قضايا

التحولات في أفكار السياب

saleh alrazukانتسب السياب لمدرستين في الأدب:

الأولى هي مجلة الآداب ذات الهم القومي بنسخة وجودية. وقد عزز من موقعه فيها خصومته الشهيرة مع الشيوعيين والتي اتسمت بالعنفية لحد القذف والتشهير.

ولكنها كانت معركة شخصية لها علاقة بالتنظيم وليس الأفكار. ولم تترك أثرا يذكر على مضمون قصائده. واستمر حتى آخر يوم من حياته يدافع عن السلم العالمي وتحرير الإنسان مع القليل من الدعوة لتحوير المجتمع.

ولقد التقى السياب مع مؤسس وصاحب الآداب وهو سهيل إدريس في موقفه من الغرب. وكان ينظر للحضارة الغربية نظرة تشكك ولا سيما فيما يتعلق بمفاهيمنا عن الفضيلة والشرف والعقد الاجتماعي. ولو قارنت بين جوهر رواية (الحي اللاتيني) باكورة سهيل إدريس وبين قصائد السياب التي كتبها وهو على فراش المرض في باريس سيدهشك الترادف والتوازي. فكلاهما مبهور بالحضارة الصناعية التي سهلت على الإنسان سبل المعيشة. ولكن لم يتأخر أي منهما عن التبرم والشكوى من إهمال البسطاء والمساكين، وتركهم نهبا لإرادة الأقوياء وفريسة للظروف. مع نوستالجيا لحد المرض تغمرها إرادة لا تقاوم لعكس الاتجاه والعودة.. إلى الطبيعة المثنوية القائمة على خصام جغرافي بين الجبل والبحر في رواية إدريس. وإلى خيط الماء (نهر بويب) الذي يشبه في نظر السياب بقدسيته وأسطوريته ما للغانج عند الهندوس. وكأنه خط الحياة نفسها.

في هذا الفراغ كانت شخصيات الرواية والقصائد تبدو اغترابية. ومنفصلة عن نفسها ولا تعيش الا بقوة الضرورة. وتعاني من مشكلة في قراءة المعاني والرموز التي تزيد من غموض الحياة وعقدها. وفي نفس الوقت تقلل من فرص التفاهم مع مجتمع يبدو لهذه الشخصيات طارئا. أو أنه مجموعة من الأوهام والممنوعات. فبطل الرواية يرسم صورة الغرب كأنه ظاهرة من خارج السياق. أو حالة خيالية جاهزة في الذهن. ناهيك أن كل ما حوله متحرك ومتعدد الطبقات بينما هو ينفرد بوضع سكوني لا يقبل التعديل ولا التحول.

وهذا لا يختلف بشيء عن طريقة تركيب نساء السياب في قصائد باريس. فهو يرى بعين خياله الذي أنهكه المرض العيوب والمثالب فقط. وكأن عاصمة النور خطأ وجودي. وعبارة عن عقدة من مصادر الغواية والفجور.

وإذا كنت لا أستطيع أن أرى اتفاقا بين تكتيك الرواية وموقف القصائد فإن الموضوع لا يخلو من تفاهم ضمني حول ضعف الفضيلة وقابليتها للإنكسار في الغرب.

***

المدرسة الثانية وهي مجلة شعر التي اتخذت موقفا ملؤه التشكك من الالتزام في الأدب، ورأت أن وظيفة الفن هي تحريض الإحساس الفني بكوامن الشر في الحياة والإحساس العاطفي بمصادر الدهشة في الطبيعة. وقطعا ليس مصادر الجمال. وبنت على ذلك جهازا متكاملا من المفاهيم لتفسير الرموز على أساس منشأ الحضارات ولم تؤمن ولو للحظة واحدة بموت الحضارة. حتى أنه وصلت في ختام المطاف لاعتماد الأسطورة التي لا تتأثر بتوالي العصور ودورات التاريخ في تبرير المشاكل السياسية. وقد أذن ذلك بقطيعة لا رجعة عنها مع مجلة الآداب.

وبهذا الخصوص تتشابه سيرة البدايات عند السياب وأدونيس.

فقد تعامل معهما الدكتور سهيل إدريس كرمز من رموز الردة الفنية.

