قضايا

حرب الانبياء .. معارك دماء اشعلتها شارلي .. مناقشة فلسفية (1-2)

qassim salihyقانون أزلي، خلاصته ان كل الظواهر .. الطبيعية والاجتماعية تخضع للتطور (التغيّر)، وتكون محكومة بقوانين العلم الذي تنتمي اليه .. فكما ان التغيرات التي تحدث في الطاقة الشمسية تكون محكومة بقوانين الفيزياء .. كذلك الظاهرة الاجتماعية تكون محكومة بقوانين علمي السوسيولوجيا والسيكولوجيا.والتفكير، بوصفه نشاط عقلي منجز من قبل الدماغ فانه خضع ويخضع لتطور محكوم بالقوانين الخاصة بالمعرفة.

ان جوهر ما حصل في فاجعة اربعاء باريس (7/1/2015) يتعدى كونه جريمة قام بها متطرفون انتقاما من صحيفة نشرت صورا تسخر من نبي، الى اشعال النار في ميدان الفكر واعلان المواجهة الصريحة بين الايمان والألحاد .. تلك هي المسألة التي ستفضي الى معارك تسيل فيها الدماء سيسجلها التاريخ بعنوان (حرب الانبياء) .. وأليكم التحليل .. مسبوقا بموجز لتطور الحدث.

في الساعة الحادية عشرة من صباح الاربعاء (7/1/2015) دخل مسلحان مبنى صحيفة (شارلي ايبدو) في باريس وناديا بالاسماء على كادرها بدءا بمديرها وقتلوا اثني عشر شخصا بينهم خمسة من رسامي الكاريكتير الذين نشروا فيها رسوما تسخر من النبي محمد .. وبأقل من عشر دقائق انتهى المشهد الاجرامي الذي وصف بأنه الأكثر دموية في فرنسا منذ اربعين عاما، ولاذ المسلحان بالفرار وهما يهتفان (الله أكبر .. انتقمنا للرسول انتقمنا للنبي محمد) .. وانتهت الدراما بقتلهما على ايدي الشرطة الفرنسية في (9/1/2015).وفي يوم الأحد (11/1/2015) شهدت باريس اضخم مسيرة ادانة وتضامن، قدّرت بملايين يتقدمها رؤساء وممثلو خمسين دولة. وفي (13/ 1/2015) صدر اول عدد من صحيفة (شارلي ايبدو) بعد الحادث بخمس ملايين نسخة بعد ان كان معدل ما تطبعه ستين الفا، و بـ(16) لغة بينها اللغة العربية بعد ان كانت تنشر بست لغات .. تصدرت غلاف العدد صورة للنبي محمد يحمل لافته مكتوبا عليها (أنا شارلي) .. مع دمعتين على الخدين .. وقد اعادت نشره صحف يسارية في اوروبا وتركيا فيما تجنبت صحف امريكية ووسائل اعلام مرئية نشر رسوم ذلك العدد.وقد اصرّ القائمون الجدد على المجلة على مواصلة نهجها في السخرية من الأديان، فيما استنكر الازهر تلك الرسوم التي وصفها بالخيال المريض وبانها منفلتة من كل القيود الاخلاقية، وانقسم العالم الى فريقين .. في تظاهرات ومسيرات مؤيدة لنهج (شارلي) واخرى معارضة ومنددة في دول اسلامية.

لم تكن صحيفة شارلي هي اول من تنشر صورة تسخر من النبي محمد، ففي 30 ايلول (سبتمبر ) 2005 نشرت صحيفة بولاندس الدانماركية صورا ساخرة للنبي محمد، تبعتها في 10 كانون الثاني 2006 صحيفة (مكازنيت) النرويجية ودي فيلت الالمانية وصحف اوربية اخرى باعادة نشر تلك الصور، اثارت غضبا عنيفا تجسّد في احتجاجات شعبية ورسمية كبيرة في العالم الاسلامي .. تبعتها اعمال عنف بينها اشعال النار في مبنى سفارتي الدانمارك والنرويج واحراق القنصلية الدانماركية في بيروت.

كان لتلك الصور هدفان رئيسان، الأول سياسي (رسم رجل ملتحي بعمّة كتب عليها "لا إله إلا الله" وفتيل مربوط بقنبلة) .. ما يعني ان الدين الاسلامي دين عنف، والثاني اخلاقي او قيمي تمثله صورة تشير الى ان النبي محمد كان يضطهد النساء .. ما يعني ان الهدفين يفضيان بالتبعية الى مقارنات بين الأنبياء من جهة وبين الأديان من جهة اخرى!.

