قضايا

الثقافة العراقية .. وريعية الدولة

ahmad alkhozaiتعتبر الثقافة مرآة تعكس الطبيعة الحضارية للشعوب، وهي جزء مهم من حراكهم عبر مراحل التاريخ، ونتاج للعوامل البيئية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها هذه الشعوب، لذلك لا يمكن أن تنشئ ثقافة لمجتمع بمعزل عن ظروفه المحيطة به والمحركة له، والداخلة في نشأته وتكوينه ... أنتج العراق عشرات المثقفين من أدباء وكتاب وشعراء وفنانون، ساهموا في بناء صرحه الحضاري في العصر الحديث، وشكلوا اللبنة الأساس والعمود الفقري للثقافة العراقية الحديثة التي نشأت بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ميلادي، إلا إنهم خضعوا لمعادلات سياسية ومجتمعية فرضت عليهم الكثير من الاملاءات والإسقاطات الفكرية التي عملت على تكبيل حسهم الإبداعي، وعانى معظمهم صراعا نفسيا وضغوطا سياسية أرادت ادلجتهم وفق مفهوم ورؤية السلطة الحاكمة آنذاك ... لكن بالرغم من كل ذلك نجد ان المثقف العراقي استطاع المناورة والإفلات من الكثير منها، وانتج ثقافة لامست الواقع العراقي بكل تفاصيله وجزئياته في تلك المرحلة، كان لها التأثير الكبير في نشوء حالة من التواصل بين الجماهير وهذا المثقف، حتى أصبحت الثقافة العراقية تمثل سفر وشاهد لكل الأحداث التي عصفت بهذا البلد، من خلال مواكبتها للأحداث برؤية وطنية ناضجة بعيدة عن كل أشكال الانتهازية والنفعية ... إلا إن هذه الجذوة بدأت تخبو في أواسط ستينيات القرن الماضي ومن ثم تلاشت بفعل القيم والمفاهيم الأحادية التي فرضت على المجتمع العراقي، ضمن إطار الفكر الواحد، مما اضطر الكثير من المثقفين الى الهجرة خارج العراق او التزام الصمت خوفا من أن يصبحوا أبواق للسلطة، في مرحلة أصبح كل ما موجود داخل هذا البلد يصب في مصلحة النظام ألبعثي ويدور في فلكه، وأداة دعائية لتمجيد حروبه العبثية التي زج بها هذا الشعب رغما عن إرادته ... بعد التاسع من نيسان عام 2003 ميلادي تغيرت الكثير من هذه المفاهيم في ظل بحبوحة الحرية والديمقراطية الوليدة التي وجدت بعد زوال الصنم، الا ان الثقافة العراقية واجهت مشكلة جديدة لا تقل خطورة عن سابقاتها وهي ريعية الدولة، واعتمادها بنسبة تسعة وتسعون بالمائة على تصدير النفط في وارداتها، مما انعكس سلبا على الثقافة العراقية وتحولها إلى ثقافة ريعية هي الأخرى، فبعد الاعتماد الكلي على النفط في واردات الدولة وتوقف الآلاف من المصانع وتحول معظم الأراضي الزراعية إلى أراضي بور غير منتجة، بسبب إهمال الفلاحين لها واعتمادهم على مصادر للرزق أسهل واقل عناء من مهنة الفلاحة، أصبحت ثقافة برج النفط هي السائدة على ثقافة النخلة والمصنع، وهذه النمطية الاقتصادية لا تولد إبداعا فكريا لدى مجتمعاتها، لذلك تحولت الثقافة العراقية إلى ثقافة سوداوية مأساوية تنقل الواقع المأساوي الذي عاشه ويعيشه الشعب العراقي في ظل الحروب والاحتلال وسطوة الإرهاب وإفرازات الاحتراب الداخلي بكل أشكاله ، وهي بالتأكيد ثقافة غير منتجة بعد ان غاب عن أبجدياتها، الفلاح وأرضه والعامل ومصنعه والطالب ومدرسته، ولا نجد فيها غير الحروب والموت واليتم، هناك قول مأثور يقول (الأمة التي لا تنتج غذائها لا تنتج ثقافة)... المثقف العراقي يعيش الآن حالة من الارتباط الاارادي مع عقدة الماضي القريب، ولا زال وعيه الثقافي يجتر ما عاناه مجتمعه من حروب وانتكاسات في العقود القليلة الماضية، كونه كان ولا يزال جزء فعالا من هذه المرحلة العصيبة التي لا زال يمر بها العراق، وقد عاش تفاصيلها في حالة وعي ناضجة تختلف عن الكثيرين ممن حوله، وحين أتيح له المجال أن يكتب بحرية وبدون قيود او بوابات سوداء، لم يجد مادة دسمة ينهل منها في واقعه الحالي غير المأساة، فجادت قريحته بثقافة بكائية كان الحزن والموت والدماء عنوانها العريض ... إنها ليست مشكلة المثقف لوحده بل هي مشكلة دولة اعتمدت على النفط كوسيلة وحيدة لمعيشة شعبها،وعطلت مرافق الحياة في هذا البلد، وجعلت العراق بكل ارثه الحضاري والإنساني رهين بهذه المادة السوداء .

 

احمد عواد الخزاعي

في المثقف اليوم