مع أنهما في واقع الحال اقتصرا على تحويل الفكرة إلى مرئيات عوضا عن تحويلها إلى صور كما هو الحال عند الوجوديين ( وفي الذهن "صور جميلة" لدوبوفوار و" الجدار" لسارتر)، بمعنى أن الفكرة الشعرية تحولت في قصائد الشاعرين من نشاط ذهن اغترابي وغير متصل بزمنية الظواهر ويخدم وظيفة التعبئة إلى مادة مرئية وملموسة وتحتاج لتأويل.

وأدى ذلك للإنتقال من فلسفة الشيء إلى الحيز أو الفراغ الذي يشغله. ومن هنا بدأ الهم الوجودي يأخذ أبعادا فينومينولوجية ( بحيث أن شكل الفكرة يتطور وينضج بالتدريج ولا يكون جاهزا).

ومن هذه النقطة المفصلية جاء الاهتمام بثقافة الحركة عند أدونيس (صور الأمواج المتلاطمة وتيار الماء الجاري).

ولا أظن أن أحدا لم ينتبه لتركيز أدونيس على البحر وتحولاته. فهو موجود في كل قصائده. بشكل حيز له جماليات تعادل بمضمونها تقلبات جسد المرأة. ومن هنا كان التلازم عنده بين رؤوس المثلث الأوديبي: رمال الشاطئ ومياه البحر والمرأة المستحمة بالشمس أو التي تتعمد برغوة الماء. و هي إحدى الصور التي نشأت منها فكرة أفروديت.

وأعتقد أن السياب شاركه بهذه الاهتمامات ( ثقافة الوقوف على الشاطئ عوضا عن الوقوف على الأطلال).

ولكن أدونيس شخصن البحر واعتبره شريكا وموضوعا للرغبة. وتحدث بالتفاصيل عن جسده وقوامه. واعتمد بهذا المضمار على مبدأ التصعيد حتى أنه تعامل مع الجوهر والصور الكلية بالمفهوم الأرسطي للمصطلح وليس الصور الجزئية. بينما كانت المياه لدى السياب واحدة من البدائل الكثيرة لحالته النفسية. وعليه إن العلاقة هي تحويل وإسقاط. وليست شراكة.

وبتعبير آخر لم يكن يهمه من الماء رموزيته ولا الإيحاءات العشقية التي افتتن بها أدونيس، وإنما قوته التدميرية وعنفوانه وهو يضرب الشاطئ. وميلودراما السياب في تصوير الأمواج الهائجة لا تخلو من الحس المازوشي. تماما كما فعل في (أنشودة المطر) وعلى مرحلتين.. أولا التماهي مع الأرض ليحل محلها وهذا يذكرنا بتماهي جسد المسيح مع ضرورات الحياة ومنها الخبز. ثم تسليط عناصر الطبيعة وأمطارها المدرارة كمصدر للغضب والنقمة على الذات. وهو ما يرادف عقدة التثبيت المسيحية على الصليب التي تختزن معنى الخلاص بالتشهير وبالعذاب العلني.

ولا شك أن الفرق واضح بين السحر الناجم عن الحركة في جسم الصورة والراحة النفسية الناجمة عن أصوات هذه الصور المتكررة ذات الإيقاع الدوري.

وغير قصيدته الشهيرة (أنشودة المطر) أضرب مثالا على ذلك بقصيدته (في السوق القديم). حيث أن التكرار يخدم وظيفتين: الصوت ومعناه. الإيقاع والتأكيد.

من ذلك قوله:

وكان يحلم في سكون، في سكون

وقوله:

ما زال قلبي في المغيب

ما زال قلبي في المغيب.

وقوله أيضا:

والذئب يعوي من بعيد من بعيد.

وهذا التكنيك الذي يشبه ظاهرة الصوت والصدى يستعمل التكرار بطريقة باردة ومقصودة ليعبر عن التجويف النفسي وابتعاد الإنسان بالتدريج عن عاطفته وأمنياته. وهو أسلوب يكثر استعماله في أدبيات صعاليك الرواية الأمريكية و منهم أبطال جون شتاينباك الذي رسم صورة كاريكاتورية لاختلال الميزان في شخصياته، فقد تميزوا جميعا بقدرات عضلية خارقة مع ذكاء محدود. كأنهم روبوتات بشرية.

ولذلك أشتبه لو امتد العمر بالسياب مثل أدونيس لوصل إلى كتابة القصيدة النثرية. وتوجد تباشير على ذلك في قصائده المتأخرة التي كتبها تحت تأثير غيبوبة الموت، حينما تنخفض سلطة الشعور أو الرقابة.