 

اعلان المواجهة

ما حدث لشارلي هو البدء باعلان المواجهة الصريحة بين الايمان والالحاد .. بعد ان كانت شبه خفية لأسباب تعود اهمها الى الخوف او الاضطهاد او التصفية الجسدية. وما حصل هو مسألة حتمية ناتجة عن تطور الفكر البشري نصوغها بما يشبه النظرية:ان الضد يخلق ضده النوعي عبر مراحل زمنية تختلف في مددها باختلاف مستويات التفكير وسعة انتشاره .. وتكون بعلاقة عكسية مع تقدم الزمن.

كان التفكير الخرافي هو الأصل .. هو اول مراحل التفكير البشري .. واستغرق آلآف او ملايين السنين ليخلق ضده النوعي المتمثل بالتفكير الديني .. الذي احتاج الى آلآف السنين ايضا ليخلق ضده النوعي المتمثل بالتفكير العلمي .. ومنه ظهر التفكير الالحادي .

من هنا فان واقعة (شارلي ابيدو) ستقدح في التفكير البشري تساؤلات كان مسكوتا عنها نصوغ اهمها بالآتي:

* لماذا لا يسمح الدين بأي مراجعة او تحليل معمق لمقدساته ؟

* لماذا ينسف الدين الجديد الذي قبله؟ وهل اتباع الدين القديم ملزمون أن يؤمنوا بالدين الجديد؟ او أن يتخّذ منهم موقفا معاديا؟ او ينكر عليهم بعض ما يؤمنون به؟

* واذا كان "مصدر" الأديان واحدا، تكون اخلاقها واحدة .. فلماذا الصراع بين الاديان والدعوة الى الحوار بين اتباعها؟.هل هذا " المصدر" لا يستقر على فكر ثابت؟ام ان الأديان كانت فكرة التقطها أنبياؤها فاخترعوا (قوة خارقة) اسكنوها في السماء وقوّلوها تعاليم انسانية نبيلة لا يأتي بها الا من ينفردون بعبقرية استثنائية واخلاص مطلق لـ(اله) خلقوه فصدقّوا به؟.

* ان تاريخ الحرية هو تاريخ نشوء الأديان، وانه بفضل الأديان تحررت ملايين البشر من العبودية، ولكنها خلقت عبوديات أخرى، بما فيها عبودية السلطة التي يأمر رجال الدين بطاعتها حتى لو كانت ظالمة، وبسببها قتل الملايين لخلافات سخيفة .. فلماذا لا يظهر دين جديد يقيم العدل والسلم ويصحح ما حرّفه القائمون على الاديان الموجودة؟هل يئس "مصدر" الدين فنفض يديه من عباده بعد ان تمادوا في التمرّد عليه، مع انه قادر على ان يفنيهم بلحظة كما فعل بقوم عاد وثمود بحسب ما تؤكد الأديان الثلاثة؟

* واذا كان " الله " واحدا، فلماذا كوّنت الأديان صورا ذهنية مختلفة عنه، مع انها من عنده بحسب اتفاقها؟

*ولماذا يركّز دين على صفات:القوة، والجبروت، والبطش، فيما يؤكد دين آخر على صفات:المحبة، والرعاية، والتسامح، ويوازن دين ثالث بين هذين النوعين من الصفات في "الله"؟

* هل اختلاف منظورات الاديان بخصوص طبيعة الله نجم عنه اختلاف منظوراتها بخصوص الطبيعة البشرية؟ام العكس .. اي انهم اسقطو على الله تناقض الصفات في الطبيعة البشرية؟

وستردّ الضفة الأخرى بتساؤلات من هذا القبيل:

* كيف يمكن للطبيعة المادية ان تخلق كائنا بشريا بهذه القدرات العقلية الخارقة من خلية في غاية البساطة؟

* كيف يمكن لهذا الكون الممتلئء بالهائل من المتضادات الكمية والنوعية ان يسير بهذا النظام ما لم تكن هنالك قوة خارقة تدير اموره؟

* ان العلم يخترع وسائل الدمار ويضعها بيد الأشرار، فيما الدين يحترم قيمة الحياة ويقدس الانسان بوصفه خليفة الله في ارضه، فلماذا تدعون الى طريق الهلاك فيما الدين طريق نجاة ومحبة ورحمة، وانه افضل لكم حتى لو كنتم لا تؤمنون به؟

* لماذا يكون ايمانكم مقيدا بحدود ما تعدونه منطقا، فيما هنالك امور لا يستوعبها منطق ولا يدركها عقل .. بما فيها عقلكم العلمي الذي ما كان يصدّق ان الانسان يمكن ان يصل الى القمر؟!

وجميل جدا ان يكون النقاش فكريا بسلاح الحجة تفند الحجة .. وهذا ما سيكون .. ولكن على صعيد العقلاء الذين يبقون القلّة، فيما الغالبية المطلقة سيدفعها التعصب والعصاب الى الانتقام من الآخر.

         (يتبع)

في المثقف اليوم