قضايا

"قمة" واطئة

mutham aljanabiإن مفارقة "القمة العربية" الأخيرة تقوم في تحويلها كلمة القمة بحد ذاتها إلى هوة تبتلع الحروف والصدى والمعنى. مع ما يترتب عليه من تخريب مخز حتى للكلمات. أما "الخطاب السياسي" "للملوك" و"الرؤساء" فان بعض منها يمكن النظر إليه على انه نموذج كلاسيكي للتخلف الثقافي والعقلي. وعموما انه حتى كلمة "القمة" هنا مستعارة من قاموس الغرب السياسي، تطابق مع قيمة الحدث وأشخاصه. بينما تتحول في اجتماع "الرؤساء والملوك والأمراء العرب" إلى رديف للحفرة الخربة. وذلك لان "القمم العربية" واطئة دوما. ومع كل صعود في الزمن هبوط في المرتفع! وهي مفارقة يعجز العقل عن إدراكها بمعايير العقل والمنطق! والسبب يكمن ليس في تعقيدها بل وضوحها الجلي. وعندما تكون الأمور الجلية موضوعا للجدل والنقاش، عندها تنقلب الأمور جميعا ويكف العقل عن رؤية الأشياء كما هي. وليس مصادفة أن يشم البعض في العفن الوهابي "رائحة عربية"! إلا أن هذا لا يغير من حقيقة الأشياء، القائلة، بان القمم العربية ليست قمما بالمعنى البلاغي للكلمة، كما أنها لا تحل شيئا، بل تعّقد، وان نتائجها على الدوام هروبا وتغطية للهزائم. ومن ثم فان الشعوب العربية لا تثق بها. والسبب جلي أيضا وهو أنها اجتماعات بلا إجماع، ومن ثم لا اثر ولا فعل لها باستثناء إشارتها إلى ما يمكن دعوته بالخط البياني للتراجع والتقهقر مع مرور الزمن. وبالتالي، فإنها تعكس ما وضع في لبناتها الأولى.

وقد أشار إلى ذلك ساطع الحصري قبل عقود طويلة، عندما اعتبر الجامعة العربية ونموذجها العملي مجرد أسلوب للتفكك والتراجع، وذلك لان قادتها من أهل مصر عادة ما يتنازلون عن ابسط ما فيها ويحولونها إلى صالة للكلام والثرثرة. وهي الحالة التي يمكن رؤيته على نموذج "نبيل العربي"، بحيث يتحول اسمه ولقبه إلى مهزلة "بيان" جلية. فهو "يخطب" والملوك والرؤساء تخرج من القاعة. وهم يتصافحون ويودع احدهم الآخر في القاعة بينما يعرب العربي نبال الكلمة! أي إننا نعثر في هذه الصورة الحية المنقولة مباشرة عبر شاشات التلفيزيون، على "تناسق" غريب وتافه بقدر واحد. إننا نعثر فيه على كل مقومات الديكور المتكامل لمسرح لا مستمع فيه! بحيث تتحول أجمل الكلمات فيه إلى مجرد ثرثرة لا معنى لها.

إننا نعثر في هذه الصورة الواقعية والحية في النقل المباشر عن مباشرة لا كذب فيها تدل على ما كانت تسعى إليه هذه القمة، شأن سابقاتها: تأدية "الواجب" بالظاهر والخروج بما في الباطن. والباطن واضح وجلي أيضا فيما أطلق عليه عبارة "عاصفة الحزم" بالتعبير السياسي، و"الرائحة العربية" بالتعبير "البلاغي". أما في الواقع فان التعبير السياسي يعادل بمعايير الواقع عاصفة صحراء جديدة. بمعنى إذا كانت الأولى أمريكية، فالثانية سعودية، وإذا كانت الأولى كولونيالية فالثانية كولونيالية بالوكالة. وكلاهما يفوحان بعبق "الحرية" و"الشرعية"، أي العبودية والاستحواذ. وكلاهما تخريبيتان. لكنهما يبقيان في نهاية المطاف جزء من الحالة العربية ونوعية الخراب الكامنة والقائمة فيه ما لم يجر تطهيره من قوى التدخل والاحتلال الخارجي والداخلي (الأمريكي – الصهيوني والسعودي). والمعركة في بدايتها. وبداية الحرب والمواجهة رائحتها. ومن ثم لم تكن "الرائحة العربية" التي سبقت "عاصفة الحزم" وتزامنت معها سوى عجاج الغبار الرملي وبعر البداوة. وإذا كان هناك من يتذوق فيها "رائحة عربية" فهذا كما يقال شانه. وذلك لان للعربية روائح عديدة، كما أن للغة العربية مستوياتها. لكنها حالة تشير إلى ما يمكن دعوته بنوعية وكمية الانحطاط العقلي والأخلاقي والجمالي الذي يجد في رائحة البداوة المتخلفة طعما يضاهي معنى العربية والعروبة. أما في الواقع، فانه وجود لا وجد فيه ولا وجدان. كما انه جزء من نفسية مخذولة ومرذولة بمعايير العقل والمستقبل. والخيال المريض، كما يقال، عريض بالخزعبلات، تماما كما أن عمى القلب والضمير لا ينتج غير كلمات فارغة.

إن مفارقة "القمة الواطئة" وغرابتها وتفاهتها في الوقت نفسه تقوم في وضوح النتيجة وصعوبة اختيار عنوانها! وقد يكون ذلك جزء من سريالية سعودية خليجية قد تنتج لنا صورا على غرار ما أنتجه سلفادور دالي، ومسرحيات على غرار (مسرحية بدون عنوان) لغارسيا لوركا! وموسيقى وبحوث وأعمال فلسفية وبيانات فنية!!

غير أن هذا الأمل يقطعه عمل العواصف الصحراوية. فالمعروف أن الصحراء لا تنتج بل تبتلع! والخليج والسعودية هي أسماء بلا هوية. وأقصى ما يمكن تأويله بهذا الصدد هو مجرد بحث عن جذور قبلية بدوية! وبالتالي فان الحد الأقصى لماهية "عاصفة الحزم" هو ابتلاع صحراء نجد لجبال اليمن! وهو أمر مستحيل! والعكس ممكن. غير أن هذه قضية المستقبل. وللحرب كما يقال تداعياتها. أنها تبدأ بتخطيط وتنتهي بتخليط. وبما أن التخطيط السعودي يجري رسمه بالعقال الأسود وليس بالعقل، وعلى غطاء ابيض وليس على تضاريس الوجود الجيوسياسي والاجتماعي المعقد، فان أقصى خياله لا يتعدى حدود الرمال المثارة في جمجمة غبية. ومن ثم لا ينتج في نهاية المطاف غير خلطة لا يفقه آل سعود أنفسهم مكوناتها ونتائجها. لكنهم سيرون نتائجها المفجعة قريبا.

***

 

في المثقف اليوم