***

إن هذه الانقلابية في أفكار السياب، في كل الأحوال، بالنظر لفنيته تكتفي بالتحول المحدود، أو ما أسميه بالانعطافات المفصلية. وبالمعنى الذي تكلم عنه أرسطو في البويطيقا. فقد كانت تحولاته تقتصر على عالم الصور وليس المادة. أو بتعبير آخر بين الصور الجزئية والكلية. المفهومات والاصطلاحات. الأفكار التي لها منفذ ترانسدنتالي والأفكار الملموسة أو المرئيات.

ومثل هذه التبدلات عبرت، خير تعبير، عن ازدواجية الواقع السياسي في تلك المرحلة (1950-1960). فقد كان الجيش يبيع شعارات قومية، بينما وقفت المخابرات عند خطوط العزل والأمر الواقع ولعبت بإعادة تركيب المعنى أو الكيان السياسي الذي يجب احترامه والدفاع عنه.

وربما من هذه الحقيقة لا تجد عند السياب ولو إشارة واحدة للضد النوعي.

فكل قصائده حملت شعارات وقشور البروباغاندا مع التفسير الدولتي للفن ( انظر قصيدته عن بور سعيد) من غير اهتمام بالمفردات التي وظفتها المعارضة و على رأسهم الإسلاميون.

فأنت لا تجد ولو إشارة واحدة لمطلع النور أو مولد الضياء.

وحتى قصائد المناسبات الدينية ومنها الاحتفال بعاشوراء ومرثيات الأربعين أسقطت على الرمز الديني مجموعة من الأفكار التي تعكس طبيعة أناه الأعلى، وفي مقدمتها حالات السقوط الفردي. وفي هذا المضمار لم يجد فرقا يذكر بين الموت في المعارك أو الانتحار بالسم.

وهذا يبرر الإفراط في الإشارة لمسقط رأسه (جيكور) الذي رسم له بورتريهات ملونة على عادة الفنانين التعبيريين. فهو لم يهتم بالواقع ولا الانطباع الذي يتركه في ذهن المشاهد. ولكن بالمتبقي الذي نعيد تشكيله حسب رغبات الذات ونزواتها.

ومهما كان الأمر لا توجد بنية مدينة في شعر السياب، ولا يمكن لك أن تجد ولو ذرة واحدة من التصميم أو الماكيت المديني في أعماله الكاملة. فقد اختزل (جيكور) إلى فكرة أو رمز. وإلى صفات ذات حمولة عاطفية.

وللتوضيح، لا توجد مقومات شعر المدينة في أي قصيدة من قصائده المتخصصة بالمكان.

ولذلك لم يلتزم بالبيئة المحلية بالمفهوم الجغرافي. وإنما عمل على تجريدها. وتحولت في أشعاره لصورة شاملة تختصر المعاني المشتركة لتجربة التماثل والتعارض. فـ (جيكور) مكان افتراضي تلتقي عنده الخبرات والتجارب وتفترق. أو أنها الذات المفقودة التي يفني الفنانون أعمارهم في البحث عنها.

لقد كانت مصدرا لا ينضب للحركة في حياة السياب وفي شعره. ومجرد رمز تصعيدي يجسمه خياله المريض. و أصبحت تشبه في ذهنه عقدة تثبيت. أو نوستالجيا مرضية.

وربما من هذه الحقيقة وجد الطمأنينة والتوازن في الموت الذي هو نقطة مفارقة. فالروح تفارق الجسد. والجسد نفسه ينفصل عن عالم الأفكار. ورحلتنا مع الحياة تصل لخاتمة إجبارية. وهي توقف الوعي عند خطوط العزل التي تفصل بين الإدراك والحواس. ويمكن أن تقرأ رموز وتراكيب هذه الأفكار في قصائده الشهيرة: المومس العمياء وحفار القبور. وعلى وجه الخصوص رائعته القصيرة (نداء الموت) والتي يقول فيها:

ولا شيء إلا إلى الموت يدعو ويصرخ

وعلى هذا الأساس يمكن تفسير دواعي اختياره لصيغ النداء الكثيرة والمختلفة التي تتردد أصداؤها في كل أشعاره، بحيث هو المنادى والموت هو المنادي, أو أنه الندّاهة بلغة رائد القصة العربية (يوسف إدريس).

 

كانون الثاني 2015

 

في المثقف اليوم