قضايا

النفس ونوازع الدمار!!

النفس البشرية ذات نوازع عدوانية كامنة لم تنجح تماما في تهذيبها الشرائع السماوية والوضعية، وبسببها وضعت القوانين الصارمة للجم جماحها، والسيطرة على السلوكيات الناجمة عن طاقاتها التواقة للدمار والخراب.

ومنذ أن بدأ البشر حياته فوق التراب وحتى اليوم تتجسد هذه العدوانية في تصرفات لا تحصى ولا تعد، من العدوان الفردي إلى الجماعي الذي يصل ذروته في الحروب، التي لم يخلو منها عصر من العصور أو جيل من الأجيال في أي مكان وزمان.

والتأريخ يزدحم بمعاني وتعريفات النصر بأنه الإنقضاض على الآخر وترجمة أقصى العدوانية والوحشية بحقه، من قتل ونهب وسلب وإحراق للممتلكات وسبي للنساء والأطفال، وما يتصل بها من البشائع والخطايا والآثام، التي تحسب نصرا وفخرا وقوة ونفوذا، وتشترك في هذا السلوك البشرية كافة وبلا إستثناء،

والفظائع العدوانية تذهل مَن يتأملها ويدرسها، وكانت الحرب العالمية الثانية من التعبيرات العدوانية الفائقة، التي تحققت في دول أوربا حيث قتل الملايين وسبي الملايين ودمرت المدن وأحرقت، وإزدحمت أيامها بما لا يخطر على أذهان البشر في وقتها، حتى ختمت بإلقاء القنابل النووية على مدينتين في اليابان.

وبعدها في العقود الستة الماضية جرت جرائم مروعة بحق الإنسانية في مناطق متعددة في العالم، ولا تزال مسيرة الفظائع العدوانية قائمة في الأرض وبوتيرة غير مسبوقة.

ويبدو أن النوازع البشرية ذات طبائع نارية وتلذذية بالنيل من الآخر، والإستئثار بما عنده ويمت بصلة إليه، فالنصر لا يكون نصرا إن لم تحرق المدن وتقتل البشر وتسبي وتهين، ففي سابق العصور كان النصر يحسب بعدد الرؤوس المقطوعة والغنائم، واليوم بدمار المدن وقتل البشر، وإرتكاب الإبادات الجماعية بحق الأبرياء، وحرق بيوتهم ومدنهم وتقتيل أبنائهم، بل وحتى سبي نسائهم وأطفالهم، والإستحواذ على ممتلكاتهم، ولا فرق بين أن يكون المستهدف من ذات العقيدة والدين والوطن، المهم أنه صار يحمل توصيفات تضعه في خانة الأعداء.

فالبشر يتلذذ بالحريق وبالإحراق، لأنه لا يتخيل بأنه سيحترق بنار لأنها توجعه، وعندما يحرق غيره ينتابه شعور بأنه القادر والمقتدر، فيكتسب وهم القوة ولذتها المتغطرسة.

كما أنه عندما يقتل تتولد فيه طاقات جديدة ونوازع شريرة ذات تطلعات إدمانية على أن يتواصل في القتل، فتراه يكون صاحب قدرات إندفاعية منفلتة لتكرار القتل، لأنه يمنحه وهمَ القوة والتسلط وإنجاز الموت الذي يرعبه، فيتصور بأنه صار الذي يميت ولا يموت.

وعندما يكون الفاعل أكثر من فرد، أو جماعة، فأن هستيريا الإندفاع نحو القتل ستزداد بشاعة، ويطغى عليها نوع من الإنقطاع عن الذات أو الواقع الإنساني، وتبدو الضحايا وكأنها لا تمت إلى البشر بصلة، وإنما يتم تصورها حالات أخرى لا بد من إبادتها، وهذا يفسر البشائع المرعبة التي يتم إرتكابها بحق الناس.

وهذه السلوكيات لا يمكن حصرها في مجتمع من المجتمعات، وإنما هي ظاهرة بشرية عامة وعارمة، يمكنها أن تحصل في أي مجتمع مهما توهم التحضر والتقدم، فحالما يضعف القانون وتغيب الدولة، فأن العدوانية البشرية ستنفلت وستعبر عن وحشيتها وجنونها الدموي الفتاك.

ولولا القوانين الرادعة لما تمكن البشر من الحياة في أي مجتمع، لأن ما يتوفر لديه من سلاح، لو إنفلت فأن جنون القتل سيطغى في كل مكان، وسيبيد البشر أنفسهم بأنفسهم، فما تنتجه مصانع الأسلحة من أدوات قتل تكفي لقتل أضعاف البشر الموجود في الأرض.

وهذا السلاح إنما هو قوة معززة للعدوانية الكامنة في النفوس، ويؤهلها لترجمة ما فيها بسهولة وسرعة غير مسبوقة وبجهد قليل، فالقتل لا يكلف إلا الضغط على زناد.

ومن المعروف أن العديد من الناس لديهم دوافع لا سوية أو سايكوباثية، والقانون وحده هو الذي يكفي المجتمعات من شرورهم، وبغياب القانون فأنهم ينفلتون، ويقودون المجاميع للقيام بأغرب الجرائم والأعمال ، لأن ما في الآخرين من قدرات عدوانية ستتفاعل بآليات جماعية وتتطور لتتماهى مع رغبات الفاعل السايكوباثي.

ولا يمكن لدين مهما أراد أن يردع النفس السيئة عندما تكشر عن أنيابها وتنفلت من عقالها، ولا يصمد أمام إنبثاقها أي بشر يحسب نفسه صاحب أخلاق ودين ويعرف ربه، لأنها ستخلعه من ذاته وترمي به في أتون أجيجها المتنامي، وستؤجج فيه رغبات لا يدريها وتوقظ في أعماقه حاجات ما عرفها من قبل ولا تصورها.

وعليه فأن أي حرب مهما كانت صغيرة أو كبيرة في رقعتها وحجمها، فأنها ستكون مترافقة مع بشائع ومفاجآت قبيحة ومخزية ومشينة، لأن النفس السيئة قد تحررت من قبضة التحكم بها وردعها، وتحولت إلى وجود مطلق لا يخضع للمحاسبة لأنه في مدينة الغاب سيكون هو القانون.

ومَن يتخيل أن الإنتصارات لا تخلو من الفواحش والجرائم الكبيرة، المناهضة لأبسط القيم والمعايير فأنه على وهم كبير، ومَن يحسب أن الدين برموزه قادر على ضبط النفس الأمارة بالسوء، فهو في بهتان عظيم، فالحروب لا تعرف دينا ولا قانونا، فدستورها وقانونها القتل والدمار وإشعال النيران، لأن الإنتصار معناه في المخيلة البشرية الجمعية هو محق الأوطان والبشر والعمران، وفي داخل الوطن يعني محق المدن وإبادة الإنسان!!

فهل أنتم منتصرون أم مدمرون؟!!

وفي الختام هذه أبيات من قصيدة طويلة للشاعر أبو تمام يصف بها معركة عمورية وهي تلخص معنى النصر في وعي البشر.

"لقد تركتَ أميرَ المؤمنين بها

               للنار يوما ذليلَ الصخر والخَشبِ

غادرتَ فيها بَهيم الليلِ وهو ضُحى

                 يَشُله وَسْطها صبحٌ من اللهبِ

حتى كأنّ جلابيبَ الدّجى رَغِبَتْ

         عن لونها وكأنّ الشمسَ لم تغبِ

ضوءٌ من النارِ والظلماءُ عاكفةٌ

       وظلمةٌ من دُخان في ضُحى شَحِبِ"

 

د-صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم