ الازهر الشريف قد شرط لزيارة العراق، ان يفتي مراجع الشيعة بحرمة سب الصحابة وعدم نشر التشيع بين ابناء السنة، ويعود الدكتور في السادس والعشرين من كانون الاول 2014 ليكرر الطلب بفتوى تحرم سب الصحابة وتبعه الشيخ محمود الصميدعي بزيادة ان يقوم البرلمان العراقي بسنّ قوانين تعاقب على سبّ الصحابة. ان الطلب له وجهان في غاية الغرابة. اما الوجه الاول فإن المشايخ اعلاه قد ابدوا غفلة لا تناسب درجتهما العلمية وخبرتهم المفترضة بأبسط أصول الفتوى ومواردها التي يتم استلالها من القرآن الكريم والسنة الشريفة. فهي ليست صلاحية مفتوحة للفقيه ليطلق فتواى بحسب رغبات اشخاص او حكومات او منظمات ارهابية او ما يمكن ان يعتقد انه مصلحة راجحة، فحتى تلك المصالح يتم ترجيحها عبر قنوات ادارية او توجيهية وليس عبر امر ضابط بحجم فتوى لا تقف على مطلق شرعي.

وقبل ان اتعرض للوجه الثاني للطلب، فإن الصحابة - موضوع طلب فتوى حرمة سبهم – هم الخلفاء الثلاث وبطانتهم وحلفاؤهم السياسيون ومفتوهم ويشمل ذلك حكام بني امية وولاتهم (الحجاج الثقفي، وكل قتلة آل بيت الرسول صلى الله عليهم) والفتوى ستكون مفصلة خصيصاً للشيعة من مراجعهم لأن حتى السبابين من الشيعة لا يسبون مطلق الصحابة، ولكن اؤلئك الذين تصدوا للحكومة وعاثوا بها وعبثوا بمصير الأمة (وجهة نظر وحسب). فالوجه الثاني هو الاستحالة ومنشؤه كتاب الله تعالى وتراث المسلمين الاوائل ومن تلاهم. فكتاب الله تعالى يصرّح في الآية 148 من سورة النساء ‏(لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) والمعنى ابسط من أن يؤوّل لمحمل بعيد بل يذهب بعض المفسرين الى ان في الإجهار بالسوء قولاً بحق الظالم مما يحبه الله تعالى. اما التراث الاسلامي فيفيض بحالات القتل والسباب واللعن في الجيل الاول مما يُسمون بمجملهم بالصحابة وهو موضوع اشهر من ان احتاج لإثباته هنا، وسقيفة بني ساعدة اول شاهد مكاني على ذلك، ولم ينتهِ الأمر عند سب ولعن الإمام علي عليه السلام في حكم بني امية من على منابر المساجد لأربعين سنة على الاقل. فلماذا خرس علماء الأمة من اصدار فتوى تحريم سب ولعن الإمام علي عليه السلام حينئذ؟ أم ان لعنه عليه السلام لم يكن يسبب شق عصا المسلمين ولا فتنة فيه لأنه عليه السلام قد اُستشهد وقُضي الأمر؟.

ان طلب فتوى التحريم للدكتور احمد الطيب ينطوي على عقوبات جزائية تبدت في طلب الشيخ الصميدعي من البرلمان في تجريم الشاتم، فعلى اي اساس ايها السادة نوظّف نظاماً جزائياً كاملاً من اجل الدفاع عن انظمة سياسية بائدة؟ وهو على الضد من حرية الكلمة والرأي الناقد (والرأي الناقد دائماً ما يتطور الى الشجب يرافقه انفعال يفرز مسبة ونبزاً). وإلا فإن حتى مجرد تحريم السب لن يسعف رغبة الشيخين في صيانة اسماء الصحابة من الطعن، لأن الناس لن يعتقدوا بالحرمة المصطنعة والقائمة على اسس سياسية خاوية لا محل لها من أحكام السماء.

الآن لماذا يريد الشيخان ان يُحرم فقط على بعض من الشيعة ان ينالوا من اشخاص عاديين تصدوا لحكم الامة وسقطوا بأخطاء وخطيئات كارثية، بينما لم يبذلوا كلمة واحدة لولاة امورهم ان يتصدوا لسب الاسلام ونبيه عليه وآله الصلاة والسلام وحرق كتابه الكريم والتهكم بهم وبأمته التي اشتهرت بالإرهاب؟ بل لم نمسع منهم تحريماً لقتل الشيعة بالجملة بل لم ينكروا مئات فتاوى التكفير والإبادة بحقهم. أليس طلبهم شيئاً عجيباً؟

ليس في التراث قتل وسباب ولعن فقط، بل هناك ادب ايضاً عكس كل ذلك، وذلك الأدب صدر من رسول الامة ووصيه وآلهما عليما صلوات الله تعالى. فلا يخفى ما لقي النبي من عنت الامة وتكذيبها وتعذيبها اياه واتباعه وسبهم والاستهزاء منهم بحيث قال عليه وآله الصلاة والسلام "ما أوذي نبي مثلما اوذيت" لكنه لم يأبه بكل ذلك وقابله بالإحسان والعفو رغم بقائهم على الكفر عند فتح مكة وعفا عن رأس الكفر وأسد الاحلاف (ابو سفيان) بحيث جعل من بيته مأمناً للائذين به. أما وصيه الكرار عليه السلام فقد اوصى شيعته في نهجه بالقول حين بلغه عنهم يسبون أهل الشام "لا أحبُّ لكم ان تكونوا سبابين، ولكن اذكروا افعال القوم"، وحسب افعالهم خزياً ان يغريهم معاوية بالمعاصي والآثام وتحريف الدين.

اما الوصية الثاني وهي الأهم حين حدد مديات تمسكهم به اذ قال: "اذا امروكم بسبّي فسبّوني فإنه لي زكاة، ولكم نجاة، ولكن لا تتبرؤا مني فإني وُلدتُ على الفطْرة وسبقتُ الى الإيمان والهجرة – وهي هجرة الشرك بحسب تفسير محمد عبدة –".

ومن منطلق ادب امير المؤمنين حيدرة الكرار عليه السلام نحن نطلب بالمقابل من الشيخين الكريمين ان يثقفوا ابناء الامة الاسلامية بأن سبّ الصحابة من بعض الناس هو زكاة لهم وأن سبّهم لا يغير حالهم اذا كانوا على خير (يوم لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذ لله) الإنفطار/82. والا فإن التحريم الذي يطالبون به لا يزيد الا في تكريس الاخطاء بل وعدها سنّة حسنة والعياذ بالله، فدعوا الخلقَ للخالق، وهذه ليست دعوة للسبّ ولكن التحريم باطل بالمبدأ، والسلام.

في المثقف اليوم